حديث الجمعة115: غيبة الإمام المهدي المنتظر(الحلقة الخامسة) – من الذنوب التي لا تغفر: ليتني لا أواخذ إلا بهذا – فقيد المنبر الحسيني
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين و الصلاة و السلام على سيد الأنبياء و المرسلين محمد و آله الطيبين الطاهرين….
السلام عليكم و رحمة الله و بركاته..
من خلال مجموعة أحاديث تقدمت عن “مرحلة الغيبة الصغرى” لإمامنا المهدي المنتظر عليه السلام نستطيع أن نخلص إلى عدة نتائج أهمها:
النتيجة الأولى:
أن الغيبة الصغرى مرحلة مؤقتة استمرت من سنة (260)هـ حتى سنة (329)هـ ، و قد استطاعت هذه المرحلة أن تهيئ ذهنية الشيعة إلى مرحلة الغيبة الكبرى و التي بدأت منذ سنة (329)هـ ، بوفاة السفير الرابع علي بن محمد السمري و لازالت مستمرة حتى الآن إلى أن يأذن الله تعالى لقائم آل محمد صلى الله عليه و آله بالظهور و إقامة دولة العدل الكبرى في العالم كما أكدت ذلك الروايات الصحيحة المتواترة عند المسلمين و المدونة في أهم مصادر المعتمدة لدى السنة و الشيعة و هذا ما سوف نتناوله في لقاءات قادمة – إن شاء الله تعالى- ، و ما أحوجنا إلى تكثيف الحديث عن الإمام المهدي المنتظر في هذه الظروف الصعبة التي يمر بها العالم في هذا العصر، و في هذه الأجواء المعقدة التي تحاصر الإنسان المسلم و تعقد الكثير من خياراته…
و حينما نؤكد ضرورة الحديث عن الإمام المهدي المنتظر في هذه الظروف و الأوضاع و الأجواء الصعبة و المعقدة، لا نهدف من ذلك أن نضع الأمة في أحضان “الاسترخاء و الغيبوبة” و هي مشدودة إلى “أمل الخلاص” على يد الإمام المهدي عجل الله فرجه. رغم ما لهذا الأمل من دلالات كبيرة جدا، نعرض لها لاحقا بإذن الله تعالى، و إنما نهدف أن نعطي لعقيدة الانتظار مضمونها الواعي، و حضورها الفاعل في حركة الأمة الروحية و الثقافية و الاجتماعية و السياسية……و نهدف كذلك إلى مواجهة حالات الانحراف التي أخذت تنتشر فيما تحمله من “دعاوى كاذبة” في الارتباط بقضية الإمام المهدي المنتظر عليه السلام.
النتيجة الثانية:
لقد أعتمد الإمام المهدي عليه السلام في مرحلة الغيبة الصغرى “أسلوب النيابة الخاصة” و هذا الأسلوب يعني أن الإمام عليه السلام يتدخل و بشكل مباشر في تعيين “النواب و الوكلاء” الذين يمثلونه، و يشكلون “حلقات الاتصال” بينه و بين الأمة.
هذا الأسلوب انتهى بانتهاء الغيبة الصغرى كما أكدت ذلك “التوقيعات” الصادرة عن الإمام المهدي عليه السلام.
و ماذا يعني انتهاء هذا الأسلوب؟
إنه يعني بكل وضوح : أن أي ادعاء ينطلق بعد ذلك يحمل صفة “النيابة الخاصة” أو “التكليف الخاص” أو “السفارة” أو “تلقي الأمر مباشرة” فهو إدعاء باطل و صاحبه مفتر كذاب…
و يعني انتهاء هذا الأسلوب كذلك: أن الأمة مسؤولة كل المسؤولية أن تتصدى لهذا الإدعاء الكاذب، و إلا كانت خائنة للأمانة، و مفرطة كل التفريط في انتماءها إلى خط الإمام المهدي عجل الله فرجه ….
