حديث الجمعة129:حديث المشاركة – رحيل آية الله العظمى التبريزي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدالله رب العالمين و الصلاة و السلام على سيد الأنبياء و المرسلين محمد و آله الطيبين الطاهرين
السلام عليكم و رحمة الله و بركاته
أيها الأحبة الأعزاء:
قال المجلس العلمائي كلمته الصريحه الواضحة الجريئة بضرورة المشاركة المكثفة في الانتخابات و كان المجلس واثقا كل الثقة و هو تتخذ هذا القرار، و كان مؤمنا كل الإيمان أن خيار المشاركة هو الخيار الذي تفرضه ضرورات هذه المرحلة…
هناك مشروع خطير يريد لما أن نبقى مهمشين، و أن نبقى غائبين، و أن نبقى محكومين لهيمنة ترسم كل حاضرنا و ترسم كل مستقبلنا…
فإلى متى نظل مأسورين لهذه المرسومة بذكاء..
و إلى متى نظل مستغفلين، و نظل نلعن التأمر ضدنا، و نلعن المشروعات التي تحاك ضدنا، و نصرخ و نصرخ و غيرنا يتحكم في كل مصائرنا و حقوقنا و أوضاعنا….
أن نشارك في الانتخابات خطوة في طريق التصدي و المواجهة من أجل الحقوق و من أجل الدفاع، و من أجل أن نعرقل مشروعات المصادرة و الهيمنة… من أجل المساهمة في التصحيح و التعبير…
قد نسمع من يقول :
إنكم واهمون…فاللعبة السياسية محبوكة، و المشروع محكوم بطريق لا تسمع بأي تغيير….فدخولكم لن يكون إلا تلميعا لمشروع السلطة…
نقول لهؤلاء:
إننا لسنا أغبياء.. إننا نعلم كل العلم أن العملية السياسية معبئة بالألغام و محاصرة بالتعقيدات، و مصنوعة بطريقة لا تعطينا قدرة الحركة و الإنطلاق…
فنظام المجلسين، و التوزيع الجائر للدوائر، و محاولات العبثو التلاعب بالعملية الإنتخابية و الناخبون المتجولون، و تصويت المجنسين و تصويت العسكريين، و المراكز العامة..
هذا كله ليس غائبا عن فهمنا و وعينا و بصيرتنا… إلا أننا ندرك كل الأدراك أن المقاطعة تضعنا في واقع أكثر سوءا، و أكثر إلغاء، و أكثر مصادرة… و أكثر غباء..
لقد تاسست قناعاتنا من خلال رؤية موضوعية مستوعبة لكل حيثيات الواقع السياسي، و مستوعبة لكل النتائج و المعطيات و لكل الإيجابيات و السلبيات، و لكل الأرباح و الخسائر….
و قد وضحت الصورة لدينا كل الوضوح و كذلك تأسست قناعتنا من خلال رؤية فقهية بصيرة إستحضرت كل القواعد الشرعية التي تحدد الموقف…
كما حكم قرارنا إستحضار (خوف الله و خشية الله)
هكذا جاء قرارنا، و هكذا تشكلت قناعتنا,,
و إنطلقت الإشكالات، و تحركت التشويشات و تعالت الكلمات غير المسؤولية..
– قالوا : لا تقحموا الدين في السياسة
* قلنا : و ماذا تقصدون باقحام الدين في السياسة؟
– قالوا: أن تتحدثوا باسم الدين في الشؤون السياسية..
* قلنا: هذا يعني أن الدين ليس له حق أن يقول كلمته في الشأن السياسي..
– قالوا: هذا صحيح فليس للدين أن يتدخل في المسائل السياسية.
* قلنا: كل الأيديولوجيات و النظريات لها حق أن تقول كلمتها في الشأن السياسي، و لها أن تتدخل في المسائل السياسية إلا الدين وحده لا يحق له أن يقول كلمة…
الماركسية لها حق أن تقول كلمتها في السياسة..
الرأسمالية لها حق أن تقول كلمتها في السياسة..
العلمانية لها حق أن تقول كلمتها في السياسة..
الليبرالية لها حق أن تقول كلمتها في السياسة..
أما الدين ممنوع عليه أن يقول كلمته في السياسة….أي جور كبير هذا على الدين.
