دراسة في حياة الشهيد الصدر
بسم اللّه الرحمن الرحيم
الحمد للّه ربِّ العالمين والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا وحبيبنا وقائدنا محمد وآله الهداة المعصومين
تمر بنا هذه الأيام ذكرى استشهاد العالم الرباني الكبير السيّد محمد باقر الصدر رضوان اللّه عليه،وقد شاءت إرادة اللّه وحكمته أن تكون الأيام شهدت دم الشهيد الصدر هي نفسها الأيام التي تشهد سقوط نظام الطاغية صدام الذي مارس بيده الملوثة جريمة قتل الإمام الصدر.
وإنه لدرس كبير يجب أن تستوعبه كل الأنظمة الظالمة، فمهما طال عمر الظلم والجور والاستبداد فإنَّ دماء الشهداء لن تهدأ حتى تسقط الأنظمة وتنتهي عذابات الشعوب.
حديثنا عن الشهيد الصدر يتناول مجموعة نقاط:
٭ ولادته ونشأته.
٭ شريكته في الجهاد الشهيدة بنت الهدى
٭ محطة الشهادة
٭ رؤيته حول الثقافة الروحية
ولادته ونشأته:
شهيدنا الصدر ولد في مدينة الكاظمية، وفي كنف جده الإمام موسى بن جعفر، وكانت ولادته في الخامس والعشرين من ذي القعدة سنة 3531 هجرية المصادفة لسنة 4391 ميلادية.
نشأ السيّد الصدر يتيماً، فقد مات والده السيّد حيدر الصدر وهو في السنوات الأولى من عمره، وهكذا شابه جده رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) حياة اليتم والفقر وضنك العيش.
احتضنت رعايته والدته العابدة التقية بنت آية اللّه الشيخ عبد الحسين آل ياسين وهم من أعاظم الفقهاء، وقد عرف عن والدة الشهيد الصدر أنها مثالاً عالياً للتقوى والورع، كانت شديدة الحب للّه تعالى ولرسوله ولأهل بيته (صلى اللّه عليه وآله وسلم)، كانت لا تفارق القرآن تتلوه آناء الليل وأطراف النهار، وكانت دائمة الذكر لله تعالى لا يفتر لسانها عن التسبيح والتحميد والاستغفار وقد تحملت الكثير الكثير من المعاناة حيث عاشت مع الشهيد الصدر أيام المحنة الصعبة وأيام الحصار الأخير، وكانت صابرة محتسبة.
في هذا الكنف الطاهر المبارك ترعرع ونشأ السيّد الصدر، ويجب أن لا ننسى دور أخيه الأكبر آية اللّه السيّد إسماعيل الصدر فقد أولاه الكثير من الرعاية والاهتمام مما خفف عنه آلام اليتم وقسوة الحياة..
خلّف الشهيد الصدر ولداً واحداً هو السيّد محمد جعفر الصدر يشتغل الآن بالدراسة الحوزوية في قم المقدسة، كما خلّف الشهيد الصدر خمس بنات طاهرات نقيات.
ولا أريد أن أسترسل في السيرة الذاتية للشهيد الصدر، وإن كانت هذه السيرة جديرة بأن نقف عندها كثيراً فهي غنية بالعطاء والدروس الكبيرة، ولكني أحاول أن أقف عند محطة الشهادة في حياة السيّد الصدر (رضوان اللّه عليه)، كما أحاول أن أعالج باختصار رؤية الشهيد الصدر حول (الثقافة الروحية).
شريكته في الجهاد:
وقبل ذلك لا يسعنا أبداً أن نغفل الحديث عن شريكة الشهيد الصدر في الجهاد أخته الشهيدة بنت الهدى (رضوان اللّه عليها)، هذه المرأة العظيمة التي أعطت كلَّ وجودها للإسلام، كانت عالمة، مفكرة مثقفة، أديبة، وقد برهنت كتاباتها ونتاجاتها على هذا المستوى الكبير من العلم والفكر والثقافة والأدب، والذي وظفته في خدمة الإسلام، والدفاع عن مبادئ الدين وقيم القرآن.