و لقد شهد الماضي و الحاضر هذا اللون من الإدعاءات الكاذبة، سواء على مستوى أشخاص و أفراد أو على مستوى تنظيمات و حركات…
و رغم أن هذه الإدعاءات كاذبة قد استطاعت – و بشكل محدود حدا- أن تؤثر على بعض النفوس الساذجة و الضعيفة، إلا أنها – بشكل عام- اصطدمت بوعي القاعدة الشيعية العريضة، و بفضل تصدي الفقهاء و العلماء مما أفشل هذه المحاولات و حجَم حركتها و انطلاقاتها و تأثيراتها….
إن موقع “النيابة الخاصة” قد وضعت له مجموعة “محصنات” تحميه في مواجهة كل الاختراقات، و في مواجهة كل الانحرافات و الإدعاءات الكاذبة..
من أهم هذه المحصنات:
1- صاحب هذا الموقع يجب أن يتوفر على عدة مؤهلات و خصائص و مميزات عقيدية و فكرية و روحية و نفسية و سلوكية:
– مستوى عال جدا من الإيمان ….
– مستوى عال من التقوى و الورع…
– مستوى عال من العلم و الثقافة….
– مستوى عال من الكفاءة النفسية…
2- صاحب هذا الموقع يجب أن يتوفر على “توثيق مباشر” من قبل الإمام المهدي أو من قبل أحد الأئمة السابقين، و بالتالي يجب أن يتوفر على “تعيين مباشر”
3- صاحب هذا الموقع يجب أن يحظى بتأييد و اعتماد فقهاء الطائفة المعروفين البارزين الموثوقين…فهم الأقدر على تشخيص المؤهلات و المواصفات و التوثيقات، و هم الأقدر على محاسبة كل الإدعاءات….
و في ضوء هذه “المحصنات”: يصعب اختراق “موقع النيابة” و لذلك افتضحت كل محاولات الاختراق و سقطت كل الإدعاءات الكاذبة…
النتيجة الثالثة:
الجماهير المؤمنة مطالبة أن تكون على درجة كبيرة من الوعي و البصيرة و الحذر في التعاطي مع أي “تشكل” يحاول أن ينتسب إلى عنوان “الإمام المهدي” ما لم يكن هذا “التشكل” يحظى بتأييد و إمضاء و مباركة “المرجعية الدينية” المعروفة…
لا مشكلة في أن تنطلق مؤسسات و جمعيات و تنظيمات تتبنى “تثقيف الأمة” في خط الإمام المهدي، و تتبنى مسألة “التهيئة و الإعداد لظهور الإمام المهدي”، و لكن لخطورة هذا الأمر، و لكثرة الإدعاءات الكاذبة، كانت الضرورة الشرعية تفرض أن تكون هذه “التشكلات” خاضعة لتوجيهات “المرجعية الدينية”…
من هنا نصنف “التشكلات” التي تحاول أن تنتسب إلى عنوان “الإمام المهدي” في هذا العصر إلى:
أ- التشكلات التي تدعى الارتباط المباشر بالإمام المهدي، و إنها تتسلم الأوامر من الإمام نفسه عبر الأحلام و المكاشفات….
و من الواضح أن هذه التشكلات زائفة و كاذبة، كونها تصطدم مع “المسلمة الثابتة” في فكر مدرسة الأئمة من أهل البيت (ع) هذه “المسلمة الثابتة” التي تقول بانتهاء “النيابة الخاصة” و “السفارة الخاصة” فمسؤولية الأمة أن تتصدى لهذه التشكلات و أن تواجهها و أن تحاصرها إذا لم تفلح معها أساليب الحوار و النقاش، حيث يسيطر على أصحابها الجهل و العناد و الإصرار على رفض الحوار
ب- التشكلات التي لا تدعي “النيابة و السفارة و تلقي الأمر من الإمام” و إنما حددت لها هدفا عنوانه “ربط الأمة بالإمام المهدي” روحيا و ثقافيا و عمليا……غير أن هذه التشكلات لا تملك تأييدا و دعما و إمضاء من “المرجعية الدينية”….
و هي الأخرى يجب على الأمة أن تتحفظ كل التحفظ في الارتباط بها، ليس من منطلق أن كل مشروع ثقافي أو اجتماعي أو سياسي يجب أن يتوفر على “إمضاء المرجعية الدينية” هذه المسألة في حاجة إلى بحث و تفصيل، و إنما من منطلق خطورة هذا الموضوع و حساسيته، و كثرة منزلقاته..
مسؤولية كل فرد من أبناء هذا الخط أن يكون داعية و مدافعا عن قضية الإمام المهدي عليه السلام، في مواجهة كل التحديات و الإشكالات و الشبهات، و مسؤولية كل فرد من أبناء هذا الخط أن يعيش التهيؤ و الاستعداد لظهور الإمام المهدي و لكن أن تتكون جماعات و كيانات و تنظيمات بعيدا عن نظر المرجعية الدينية، و بعيدا عن توجيهات الرؤى الفقهية ………… في غاية الخطورة.
ج- التشكلات الموجه دينيا و فقهيا من خلال الانتماء إلى خط “المرجعية بكل امتداداته في حركة الأمة….. هذا النمط من التشكلات و التنظيمات و الجماعات لا غبار عليه، و لا محذور من التعاطي معه، ما دام يملك الشرعية الواضحة..
نخلص إلى القول بأن جماهير الأمة في حاجة إلى درجة عالية من اليقظة و الحذر في التعامل مع كل الصياغات المتحركة في الساحة و إن اعتمدت العناوين الإسلامية، و الواجهات الدينية، فضلا عن تلك الصياغات التي تحمل الصبغة الثقافية و الاجتماعية و السياسية البحتة…
من كلمات الإمام الحسن العسكري:
جاء في بعض كلماته عليه السلام:
“من الذنوب التي لا تغفر: ليتني لا أواخذ إلا بهذا”
أي قول الرجل المذنب ذلك، إذا قيل له: لا تعص……
من الذنوب التي تشدد عليها العقوبة هذا الذنب الذي يمارسه الكثيرون دون أن يستشعروا خطورته، و ربما لم يلتفتوا إلى كونه ذنبا…
ما هذا الذنب؟
كثيرون يمارسون ذنوبا و معاصي و مخالفات…
وإذا قيل لهم: لا ترتكبوا هذه الذنوب و المعاصي و المخالفات
جاء جوابهم: ليتنا لا نؤاخذ إلا بهذا…
و هذا الجواب فيه “استصغار” واضح لتلك المعاصي و الذنوب التي يمارسونها…
إن استصغار الذنب يعد ذنبا خطيرا، هذا الاستصغار نفسه من ذنوب الكبيرة، و التي تكون عقوباتها مغلظة و مشددة و لعل تعبير الإمام بقوله ” لا تغفر” كناية عن هذا المعنى…..أن يستصغر أحد ذنبا، وأن يستصغر عقوبة، فإنما يعني استصغارا لمقام الربوبية …فما أسوء العبد أن يستصغر مقام ربه العظيم..
روي عن رسول الله صلى الله عليه و آله أنه قال: “إياكم و محقرات الذنوب، فإن لها من الله طالبا و إنها لتجتمع على المرء حتى تهلكه”
و قال الإمام الصادق عليه السلام:إن رسول الله صلى الله عليه و آله نزل بأرض قرعاء قال لأصحابه:”ائتوا بالحطب”، فقالوا: يا رسول الله نحن بأرض قرعاء ما بها من حطب..
