حديث الجمعة 169: في ذكرى الشهيد الصدر – لماذا هذا الاستفزاز؟
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وأفضل الصلوات على سيد الأنبياء والمرسلين محمد وآله الطاهرين
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
في ذكرى الشهيد الصدر:
تمّر هذه الأيام ذكرى الشهيد السيد محمد باقر الصدر وذكرى شقيقته السيدة بنت العدى رضوان الله عليهما.
لقد نال وسام الشهادة، وما أعظمه من وسام لا يناله إلا الذين عاشوا العشق مع الله سبحانه، فأعطوا الدم تعبيرا صادقا عن هذا العشق … ليس كل دم هو دم شهادة، الدم حينما يكون من أجل الله تعالى، من أجل دين الله من أجل قيم الله، من أجل عشق الله فهو الدم الذي يحمل وسام الشهادة.
كان الشهيد الصدر يردد دائما وخاصة في أيامه الأخيرة هذا الدعاء:
(( اللهم إنّي أسألك بحق محمد وآل محمد أن ترزقني الشهادة وأنت راض عنّي، اللهم إنّك تعلم أنّي ما فعلت ذلك طلبا للدنيا، وإنّما أردت به رضاك، وخدمة دينك، اللهّم ألحقني بالنبيين والأئمة والصديقين والشهداء وأرحني من عناء الدنيا)).
رحمك الله يا أبا جعفر كم عانيت وعانيت وتحملت أقسى المحن والشدائد والابتلاءات وأنت تعيش في ظل نظام جسّد أسوء ألوان الظلم والقهر والعبث بالحقوق والكرامات، كم عانيت وعانيت وتحملت وتحملت وصبرت محتسبا، متوكلا على الله، واثقا بلطف الله مشدودا إلى لقاء الله.
هكذا كنت تلهج بالشهادة، ليس فرارا من مسؤوليات العمل والتصدّي والمواجهة، وإنّما لأنّك ترى في الشهادة، وفي دم الشهادة ما يعطي للأمة روح المواجهة والتصدي لتتحرر من ذل عبودية الأنظمة الجارة الظالمة، أردت أن يكون دمك – كما كان دم جدك الحسين عليه السلام – يعطي للأمة معنى الكرامة والإباء والعزة، ويصنع منها روح الشمم والكبرياء والشموخ، ويضعها أمام فجر النصر والفتح والانطلاق.
نعم كنت تعشق الشهادة، وكنت ترى في الشهادة أعظم نصر…
في ليلة من لياليه الأخيرة، استيقظ وهو يحمل نشوة كبيرة ملأت كلّ مشاعره، حوّلته روحا هائما في آفاق الملكوت الربانية، أنّسته آلام الأرض وهموم الدنيا… كان يردد وقد استيقظ من حلم ليس كالأحلام، كان يردد: ابشر نفسي بالشهادة إن شاء الله..
قال له النعماني: خيرا إن شاء الله
قال: رأيت في عالم الرؤيا أنّ خالي المرحوم الشيخ مرتضى آل ياسين، وأخي المرحوم السيد إسماعيل الصدر، قد جلس كلّ واحد منهم على كرسي وتركوا كرسيا لي بينهما، وهما ينتظرون قدومي إليهما، ومعهما ملايين البشر ينتظرون أيضا، ووصفا لي النعيم وما هما فيه من سعادة لا تتصور.
فقلت (أي النعماني) لعل هذه الرؤيا تدّل على الفرج والنصر إن شاء الله
فقال الشهيد الصدر: إنّ الشهادة أعظم نصر إنّ شاء الله
وهكذا ذاب السيد الصدر في الله، واشتد انقطاعه إلى الله، طالبا إلى رحمة الله ومغفرته ورضوانه، وشوقا إلى لقائه، فكان لا يفتِر لسانه عن ذكر الله، وتسبيحه وتعظيمه، وكان أكثر ذكره ((سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر))، وكان لا يفارق القرآن تاليا ومتدبرا، وكان العابد، الراكع، الساجد، المتهجد، الخاشع، وكان في أيامه الأخيرة دائم الصوم…
وتم اعتقال السيد الصدر الاعتقال الأخير وقد أعلن آخر كلمة له:
(( أنا أعلن لكم يا أبنائي أنّي صمّمت على الشهادة، ولعّل هذا آخر ما تسمعونه منّي، وأنّ أبواب الجنة قد فتحت لتستقبل قوافل الشهداء حتى يكتب الله لكم النصر…) وما ألذّ الشهادة التي قال عنها رسول الله صلى الله عليه وآله، أنها حسنة لا تضر معها سيئة، والشهيد بشهادته يغسل كل ذنوبه مهما بلغت.