وكانت رضوان اللّه عليها المربية الكبيرة التي استطاعت أن تنتج جيلاً مؤمناً واعياً من بنات الإسلام، فالجيل الطليعي من بنات العراق ومن نساء العراق، هذا الجيل الذي برهن على كفاءته الإيمانية، وعلى قدراتها الرسالية، وعلى دورها الفاعل في العمل للإسلام والجهاد من أجل الدين، هذا الجيل النسوي الطليعي كان من صنع الشهيدة بنت الهدى (رضوان اللّه عليها).
ولم يقتصر جهاد السيّدة آمنة الصدر بنت الهدى على العمل الثقافي والتربوي والتبليغي بل أمتد ليشمل العمل السياسي فكانت شريكة أخيها السيّد الصدر في الانطلاق بالإسلام ليواجه كلَّ تحديات العصر، وفي الانطلاق بالإسلام ليواجه كل الواقع الثقافي والاجتماعي والسَّياسي، وفي الانطلاق بالإسلام ليواجه نظام الظلم والقهر والاستبداد في العراق وكانت النتيجة أن سقط السيّد الصدر شهيداً في هذا الطريق وسقطت السيّدة آمنة الصدر شهيدة في هذا الطريق..
محطة الشهادة:
ولنا وقفة مع محطة الشهادة في حياة السيّد الصدر وفي حياة السيّدة بنت الهدى.
الشيخ محمد رضا النعماني – آخر من بقي مع الشهيد الصدر في الحصار الأخير – يحدثنا عن استشهاد الصدر رضوان اللّه عليه) يقول الشيخ النعماني في كتابه (شهيد الأمة وشاهدها) – وما أذكره هنا من كلامه فيه شيء من التصرف والإيجاز – في اليوم الخامس من شهر نيسان الأسود (أبريل) عام 0891 ميلادية وفي الساعة الثانية والنصف بعد الظهر جاء جلاوزة الأمن لاعتقال السيّد الصدر…
قالوا له: إنَّ المسؤولين يودون لقاءك في بغداد
قال لهم: إذا أمروكم باعتقالي فاذهب معكم
قالوا: نعم هو اعتقال…
قال السيّد الصدر: انتظروني دقائق حتى أودع أهلي
قالوا: لا حاجة لذلك ففي نفس هذا اليوم أو غدٍ سنعود
قال السيّد الصدر: وهل يضركم أن أودع أطفالي وأهلي
قالوا: لا، ولكن لا حاجة لذلك ومع ذلك فافعل ما تشاء ودّع الشهيد الصدر أهله وأطفاله…وأخذه الجلاوزة إلى بغداد وهو مستبشر حيث تنتظره الشهادة، فطالما تمنى الشهادة، كان آخر خطاب له وجهه إلى أبناء الشعب:
(أنا أعلن لكم يا أبنائي أني صممت على الشهادة، ولعل هذا آخر ما تسمعونه منّي، وإنَّ أبواب الجنان قد فتحت لتستقبل قوافل الشهداء حتى يكتب اللّه لكم النصر، وما ألذَّ الشهادة التي قال عنها رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) إنّها حسنة لا تضّر معها سيئة، والشهيد بشهادته يغسلُ كل ذنوبه مهما بلغت).
وفي اليوم الثاني جاء الجلاوزة إلى دار الشهيد الصدر لاعتقال السيّدة بنت الهدى
قالوا لها: إنّ السيّد طلب حضورك إلى بغداد.
قالت وهي الشامخة الصامدة: نعم سمعاً وطاعةً لأخي إن كان قد طلبني، ولا تظنوا أنيّ خائفة من الإعدام، واللّه إني سعيدة بذلك، إنّ هذا طريق آبائي وأجدادي…
ثم استأذنتهم ودخلت إلى داخل الدار لتقول كلمتها الأخيرة إلى الشيخ النعماني:
(أخي أبا علي لقد أدّى أخي ما عليه، وأنا ذاهبة لكي أؤدّي ما عليّ، إن عاقبتنا على خير أوصيك بأمي وأولاد أخي، لم يبقَ لهم أحد غيرك إن جزاءك على أمي فاطمة الزهراء والسلام عليك)،(قال لها الشيخ النعماني: لا تذهبي معهم قالت: لا واللّهِ حتى أشارك أخي في كل شي حتى الشهادة….)أخذوها إلى بغداد….