– قالوا: ليس من مهام الدين التدخل في الشأن السياسي.. مهمة الدين:تربية الروح، تهذيب الأخلاق، الشؤون العبادية، الشؤون الفردية…
أما السياسة ، الإقتصاد، الإجتماع، شؤون الحياة العامة فليست من مهام الدين
• قلنا: أن هذا الكلام يعبر عن جهل بالدين و الحديث عن الإسلام- فقراءة عاجلة في أي مصدر من مصادر الفقه الإسلامي تبرهن بكل وضوح خطأ و سذاجة هذا الفهم، فالإسلام في تشريعاته ينظم حركة الإنسان في جميع مساراتها الفردية و الإجتماعية، العقيدية و الروحية و الأخلاقية و الثقافية و الإجتماعية و الإقتصادية و السياسة….
ثم نقول لهؤلاء : من الذي يحدد وظيفة الدين أنتم أم الذي شرع الدين؟
لقد سرقوا من الدين الكثير الكثير من صلاحياته و وظائفه، و حاولوا أن يسجنون في مساحات ضيقه.. و أعطوا لأيديولوجيات الأرض كل المساحات..
أنا أصلي و أصوم و احج كما يريد لي الدين…
إلا أني محكوم لاقتصاد لا يرسمه الدين،و لثقافة لا يرسمها الدين، و لسياسة لا يرسمها الدين، و لإجتماع لا يرسمه الدين، و لإعلام لا يرسمه الدين….
– قالوا: لو سلمنا أن الدين له حق أن يقول كلمته في الشأن السياسي..
إلا أن علماء الدين يفترض أن ينأوا بأنفسهم عن السياسة حتى لا يتلوثوا بألاعيبها و أكاذيبها و دجلها و نفاقها..
• قلنا: هذة الكلمة حق يراد بها باطل..صحيح أن السياسة السائدة يطفى عليها الكذب والزيف والدجل …وصحيح ان العلماء الدين يجب أن يحافظوا على مكانتهم الروحية النقية..
إلا أن هذا لا يصح أن يكون مبررا لإقصاء علماء الدين عن ممارسة مسؤولياتهم السياسية في الأطر النظيفه, ووفق المعايير الشرعية..
إن السياسة في شكلها الزائف أمر مرفوض لا يصح الإعتراف به، ثم إن النظافة السياسة من العناوين الكبيرة التي ندعو إليها، و نطالب بممارستها، و من أهم الوسائل لإنتاج هذه النظافة أن يتصدى للعمل السياسي الناس الذين يحملون نظافة الفكر، و نظافة الضمير، و نظافة السلوك . أما كون العمل السياسي يتنافى مع الروحانية فهذه فكرة مغلوطة بل مشبوهة روج لها أعداء الإٍسلام لأهداف معروفة، و تسربت إلى وعي الأمة في مرحلة التخلف و الإنحسار و هيمنة القوى الإستعمارية على واقع المسلمين الثقافي و الإقتصادي و الإجتماعي و السياسي و العسكري.
– قالوا: لو سلمنا بكل ذلك.. إلا أن الشأن السياسي في حاجة إلى خبرة سياسية و علماء الدين لا يملكون هذه الخبرة..
فمرجعية الشأن السياسي هم خبراء السياسة و ليس خبراء الفقه الدين..
كما أن مرجعية الشأن الإقتصادي هم خبراء الإقتصاد و ليس خبراء الفقه و الدين.
و كما أن مرجعية الشأن القانوني هم خبراء القانون و ليس خبراء الفقه الدين..
و هكذا كل الشؤون التخصصية..
* قلنا: إن في هذا الكلام خلطا متعمدا أو عن جهل بين حيثية الموضوع و حيثية الحكم.
أوضح الفكرة من خلال هذه الأمثلة:
1- التنمية الإقتصادية وهو (شأن اقتصادي) إذا كان الحديث عن (طرق التنمية / وسائل التنمية / أشكال التنمية / معوقات التنمية / هيكلية التنمية) فيجب الرجوع إلى خبراء الإقتصاد و خبراء التنمية الإقتصادية، و لا شأن لخبراء الفقه و الدين بذلك ألا أن يكونوا من خبراء الإقتصاد و التنمية..
و إذا كان الحديث عن (ما يجوز و مالا يجوز من طرق التنمية الإقتصادية، و وسائل التنمية، و مصادر التنمية) فيجب الرجوع إلى خبراء الفقه و الدين و لا شأن لخبراء الإقتصاد و التنمية بذلك إلا أن يكونوا خبراء فقه و دين.
و لتوضيح الفكرة أكثر:
اذا كان خبراء التنمية الإقتصادية لا يتوقفون في وضع (الربا / تجارة الخمر) ضمن مصادر الدخل القومي، و ضمن وسائل التنمية الإقتصادية و ضمن الطرق المعتمدة لزيادة الثروة الوطنية فإن خبراء الفقه و الدين يرون في هذا النوع من المصادر مصادر محرمة في الشريعة، ممنوعة في الفقه، و في هذا النوع من الطرق طرقا مرفوضة في الدين.