قال (صلى الله عليه و آله): “فليأت كل إنسان بما قدر عليه” فجاءوا به حتى رموا بين يديه بعضه على بعض…
فقال رسول الله (صلى الله عليه و آله): “إنه هكذا تجتمع الذنوب” ثم قال: “إياكم و المحقرات من الذنوب، فإن لكل شيء طالبا، و إن طالبها يكتب (“ما قدموا و آثارهم و كل شيء أحصيناه في إمام مبين”)
و في حديث آخر قال رسول الله صلى الله عليه و آله:
“إن إبليس رضي منكم بالمحقرات…و الذنب الذي لا يغفر قول الرجل: لا أؤاخذ بهذا الذنب…..استصغارا له”
و من كلمات الإمام الصادق عليه السلام:
“اتقوا المحقرات من الذنوب، فإنها لا تغفر… قلت: و ما المحقرات؟
قال:الرجل يذنب فيقول:طوبى لي لو لم يكن لي غير ذلك”
هكذا يتمادى الإنسان في المعاصي و الذنوب…
فلا يرجع إلى خير، و تكون عاقبته الهلاك و الخسران و عذاب النار…
أما الإنسان العاصي الذي يستشعر في داخله الإثم و المخالفة و العصيان…فهذا في معرض العودة و التوبة و الإنابة مهما كثرت ذنوبه و معاصيه…
فحذار فحذار من احتقار الذنب مهما صغر…
ورد عن الإمام الصادق عليه السلام قوله:
” لا تستكثروا قليل الخير، و لا تستقلوا قليل الذنوب فإن قليل الذنوب يجتمع حتى يكون كثيرا، و خافوا الله في السر حتى تعطوا من أنفسكم النصف”
فقيد المنبر الحسيني:
بقلوب مفجوعة و عيون باكية ودَعت البحرين فقيد المنبر الحسيني فضيلة الشيخ أحمد مال الله تغمده الله بوافر الرحمة و الرضوان…
كان التشيع كبيرا، و كان الألم كبيرا، و كان الانفعال كبيرا….لأن الحب كان كبيرا، أحب الناس الفقيد.
عاش في قلوبهم، في وجدانهم، في مشاعرهم، فكم هي الصدمة كبيرة و كبيرة حينما سمع الناس نبأ الفاجعة، كان الرحيل المفاجئ صدمة، رحل من دون أن يودَع أحباءه أو يودَعوه..
لعل استعجاله في لقاء ربه، و في لقاء نبيَه، و في لقاء أئمته، و في لقاء الأبرار و الصالحين شغله أن يودَع أحباءه…
و ربما أرسل كلمة وداع في اللحظات الأخيرة غير أن أسماعنا المثقلة بضجيج هذه الدنيا و بصخب هذه الحياة ما كانت قادرة على أن تصغي إلى تلك الكلمات القادمة من عالم الغيب،و عالم الطهر، و عالم السكينة و الاطمئنان…
رحل فقيد المنبر الحسيني الشيخ أحمد مال الله، بعد أن عاش حياة حافلة بالخير، و الفضيلة، و العطاء، عاش واعظا لامست مواعظه كل القلوب،
عاش مرشدا، موجها، مربيا، مذكرا بالآخرة…
عاش صوتا حسينيا فاجعا تنساب مراثيه الحزينة لتفرض على كل العيون أن تبكى…
عاش إنسانا يذوب ألما من أجل آلام المحرومين…
عاش قلبا رحيما يحمل هم البؤساء…
عاش داعية صلبا شديدا على أهل الباطل….
عاش رجلا غيورا على أحكام الله….
نم قرير العين يا أبا عبد الأمير…
فانجالك يمثلون امتدادك…
و تلامذتك يمثلون امتدادك…
و تراثك الحسيني يمثل امتدادك…
و ذكرك الجميل يمثل امتدادك…
و حبك الكبير في كل القلوب يمثل امتدادك و عطاؤك يمثل امتدادك…
و مشروعك الخطبائي الذي ختمت به حياتك يمثل امتدادك…
و ما أعد الله لك من الجزاء الأوفى هو الأبقى..
و كأن صوتك من وراء علم الغيب يقول:
“يا ليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي و جعلني من المكرمين”