في الأسبوع الثاني من نيسان (ابريل) عام 1980م.. كانت الجريمة الكبرى التي ارتكبها طاغية هذا العصر صدام، حيث أقدم على، على إعدام الشهيد الصدر وأخته العلوية الشهيدة بنت الهدى.
وفي ليلة هي الأسوء في تاريخ العراق الحديث جاء جلاوزة النظام إلى مدينة النجف الأشرف وفي ظلام الليل الدامس، وقد قطعوا التيار الكهربائي عن المدينة، جاءوا خلسة – وفي درجة عالية من التكتم والسرية – إلى دار الحجة الكبير السيد محمد صادق الصدر – كبير أسرة الصدر في وقته – وطلبوا منه الحضور إلى بناية المحافظة، وكانت المفاجئة المروّعة: وجد أمامه جنازة الشهيد الصدر، مضرّجة بالدماء وآثار التعذيب تملأ الجسد الطاهر، لك الله يا أبا جعفر فقد واسيت جدّك الحسين الذي مزّقت جسده السيوف والسهام والرماح، وهشمت أضلاعه الخيول، ووقع في قلبه سهم مثلث.
ثم هددّوه بالإعدام إذا أخبر عن إعدام السّيد الصدر.
وأخذوا الجثمان الطاهر وبصحبته السيد محمد صادق الصدر، ودفن في مقبرة وادي السلام.
أما الشهيدة الطاهرة بنت الهدّى فلم يسلّموا جثمانها الطاهر، والله أعلم كم نالت من عذابات، وكم لعبت في جسدها وسائل التعذيب، وكم مزّقت صدرها وقلبها وجبهتها رصاصات الغر والإجرام وظل أمرها لا يعلمه إلا الله وأولئك الجناة وظل قبرها مخفيا، وهكذا أبت إلا أن تشارك جدتها الزهراء عليها السلام في ظلامتها وفي خفاء قبرها.
أما قبر الشهيد الصدر فظل مخفيا، ولكن شاء الله تعالى أن يظهر ذلك القبر، وحسب ما جاء في كتاب (( وجع الصدر)) وهو عبارة عن مذكرات للسيدة فاطمة الصدر أم جعفر زوجة الشهيد الصدر بقلم الكاتبة أمل البقشي.. جاء في الملحق الأول من ملاحق هذا الكتاب (( قصة نقل جثمان الصدر)) مفصلة.. الشخص الذي يروي القصة اسمه (( السيد كامل العميدي)) من الدفانين العاملين رسميا في مقابر وادي السلام في النجف الأشرف وكان معروفا لدى كبار العلماء والمراجع، وهو أحد المتفانيين في شخصية الشهيد الصدر، أستطاع هذا السيد أن يتعرف على الدفان المعتمد عند السلطة والذي باشر دفن الشهيد الصدر، واستطاع من خلاله أن يتعرف على موضع القبر، ووضع له علامة مخفية، وبعد عدة سنوات وخوفا من أن تمتد يد النظام الجائر إلى القبر الشريف قام السيد العميدي بخطوة جريئة تتمثل في نقل الجثمان إلى مكان آخر خفي على السلطة بعد أن استفتى كبار العلماء والمراجع وتم تنفيذ الخطوة بمشاركة مجموعة من المؤمنين بعيدا عن عيون المجرمين وذلك في سنة 1994م، وعندما حفروا القبر وجدوا الجثمان ملفوفا بكفن لم يتغيّر نسيجه تقريبا وان تغير لونه بسبب التراب، وقد مضى على جفن الشهيد الصدر أربع عشرة سنة، ووجدوا الجسد الطاهر في داخل الكفن لم يطرأ عليه تغيير، وكانت تفاصيل البدن واضحة من خلف الكفن، وكان الكفن من جهة الرأس مصطبغا ببقع كثيرة من الدماء الجافة.
يقول العميدي: ولما نفضت التراب والغبار عن الرأس بان لي ذلك الوجه النيّر الشاحب في الوقت نفسه، هالنا ما رأينا: رأينا اللحية الشريفة قد أحرقت، ولم يبقى إلا شعيرات، ووجدنا شيا آخر انصدعت له قلوبنا، كان ذلك أثر رصاصة لئيمة اخترقت جبهته الكريمة فوق إحدى العينين، فأحدثت ثقبا غائرا وصدعا واضحا في الجمجمة، وكان البدن هزيلا شاحبا، ورفعت الكفن القديم لأغيره بكفن جديد، فبان لي بطن الشهيد وإذا به قد طعن عدة طعنات والدم متجمد حولها وفوقها.