2- التنمية الإعلامية..
اذا كان الحديث عن (وسائل التنمية الإعلامية / تقنيات التنمية الإعلامية.. إلى آخره) فيجب الرجوع إلى خبراء التنمية الإعلامية..
و إذا كان الحديث عن الرؤية الشرعية حول أدوات الإعلام/ وسائل الإعلام/مواد الإعلام) فيجب الرجوع إلى خبراء الفقه و الدين..
إن خبراء التنمية الإعلامية ربما يرون في الكثير من (البرامج الإعلامية) مواد ضرورية للتنمية الإعلامية، بينما خبراء الفقه و الدين يضعون (ضوابط شرعية) لقبول أو رفض هذا البرنامج أو هذه الوسيلة..
3- التنمية السياحية:
اذا كان الحديث عن الجانب الموضوعي في التنمية السياحية فيرجع فيه إلى خبراء التنمية السياحية…
و اذا كان الحديث عن (المباح و غير المباح) من أشكال السياحة، و وسائل السياحة فيجب الرجوع فيه إلى خبراء الفقه و الدين..
يتحدث خبراء التنمية السياحية عن دور الفنادق في إزدهار السياحة.. فصالات الدعارة مصدر لإجتذاب السياحة، و حانات الخمرة رافد من روافد السياحة ، و أساليب اللهو العابث وسيلة لتنشيط السياحة…
أما خبراء الفقه و الدين فيرون في كل هذه الوسائل محرمة شرعا، و يرون في سياحة تعتمد هذه الوسائل أنها سياحة غير نظيفة.
4- المشاركة و المقاطعة في الانتخابات:
اتخاذ القرار في هذه المسألة يمر عبر مجموعة محطات:
المحطة الأولى:
الدراسة الموضوعية البحتة لكل من المشاركة و المقاطعة..
و هنا يعتمد على خبراء السياسة..
أما علماء الفقه و الدين فإن كانوا يملكون خبرة السياسة فلهم الحق أن يقولوا كلمته في هذا الجانب.. و إلا وجب عليهم الرجوع إلى أصحاب الخبرة و الإختصاص في هذا الشأن السياسي.
المحطة الثانية:
تشخيص (المصلحة الإسلامية)..
إن اتخاذ أي قرار في الشأن العام يحتاج إلى (تشخيص المصلحة الإسلامية) و هذا التشخيص شرط أساس لتحديد الموقف..
و هنا يجب الرجوع إلى المرجعية الدينية) فهي التي تشتخص المصلحة الإسلامية في ضوء ما تملكه من معطيات القراءة الموضوعية..
و لا شك أن هذا التشخيص يحتاج إلى :
– رؤية شاملة لأوضاع المجتمع.
– فهم دقيق بالمصلحة الإسلامية العليا.
المحطة الثالثة:
من خلال القراءة الموضوعية..
و من خلال تشخيص المصلحة الإسلامية..
نتجه إلى استنطاق (الرؤية الفقهية) فليس في الحياة سلوك لا يحتاج إلى رؤية فقهية..
فالممارسة الانتخابية (مشاركة أو مقاطعة) ممارسة تحتاج رؤية فقهية.
و هنا يجب الرجوع إلى من يتوفر على هذه الرؤية..
المحطة الرابعة:
فبعد توفر القراءة الموضوعية..
و بعد تحديد المصلحة الإسلامية..
و بعد تطبيق الرؤية الفقهية..
يتحدد الموقف و القرار
ربما يكون الموقف و القرار هو المشاركة
و ربما يكون الموقف و القرار هو المقاطعة
و ربما يكون الموقف و القرار هو الاختيار بين المشاركة و المقاطعة اذا لم يكن في أي منهما مصلحة ملزمة.
و ربما يكون الموقف و القرار هو الصمت حينما يكون في الصمت المصلحة أكبر..
لقد تصدى العلماء و أتخذوا قرار المشاركة..
و ليس في هذا وصاية على الناس..
إن المنتمين إلى الدين لا ينتظرون أن يحدد (موقفهم العملي) في المشاركة أو المقاطعة إلا علماء الفقه و الدين المؤهلون الموثوقون… فلماذا حينما يتحدث رجال السياسة و رجال الثقافة و رجال الإقتصاد لا يعد ذلك وصاية على الناس، و حينما يتحدث علماء الدين أصبح ذلك وصاية وهيمنة و الغاء لمقول الناس..
أيها الأحبة الإعزاء..
اذا أردنا أن لا نساهم في المزيد من تهميشنا، و إقتصائنا، و إلغائنا، و مصادرتنا…
اذا اردنا أن لا نساهم في المزيد من العبث بحقوقنا..
اذا أردنا أن لا نساهم في إحكام الهيمنة و السيطرة على أوضاعنا..
إذا اردنا أن لا يرسم حاضرنا و مستقبلنا و نحن غائبون…
فيجب أن يكون لنا حضورنا الكبير في هذه الإنتخابات..
أطراف متعددة لا تريد لنا هذا الحضور..
أطراف متعددة من مصلحتها أن نبقى غائبين..
أطراف متعددة يفرحها أن نكون مهمشين..
لا يريد بنا خيرا من يدفع بنا إلى الغياب
لا يرد بنا خيرا من يحاول أن يسرق حقنا في المشاركة..
لا يريد بنا خيرا من يعمل إضعاف حضورنا..
مسؤوليتنا – أيها المؤمنون- أن نصر على الحضور و المشاركة… مسؤوليتنا أن يكون حضورنا قويا، و أن يكون مشاركتنا قوية فحذار حذار من الإسترخاء و التهاون و التفريط..
و حذار حذار من التشتت و التفرق و التشظي و الإنقسام..
و حذار حذار في مصير هذا الوطن و في مصير اجياله..
أيها الأحبة الإعزاء:
إن حضورنا القوي الفاعل في حاجة إلى مشاركة مكثفة، و في حاجة إلى توحيد الأصوات لكي لا نكون إشتاتا متفرقين، و لكي لا نكون ضعفاء مهزومين… و في حاجة أن تلتحم جهود الجماهير الكبيرة يرفوا بها المخلصين الصادقين..
إن مسؤوليتنا أن نخشى الله تعالى كل الخشية و نحن نضع أصواتنا في صناديق الإقتراع حتى لا نفرط في مصير هذا الوطن، و حتى لا نسلم أمورنا إلى من يعبث بحاضرنا و مستقبلنا…
من الواضح أن الساحة الإنتخابية تزدحم بأسماء كثيرة من المترشحين المتنافسين ، و لا نشك بوجود الكثير من الكفاءات الصالحة و المؤهلة، و لا يصح لنا أن نسيء إلى أحد، و لا يحق لنا أن نتهم أحدا… و نريد أن تفرض قناعتنا على أحد، فلكل حقه في الإختيار مادام الإختيار خاضعا للضوابط الشرعية، و للحسابات المدروسة…
و لكن هذا لا يلغي حقنا في أن نعبر عن رؤيتنا و قناعتنا في أن (الكتلة الموحدة) هو الخيار الأصلح و هو الخيار الأقوى، ما دمنا مشروعا خطيرا للهمينة السياسية، هذا المشروع لا تواجهة كيانات مفتتة، و وجودات منفردة، و برامج متشتة..
كلما استطعنا ان نتوفر على الكتلة الانتخابية المتراصة، و المواقف المتآذرة، و الخطابات الموحدة، و الأداء المتماسك، و التصدي المشترك، و القرار المتآذر، و البرنامج التكامل….كان ذلك أضمن للنجاح في التصدي لمشروع الهيمنة، و لكل محاولات العبث بالقوانين، و كان ذلك أقدر على خلق الحصانه في مواجهة أساليب الإختراق و المساومة و شراء الذمم و الضمائر..
كلمة أخيرة:
فقدت المرجعية واحد من اعمدتها، و علما من أعلامها، و محققا بارزا … …، و استاذا متميزا تسنم زعامة الحوزة العلمية في قم المقدسة.. إنه المرجع الديني الكبير آية الله العظمى الشيخ الميرزا جواد التبريزي (قدس الله روحه الطاهرة) و بهذه المناسبة الأليمة نرفع أحر العزاء إلى إمامنا صاحب العصر و الزمان أرواحنا فداه و إلى المراجع العظام و العلماء و الحوزات و إلى الأمة الإسلامية جمعاء… تغمد الله الفقيد الكبير بوافر الرحمة و المغفرة و الرضوان و حشره مع النبيين و الصديقين و الشهداء و الصالحين و … أولئك رفيقا..
كما لا ننسى أن نعبر عن بالغ الأٍى و الحزن بفقد العلامة الحجة السيد علي العدناني الغريفي، الذي وافاه الأجل في إيران و نقل جثمانه الطاهر إلى النجف الأشرف، و الفقيد عالم جليل، و باحث و أديب، قضى حياته في العطاء العلمي و خدمة الدين.. حشره الله تعالى مع اجداده الطاهرين..
و آخر دعوانا أن الحمدلله رب العالمين