وفي مساء اليوم التاسع من نيسان (أبريل) عام 0891 ميلادية وفي حدود الساعة التاسعة أو العاشرة مساءً قطعت السلطة التيار الكهربائي عن مدينة النجف الأشرف…..
وفي ظلام الليل الدامس، تسللت مجموعة من قوات الأمن إلى دار الحجة السيّد محمد صادق الصدر – والد الشهيد الصدر الثاني – طرقوا الباب، خرج السيّد لهم، ماذا تريدون؟ «تفضل معنا إلى بناية المحافظة» خرج معهم بشيخوخته وآلامه، وما أن وصلوا به إلى مبنى المحافظة حتى فاجأه المجرم مدير أمن النجف قائلاً: هذه جنازة الصدر وأخته قد تم إعدامهما، والمطلوب منك أن تذهب معنا لدفنهما.
قال السيّد: لابدَّ لي من تغسيلهما.
قالوا له: قد تمَّ تغسيلهما وتكفينهما.
قال السيّد: لابدَّ من الصلاة عليهما.
قالوا له: نعم صلِّ عليهما…
وبعد أن انتهى من الصلاة قالوا له: هل تحب أن تراهما؟
قال السيّد: نعم.. فأمر الجلاوزة بفتح التابوت، فشاهد الشهيد الصدر «رضوان اللّه عليه» مضرجاً بدمائه، وآثار التعذيب على كل مكان من وجهه وكذلك شاهد الشهيدة بنت الهدى «رضوان اللّه عليها» مضرّجة بدمائها، وآثار التعذيب واضحة على كل مكان من وجهها…
ثم قالوا له: لك أن تخبر عن إعدام السيّد الصدر، ولكن إياك أن تخبر عن إعدام بنت الهدى، إن جزاءك سيكون الإعدام.
كم كان هذا قاسياً على قلب هذا السيّد الجليل، وهو يشاهد هذه المأساة، وهو يشاهد الشهيد الصدر جسداً هامداً عبثت به أيدي الجريمة وغيّرت ملامحه جراحات والتعذيب، وصبغت لحيته الشريفة دماء الشهادة.
كم كان قاسياً على قلب هذا السيّد الجليل أن تقع عينه على الشهيدة بنت الهدى جسداً هامداً عبثت به أيدي الجريمة، وغيّرت ملامحها جراحات التعذيب وصبغتها دماء الشهادة.
والأشد قسوة على قلبه أنه لا يملك القدرة أن يتحدث عن إعدام الشهيدة بنت الهدى، ولذلك بقى خبر استشهادها مخفيا، وشاعت أخبار – في وقتها – تشكك في إعدام السيّدة بنت الهدى، إلاّ أنّ السيّد محمد صادق الصدر لما حانت منه الوفاة أخبر عن شهادة السيّدة بنت الهدى (رضوان اللّه عليها)
وهكذا أعطى الشهيد الصدر دمه في مواجهة نظام الظلم والقهر والاستبداد ومن أجل أن ينتصر شعب العراق المظلوم وهكذا أعطت الشهيدة بنت الهدى دمها في هذا الطريق.
كان ذلك في الأسبوع الثاني من نيسان «أبريل» عام 1980م، وفي الأسبوع الثاني من نيسان «ابريل» عام 3002 ميلادية سقط نظام الطاغية صدَّام في بغداد.
فهل يعتبر الطغاة المجرمون؟
وهل يعتبر سفاكو الدماء؟
وهل يعتبر العابثون بمقدرات الشعوب؟
وهل يعتبر طواغيت الأرض؟
وإذا كان دم الشهيد الصدر ودم الشهيدة بنت الهدى عنوان الجهاد والصمود والرفض طيلة حكم الطاغية صدام فسوف يبقى دم الشهيد الصّدر ودم الشهيدة بنت الهدى عنوان الجهاد والصمود والرفض في هذه المرحلة الجديدة من تاريخ العراق، هذه المرحلة التي تحاول أمريكا أن ترسم كلّ معالمها، وكلّ مكوناتها الثقافية والأخلاقية والاقتصادية والاجتماعية والسّياسية والأمنية والعسكرية..سيبقى دم الشهيد الصدر ودم الشهيدة بنت الهدى يستنهض إرادته الأمة لتواجه مشروعات الهيمنة والمصادرة والإلغاء..
فإذا كان الشعب العراقي وفياً لهذا الدم الطاهر، فيجب أن تتوحد إراته من أجل إنهاء الاحتلال الأمريكي البريطاني الكافر، ويجب أن تتوحد إرادته من أجل صياغة حاضر العراق ومستقبل العراق بعيداً عن كلِّ الشعارات الزائفة التي تحاول أن تصادر هوية هذا البلد وأصالته وتاريخه…
وإذا كانت الأمة في كل مكان وفيةً لدم الشهيد الصدر ولدم الشهيدة بنت الهدى فيجب أن تؤكد ولاءها وانتماءها إلى خط الإيمان والأصالة لتواجه مشروعات العبث بثقافة الأمة، وبأخلاق الأمة، وبقيم الأمة، وبعبارة أكثر وضوحاً العبث بدين الأمة، وبإسلام الأمة…
فإذا كنا الأوفياء لشهيدنا الصدر، فمسؤوليتنا أن نبقي الشهيد حاضراً في ذاكرتنا، وان نبقي الصدر حاضراً في عواطفنا، وان نبقي الشهيد الصدر حاضراً في سلوكنا، وان نبقي الشهيد الصدر حاضراً في كلِّ واقعنا الثقافي والروحي والأخلاقي والاجتماعي والسّياسي…
لقطات من حياة الشهيد الصدر
اللقطة الأولى: خشوعه وانقطاعه إلى الله تعالى في العبادة:
يحدثنا الشيخ النعماني وهو من المرافقين للشهيد الصدر رضوان الله عن هذه الظاهرة فيقول:
فكان – يعني السيد الصدر – في أحيان كثيرة يجلس في مصلاه فكنت أجلس خلفه، وقد دخل وقت الصلاة، بل قد يمضي على دخول وقتها أكثر من نصف ساعة والسيد جالس مطرق برأسه يفكّر، ثم فجأة ينهض فيؤدي الصلاة، هذه الأمور وغيرها دفعتني في يوم من الأيام للاستفسار منه عن سبب هذه الظاهرة… فقال رضوان الله عليه:(إنّي آليت على نفسي منذ الصغر أن لا أصلّي إلا بحضور قلب وانقطاع، فاضطر في بعض الأحيان إلى الانتظار حتى أتمكن من طرد الأفكار التي في ذهني حتى تحصل لي حالة الصفاء والانقطاع وعندما أقوم للصلاة).
هكذا كانت حالة الشهيد الصدر في صلاته وفي دعائه وفي تلاوته للقرآن انقطاع تام إلى الله تعالى، وذوبان وانصهار وخشوع وتضرع، إنّه التجسيد الحي لقوله تعالى: (قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون)، القرآن، يتحدث عن نمطين من الصلاة:
1- صلاة الخاشعين.
2- صلاة الكسالى.
يقول الشيخ النعماني: (ولم تكن هذه الحالة خاصة بالصلاة فقط بل كانت تمتد إلى كل أشكال وصور العبادة الأخرى ولقد سمعته خلال فترة الحجز – ولم أسمعه قبل ذلك – يقرأ القرآن في أيام وليالي شهر رمضان بصوت حزين وشجي، ودموع جارية، يخشع القلب لسماعه، وتسمو النفس لألحانه، وهو في حالة عجيبة من الانقطاع والذوبان مع معاني القرآن، إنه مشهد عجيب يعجز القلم عن وصفه، وما فيه من معنويات كبيرة…)
ويحدثنا الشيخ النعماني عن حالة الانقطاع عند الشهيد الصدر في أثناء طوافه حول الكعبة المشرفة فيقول: (فقد كان رضوان الله عليه يذهب إلى المسجد الحرام يصلي الظهر والعصر، ثم يعود إلى الفندق لتناول وجبة الغذاء، ثم يعود مرة أخرى في حدود الثانية ظهراً إلى المسجد حيث يقل الزحام بسبب شدة الحر وكانت أرض المسجد مغطاة بالمرمر الطبيعي – وهو غير المرمر الموجود حالياً – فكان لا يتمكن أحد من شدة الحر من الطواف في تلك الفترة، فكان رحمه الله يذهب في ذلك الوقت إلى المسجد حافي القدمين، وكنت أطوف معه فو اللّه ما تمكنت من إكمال شوط واحد حتى قطعت طوافي وذهبت مسرعاً إلى الظل، فقد شعرت أن باطن قدمي قد التهب من شدة الحر، وما طفت في تلك الساعة إلا متنـّـعلاً… فكنت أعجب من حال السيد الشهيد رحمه الله وهو يطوف ويصلي وكأنه في الجو الطبيعي الملائم، فسألته يوماً بعد عودتنا من المسجد الحرام عن هذه القدرة العجيبة من التحمل فقال: ما دمت في المسجد الحرام لا أشعر بالحرارة، نعم بعد أن أعود إلى الفندق أحس بألم في قدمي)، إنّه الانقطاع والذوبان مع الله تعالى والعروج إلى عالم الملكوت، ولقد حدثتنا كتب السيرة عن عبادة أمير المؤمنين (عليه السلام) وعن خشوعه وانقطاعه وذوبانه مع الله تعالى، إلى درجة الانفصال التام عن كل ما حوله، وإلى درجة الانفصال عن جسده المادي… روي أنّه وقع نصل في رجله (عليه السلام) فلم يمكّن أحداً من إخراجه، فقالت فاطمة (عليها السلام): أخرجوه في حال صلاته فإنّه لا يحسّ حينئذ ما يجري عليه، فأخرج وهو في صلاته فلم يحس به أصلاً… وتحدثنا بعض الروايات عن الإمام علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام) أنّه كان في صلاته فشب حريق في الدار فتصايح الناس، والإمام مشغول بصلاته حتى أوشكت النار أن تصل إليه وهو يواصل صلاته، فلما فرغ علم بوجود النار، فسألوه عن ذلك فقال: شغلتني نار الآخرة…
فليس غريباً أيهّا الأحبة أن يكون الشهيد الصدر رضوان الله عليه وهو تلميذ هذه المدرسة المباركة مدرسة الأئمة من أهل البيت (صلوات الله عليهم)، أن يتعلم من أجداده الطاهرين المعصومين، أن يتعلم من رسول الله (صلى الله عليه وآله) سيد المرسلين وأن يتعلم من علي أمير المؤمنين (عليه السلام)، وأن يتعلم من السجاد زين العابدين (عليه السلام) كيف يعيش الانقطاع إلى الله تعالى وكيف يعيش الخشوع والانصهار والذوبان في صلاته وفي دعائه وفي تلاوته وفي كل حالات عبادته وحالات حياته.
اللقطة الثانية:عطفه على أعدائه:
كان الشهيد الصدر رضوان الله عليه يحمل بين جنبيه قلباً كبيراً ينبض بالرحمة والعطف حتى على أعدائه، يقول الشيخ النعماني: (في ظهر أحد أيام الاحتجاز كنت دائماً في غرفة المكتبة فاستيقظت على صوت السيد الشهيد (رضوان الله عليه) وهو يقول: (لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم) وظننت أن حدثاً ما قد وقع فسألته: هل حدث شيء؟
فقال: كلا، بل كنت انظر إلى هؤلاء – ويقصد قوات الأمن – من خلال فتحة في الكسر الصغير في زجاجة النافذة فرأيتهم عطاشى يتصبب العرق من وجوههم في هذا اليوم من أيام الصيف الحار…
فقلت: سيدي أليس هؤلاء هم الذين يطوقـوّن منزلكم، ويعتقلون المؤمنين الأطهار من محبيكم وأنصاركم هؤلاء هم الذين روّعوا أطفالكم وحرموهم من أبسط ما يتمتع به الأطفال ممن هم في أعمارهم؟
فقال: ولدي صحيح ما تقول، ولكن يجب أن نعطف على هؤلاء، أن هؤلاء إنما انحرفوا لأنهم لم يعيشوا في بيئة إسلامية صالحة، ولم تتوفر لهم الأجواء المناسبة للتربية الإيمانية، وكم من أمثال هؤلاء شملهم الله تعالى بهدايته ورحمته، فصلحوا وأصبحوا من المؤمنين… ثمّ نزل إلى الطابق الأرضي وأيقظ خادمه الحاج عباس وأمره أن يسقيهم الماء…
وهذا الموقف يذكرنا بموقف الإمام الحسين (عليه السلام) حينما سقى الحر بن يزيد الرياحي وعسكره في طريق كربلاء، ويذكرنا بموقفه (عليه السلام) في يوم عاشوراء حينما جلس يبكي وهو ينظر إلى الألوف المحتشدة التي جاءت لحربه، فيسأل: مم بكاؤك يا ابن رسول الله فيجيب: أبكي لهؤلاء الذين يدخلون النار بسببي…
هكذا تمتلئ قلوب أولياء الله رحمةً وعطفاً حتى بالنسبة لأعدائهم والساعين لامتصاص دمائهم، وشهيدنا الصدر هو امتداد لشجرة النبوة والإمامة فلا عجب أن ينبض قلبه بهذا العطف وبهذه الرحمة وكان لهذه المشاعر النابضة أثرها الكبير فقد أثبتت الأيام – كما يحدّث الشيخ النعماني – أنّ أحد ضباط الأمن وكان يرأس القوات التي طوّقت منزل السيد الصدر قد أدركته الهداية الربانية متأثراً بالعواطف الحانية التي مارسها الشهيد الصدر معهم، وقد قام هذا الضابط بخدمات جليلة خلال فترة الحجز، كان السيد الصدر يذكرها له، وشاء الله أن يكرم هذا الرجل بالشهادة مع مجموعة تعاونت معه، تمّ إعدامهم على يد جلاوزة النظام، ولمّا بلغ السيد الصدر خبر إعدامه مع بعض المتعاونين معه قال مخاطباً الشيخ النعماني: (انظر كيف اهتدى هؤلاء يجب أن تتسع قلوبنا حتى لهؤلاء).
اللقطة الثالثة: أخلاقه وعلاقته مع طلابه:
كان نموذجاً رائعاً في أخلاقه وعلاقته مع طلاّبه وتلامذته، أحاطهم بحبه وعطفه ورعايته، وأفاض عليهم الكثير الكثير من توجيهاته الروحية والأخلاقية والتربوية، والكثير الكثير من إرشاداته العلمية والفكرية والثقافية، ما كان يريد لطلابه أن يكونوا طلاّب فقه وأصول فقط، رغم ما للفقه والأصول من قيمة كبيرة جداً، أراد لهم أن يكونوا حملة رسالة، ودعاة هداية، وصنــّاع أمه.
وانطلاقاً من هذه الرؤية كان الشهيد الصدر رضوان الله عليه يؤكد لطلابه أنهم أبناؤه، وأنهم امتداد له، ولكن ليس امتداداً شخصياً بل هو الامتداد العلمي والفكري والروحي والأخلاقي والجهادي. ولكي نكتشف عمق العلاقة الأبوية والروحية والفكرية بين الشهيد الصدر وطلاّبه نقرأ هذا النموذج من رسائله إلى طلاّبه الذين هجّرهم النظام الحاكم في العراق إلى إيران… أورد هذا النموذج الشيخ النعماني في كتابه (شهيد الأمة وشاهدها)… ومما جاء في هذه الرسالة:
(أولادي وأحبائي: أكتب هذه الكلمات أيّها الأحبة وقد مرّ على فراق أبيكم لكم سنة كاملة تقريباً ما كان أقساها من سنة على هذا الأب الذي جسّد فيكم آماله وبذل في سبيل تحقيق وجودكم الأفضل عصارة روحه وقلبه وعقله جميعاً، وعاش يترقب نموّ أولاده، واشتداد سواعدهم في العلم، وتساميهم في الروح، وتكاملهم المستمر في الخُلق والهدى والدين، وبدأ يحسّ أن هؤلاء الأولاد البررة سوف يحققون ظنونه فيهم، ويمثلون امتداده الروحي، إذ به يفاجأ في لحظة بقدر فرق بيته وبين أبنائه وهو أحوج ما يكون عاطفيا وروحياً ودينياً إلى قربهم… وبالرغم من مرور سنة كاملة على فراق الأب لأبنائه فلا أزال اليوم فارقتكم فيه شعوراً بالألم، وشعوراً بالأمل… – إلى آخر رسالته ).
هكذا نقرأ عمق العلاقة بين الشهيد الصدر وطلاّبه وقد أنتجت مدرسته المباركة عدداً كبيراً من هؤلاء الطلاب ممن أغنوا الساحة علماً وعطاءً وجهاداً، ومدرسة الشهيد الصدر مدرسة للأمة بكاملها، فهو الأب الروحي والأخلاقي والعلمي والثقافي والجهادي لكل الأمة، فهل تكون الأمة بارة بهذا الأب الكبير الذي أعطى دمه من أجل أن تبقى الأمة في خط الإيمان، ومن أجل أن تبقى الأمة نقية الفكر، ونقية الروح، ونقية السلوك، ومن أجل أن تبقى الأمة صلبة الإرادة، قوية التحدّي، شامخة العزيمة.
ويجب أن لا ننسى ونحن نعيش ذكرى الشهيد الصدر، أرض الشهيد الصدر في العراق، وشعب الشهيد الصدر في العراق، فلازال الوضع قلقاً ولازالت أمريكا تحاول أن تفرض هيمنتها على كل الواقع في العراق، ولازالت أميركا ماضية في تنفيذ مشروعها في العراق وفي المنطقة بكاملها، فإخوانكم المؤمنون في أرض المقدسات يعانون الكثير الكثير، يعانون من غطرسة القوات المحتلة ويعانون أزمات وأزمات الحياة، أزمة الأمن والاستقرار أزمة المعيشة، أزمة الأدوية، أزمة الماء، أزمة الغذاء أزمات وأزمات، كأن أمريكا تريد أن تبقى هذه الأزمات لتعطي لنفسها مبررات البقاء، ورغم هذه الأزمات فالشعب العراقي مصمم بكل إرادة وشموخ وعنفوان أن يتحدى كل هذا الواقع المأزوم وإنه لقادر إذا اتحدت قواه وتآزرت قدراته، وتجمعت إمكاناته، فالخطر كل الخطر أن تتصارع القوى، وتتشتت القدرات وتتناقض الإرادات، فدعاؤنا لإخواننا المؤمنين في العراق أن يجمع الله شملهم، وأن يوحد كلمتهم، وأن يرص صفوفهم، وأن، يجنبهم الفتن والأهواء وأن يحميهم من مكائد الشيطان، وأن ينصرهم على أعدائهم الكفار والمنافقين والعابثين… ونؤكد دعواتنا لكل المؤمنين أن يواصلوا التضامن مع شعب العراق، وأن يواصلوا الدعم والمساعدة والإغاثة والإسناد… إنها مسئوليتنا جميعاً… (فمن سمع مسلماً ينادي يا للمسلمين ولم يجبه فليس بمسلم)، (من لم يهتم بأمور المسلمين فليس بمسلم)، (ومن كان عنده فضل ثواب وعلم أن مسلماً يحتاج إليه ولم يدفعه إليه أكبه الله على منخريه)، (ومن منع مؤمنا شيئا يحتاج إليه وهو يقدر عليه من عنده أو من عند غيره أقامه الله يوم القيامة مسوداً وجهه، مزرقة عيناه، مغلولة يداه إلى عنقه، يقال هذا الخائن الذي خان الله ورسوله ثم يؤمر به إلى النار). فحذار حذار أيّها المؤمنون من التقصير في دعم إخوانكم المؤمنين في العراق، وإخوانكم في فلسطين…
نسأل الله تعالى أن يعيننا على أنفسنا، وأن يملأ قلوبنا بالرحمة والعطف لنكون مشمولين برحمته وعطفه يوم الحساب.
وآخر دعوانا أن الحمد للّه رب العالمين