ثم نقل الجثمان إلى المثوى الجديد ووضعت له علامة مميزة، وعرف بعض كبار العلماء موضع القبر وصاروا يزورونه في تكتم شديد.
وبعد ثلاث سنوات تم نقل الجثمان مرة ثانية إلى موقع آخر، خوفا أن يكون قد اكتشف خبره.
وحدث نقل ثالث، ورابع، بعد سقوط النظام حيث استقر الجثمان الطاهر في المثوى الأخير عند مدخل النجف، ويجري العمل لإقامة صرح علمي ضخم جدا في هذا الموقع باسم الشهيد الصدر رضوان الله عليه.
وهكذا بقى الشهيد الصدر رمزا شامخا يتحّدى الطغيان، وبقى دمه وقودا لكل الأحرار والثوار.
وإذا كان الشهيد قد أعطى دمه الطاهر قربانا من أجل الله في الأسبوع الثاني من نيسان (ابريل) عام 1980م، ففي الأسبوع الثاني من نيسان (ابريل) عام 2003م سقط نظام الطاغية صدام في بغداد،
إنها لعبرة لم يعتبر من الحكام والطغاة والظالمين، فمهما طال عمر الظلم والقهر والاستبداد فالنهاية قادمة لا محال بإذن الله تعالى.
لماذا هذا الاستفزاز؟
ما جاء على لسان أحدهم في جريدة الوطن ردا على حديث الجمعة لسماحة الشيخ النجاتي حفظه الله كان كلاما ظالما وسيئا للغاية، ولنا حول هذا الكلام بعض ملاحظات:
أولا: لماذا هذا التشنج والانفعال والانفلات في التعبير إلى درجة إساءة الأدب مع أحد العلماء الأجلاء؛ لمجرد أنّه عبّر عن رأيه في قضية من قضايا هذا الوطن، لا مشكلة في أن يتصدى من يُناقش هذا الرأي أو ذاك الرأي وأن ينتقد وأن يحاسب، ولكن أن تتحول اللغة إلى سباب وشتائم وقذف وإساءات واتهامات ظالمة فهذا مرفوض كل الرفض، ولست في صدد الرد على ما جاء في تعبيرات هذا المتكلم من ألفاظ سيئة للغاية، وإن دل على شيء فإنما تدل على فقد التوازن وفقد السيطرة على المشاعر إلى حد أشبه بالهذيان.
ثانيا: في هذا الكلام استفزاز طائفي خطير، فكل العبارات معبئة بهذا الاستفزاز الطائفي، ومشحونة بهذا الغثيان الطائفي.
إلى متى يبقى هذا النغم النشاز يتردد، ليؤجج أجواء الكراهية والعداوة بين أبناء هذا الوطن الذين عاشوا التآلف والمحبة تاريخا طويلا إلى أن جاء من يضرب على أوتار الطائفية البغيضة، بل ويمارس الإقصاء الطائفي .. كفانا استنفارا طائفيا، فلن يدمّر هذا البلد إلا هؤلاء الذين لاهمّ إلا البكاء والعويل لمجرد أن تنطلق كلمة هنا أو كلمة هناك لتحاسب بعض الأوضاع حتى لو كانت هذا الكلمة عاقلة وهادئة ومؤدبة، أنا لا أريد أن أدافع عن أي كلام يقال في محاسبة أوضاع البلاد فربما لا يكون الكلام عاقلا أو هادئا أو مؤدبا أما أن يتحدث عالم جليل، أو خطيب محترم أو ناشط عاقل وبكلّ صدق وإخلاص ليطالب بحقوق أو يحاسب أو ينتقد، فلماذا هذا الانفعال؟
ولماذا بمناسبة أو غير مناسبة ينبرى (( أبطال الطائفية)) وهم أشخاص معروفون في هذا البلد ليمارسوا ((التحشيد الطائفي))، ((والتأجيج الطائفي)) ؟
ثالثا: مافتأ هؤلاء يحرضون السلطة ضد طائفة كبيرة من أبناء هذا الوطن، نتساءل لماذا هذا الإدمان على التحريض؟ ومن وراء هذا التحريض؟ وما هي أهدافه؟
إلم تعبّر هذه الطائفة بكل علمائها ورموزها ومواقعها وجماهيرها – وفي أصب المنعطفات – عن ارتباطها بهذه الأرض وولائها لهذا الوطن؟
قلنا: نعم لاستقلال البحرين .. وسوف نبقى نقول: نعم لاستقلال البحرين
قلنا: نعم للعملية السّياسية مادامت تتجه لإصلاح الأوضاع.. وسوف نبقى نقول (نعم) لأي مشروع سياسي جاد وصادق يهدف إلى إصلاح الأوضاع، وهذا لا يعني أن نكون عبيدا أذلاء نصفق لأي مشروع وان كان فيه ظلم وجور وحيف.
وهذا لا يعني أن نكون أبواقا نمجدّ العبث بالحقوق، ومصادرة الحريات
هل المطلوب: إمّا أن نكون مصفقين، ممجدين، خانعين، وإلا فنحن لا نملك ولاء ، وإلا فنحن ضد ولاة الأمر.
أصبحت (( مقولة ضد ولاة الأمر )) مقولة جاهزة يحركها أبطال التحريض متى شاءوا ومتى أرادوا.
أن نطالب بحقوقك السّياسية فهذا يعني أنك ضد ولاة الأمر!!
أن تحاسب الأوضاع الخاطئة فهذا يعني أنّك تحرض ضد ولاة الأمر!!
أن تقول: لا للفساد السّياسي، والفساد الإداري، والفساد المالي، والفساد الأخلاقي، فهذا يعني أنّك، متآمر ضد ولاة الأمر!!
قد يقال: أليس هناك من يحّرض ضد السلطة، ومن يحرض ضد ولاة الأمر؟
أقول: هناك من هو ناقم لأسباب يراها مبرّرة لهذا النقمة، وهناك من هو يائس، لقراءة قادته إلى هذا اليأس..
وربّما قادته هذه الأسباب وهذه المبررات – بعض النظر عن الصحة أو الخطأ – إلى الغضب، إلى الرفض، إلى المواجهة.
ربما دفعة ذلك اعتماد أساليب يعبر من خلا لها عن غضبة، ورفضه ومواجهته.
أنا لا أريد أن أقول -هنا -: أنّ كلّ أسلوب هو صائب…
فقد يكون الأسلوب صائبا، وقد يكون خاطئا، ولكن الفارق كبيرا جدا بين أن نحاسب الأساليب وان يتهم الدوافع.
ما درج عليه ((أبطال التحريض والفتنة)) و ((أبطال الطائفية))، هو اتهام الدوافع واتهام النوايا، حتى لو تحركت أنّةٌ موجوع من الجوع، لقالوا إنه يحرض ضد السلطة، وضد ولاة الأمر، ولقالوا: أنّهُ في أنينه، وفي توجعه يعبر عن حسٍ طائفي، فكيف إذا كان الأمر خطاب مسجد أو خطاب منبر ديني أو ثقافي أو اجتماعي أو سياسي؟ وكيف إذا كان الأمر مسيرة، إضرابا، اعتصاما؟
لتكن أساليب التعبير مفتوحة مادامت مشروعة، ومادامت نظيفة، وليس معيار المشروعة والنظافة أن لا تكدر خاطر السلطة، وأن لا تزعج النظام ثمّ إنّ محاسبة الأساليب أمر مفتوح أيضا، ولكن ما نؤكد على رفضه هو هذا الهوس في الاتهام لأي أسلوب، وهذا الجنوح المفرط في اعتبار أيّ نقد لممارسة السلطة وأيّ خطاب يتحدث عن هموم الناس، وآلامهم، وعذاباتهم، وأي تحريك لملفات عالقة تشكل حالات تأزم واحتقان، اعتبار كلّ هذا تحريضا ضد السلطة، وتمردا على ولاة الأمر
هذا التهتك إذا استمر فسوف يرشح إلى مزيد من الأزمات ، ومزيد من الكوارث ومزيد من الصراعات التي تهد أمن هذا البلد واستقراره وهدوئه.
إننا من منطلق الإخلاص لهذا البلد نتوجه إلى المسؤولين أن يسكتوا تلك الأصوات التي تحرض السلطة ضد طائفة من أبناء هذا الوطن، أو ضد فريق أو ضد خطاب.
ونحن مدعون جميعا أن نتعاون من أجل إصلاح الأساليب، وترشيد الوسائل ولن يتم ذلك إلا من خل الحوار الجاد والهادف، ومن خلال الثقة وحن النوايا، وليس من خلال العنف والقمع، وليس من خلال الاتهامات الجاهزة، وليس من خلال خطابات الفتنة والتحريض.
وأخيرا أقول:
إن سماحة الشيخ النجاتي في خطاب الجمعة كان ناقدا للوضع وليس في مقام التحريض، ما عرف عن سماحته أنه داعية أمن واستقرار، وصاحب عقل وحكمة فليس صحيحا أن يساء إليه بهذه الطريقة، ونخشى أن يكون وراء هذا الأمر مشروع يستهدف كلّ الذين يتعرضون للأوضاع بالنقد والمحاسبة، ثم إن حديث المعتقلين، حديث تناولته الكثير من الجهات والأطراف الدينية والسياسية والحقوقية.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين