حديث الجمعة108: قراءة سياسية في بيعة الإمام الرضا عليه السلام – دروس مستوحاة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والمرسلين محمد وآله الطيبين الطاهرين.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته… وبعد:
فهذه عناوين الحديث:
• قراءة سياسية في بيعة الإمام الرضا عليه السلام
• دروس مستوحاة
قراءة سياسية في بيعة الإمام الرضا عليه السلام
أبدأ هذه القراءة بطرح هذا السؤال:
ما هي البواعث التي دفعت الخليفة العباسي إلى الإقدام على أخذ البيعة للإمام الرضا بولاية العهد؟
توجد مجموعة تفسيرات مرفوضة، من هذه التفسيرات:
• التفسير الأول:
ما ذهب إليه أحمد أمين المصري في كتابة فجر الإسلام، خلاصة هذا التفسير:
إن المأمون أراد من هذه العملية أن يعري أئمة أهل البيت أمام أعين الناس لتسقط تلك القداسة التي يحملونهم، حينما يكونون في موقع السلطة فيرتكبون المحرمات، هذا تفسير باطل.
1. إن أحمد أمين عرف بافتراءاته الزائفة على أهل البيت و على أتباعهم.
2. لقد عاشت الأمة تجربة الحكم في ظل خلافة الإمام أمير المؤمنين عليهم السلام، فهل أظهرت هذه التجربة ما يتنافى مع قداسة و نظافة الأئمة عليهم السلام.
3. حينما تولى الإمام الرضا ولاية العهد فهل مارس شيئا من المحرمات والمخالفات.
• التفسير الثاني:
إن المأمون أقدام على هذا الأمر وفاء لنذر، فقد نذر إن أظفره الله على أخيه الأمين أن يجعل الخلافة في أفضل أل أبي طالب، هذا التفسير غير وجيه:
لقد صرح المأمون بذلك إلا أن ذلك من أجل التمويه على أهدافه الحقيقية.
• التفسير الثالث:
إن المأمون كان متشيعا محبا لأهل البيت عليهم السلام، وقد دعم أصحاب التفسير رأيهم ببعض المؤيدات:
– التصريحات الصادرة عن المأمون والذي أكدت حبه لعلي بن أبي طالب عليه السلام.
– احتجاجاته ومناظراته حول إمامة أمير المؤمنين عليه السلام.
– رده فدكا.
– تزويجه إبنتيه للإمام الرضا و الإمام الجواد عليهما السلام.
و نلاحظ على هذا التفسير:
1. إظهاره للتشيع كان من أجل كسب الخراسانيين الذين عرف عنهم الميل إلى أهل البيت عليه السلام .
2. إن إثارته لقضايا الخلاف المذهبي، و تحريك الجدل في بعض القضايا (كمسألة خلق القرآن) كان من أجل إلهاء العلماء، و إشعال الساحة، ليحرر بذلك أهدافه السياسية.
3. ممارسته مع الإمام الرضا عليه السلام تكشف عن عدم إيمانه بإمامة أهل البيت عليه السلام.
4. لقد أثبتت الأدلة التاريخية أنه كان متورطا في قتل الإمام الرضا عليه السلام.
5. إذا كان جادا في إرجاع الخلافة إلى الأئمة فلماذا لم يجعل ولاية العهد للإمام الجواد بعد وفاة الإمام الرضا عليه السلام.
ما هي البواعث الحقيقية؟
من خلال القراءة المتأنية نستطيع أن نكتشف أن وراء هذه العملية أهدافا سياسية محضة، ومن أهم هذه الأهداف:
• الهدف الأول:
إرضاء الرأي العام الشيعي الذي كان يسيطر على خراسان وما والاها، و قد ساهم هذا الرأي العام المنتمي إلى أهل البيت عليه السلام في دعم حكم المأمون و انتصاره على أخيه الأمين، فأراد المأمون بهذه الخطوة أن يكسب ود الشيعة الذين يجري حب أهل البيت في عروقهم.
• الهدف الثاني:
إخماد ثورات العلويين:
لقد تأججت في تلك المرحلة مجموعة ثورات، قام بها ثوار علويون:
• قي مكة كانت ثورة محمد بن جعفر(الديباج)
• وفي المدينة كانت ثورة محمد بن سليمان
• وفي الكوفة ثورة أبي السرايا
• وفي البصرة ثورة زيد النار
• وفي اليمن ثورة إبراهيم بن موسى
• وفي واسط ثورة جعفر بن محمد بن زيد بن علي
• وفي المدائن ثورة محمد بن إسماعيل
وقد حظيت بعض هذه الثورات بتأييد شعبي كبير، وهنا قد يطرح سؤال:
• ماذا كان موقف الأئمة عليهم السلام من هذه الثورات؟
كان موقف الأئمة عليهم السلام متحفظا من بعض تلك الثورات،كونها مشوكة الأهداف، أو كونها غير مدروسة، ولها مردودات سلبية كبيرة جدا، إلا أن الأئمة عليهم السلام كان لهم موقف التأييد لثورات أخرى، وجدوا فيها الإخلاص والصدق، وإن كان الأئمة عليهم السلام يعلمون أنها ثورات غير قادرة على تغيير الأوضاع.
• أما لماذا دعموا تلك الثورات؟
فالأئمة عليهم السلام كانوا يرون ضرورة التوافر على عملين-حسب ما ذكر السيد محمد باقر الصدر في كتابه بحث حول الولاية-:
1. “أحدهما: العمل من أجل بناء القواعد الشعبية الواعية
2. والأخرى: تحريك ضمير الأمة الإسلامية وإراداتها، والاحتفاظ بالضمير الإسلامية و الإدارة الإسلامية بدرجة من الحياة والصلابة تحصن الأمة ضد التنازل المطلق عن شخصيتها وكرامتها للحكام المنحرفين.
والعمل الأول: هو الذي مارسه الأئمة عليهم السلام بأنفسهم،
والعمل الثاني: هو الذي مارسه ثائرون علويون كانوا يحاولون بتضحياتهم الباسلة أن يحافظوا على الضمير الإسلامي، والإرادة الإسلامية، وكان الأئمة يسندون المخلصين منهم”.
ومن الثورات التي حظيت تأييد ومباركة الأئمة عليهم السلام(ثورة زيد بن علي بن الحسين بن علي) الذي تحرك سنة(122هـ) ضد الحكم الأموي ومن تصريحات الأئمة عليه السلام الداعمة لهذه الثورات:
• قول الإمام الصادق عليه السلام :
“لا تقولوا خرج زيد ، فإن زيدا كان عالما، وكان صدوقا، ولم يدعكم إلى نفسه، وإنما دعاكم إلى الرضا من آل محمد صلى الله عليه وآله ولو ظهر لوفى بما دعا إليه…”
• قول الإمام الرضا عليه السلام :
“إنه |يعني زيدا بن علي| كان من علماء آل محمد صلى الله عليه وآله، غضب لله فجاهد أعداءه حتى قتل في سبيله، ولقد حدثني أبي موسى بن جعفر(أنه سمع أباه جعفرايقول: حم الله عمي زيدا، إنه دعا إلى الرضا من آل محمد صلى الله عليه وآله ولو ظفر لوفى بما دعا إليه، إنه قال: ادعوكم إلى الرضا من آل محمد صلى الله عليه وآله”.
• الهدف الثالث:
الحصول على قاعدة شعبية واسعة.
إن الإمام الرضا عليه السلام كان يحظى بحب واحترام الناس، فأراد المأمون بعمله هذا أن يكسب شعبية واسعة وقوية.
• الهدف الرابع:
وضع الإمام الرضا تحت المراقبة السياسية عن قرب:
1. أحاطه بكثير من الجواسيس لرصد كل حركاته وتصرفاته.
2. حدد طريقة الاتصال به.
3. كان لا يسمح لأتباع الإمام أن يتواصلوا معه.
• الهدف الخامس:
عزل الإمام الرضاع قواعده الشعبية، وهذا له تأثيراته السلبية الكبيرة على تلك القواعد التي لا تتحرك إلا بأمر الإمام وتوجيهاته، ثم إن هذا الانفصال يؤثر على أتباع الإمام فكريا وروحيا وسلوكيا.
• الهدف السادس:
الحصول على اعتراف ضمني من الإمام الرضابشرعية خلافته وتصرفاته.
• لماذا قبل الإمام الرضا ولاية العهد؟
كان الإمام بين خيارين:
• الخيار الأول: المواجهة، وما كانت الشروط الموضوعية لنجاح المواجهة متوفرة.
• الخيار الثاني: القبول والعمل لإفشال اللعبة السياسية.
وهذا ما مارسه الإمام عليه السلام، فمن أهم شروطه لقبول ولاية العهد:
“أن لا تناط به أي مسؤولية من مسؤوليات الحكم”
• لماذا هذا الاشتراط؟
إن الإمام كونه الإمام المعصوم وصاحب الحق، لا يمكن أن يعطي لحكم المأمون شرعيته الدينية، من خلال تحمله لمسؤوليات الحكم، وهذا يجب أن لا يفهم بأنه يمثل خطا عاما لا إتباع مدرسة أهل البيت في التعامل مع أنظمة الحكم، فالإمام له خصوصية الإمامة والعصمة، مما يعطي لمواقفه وتصرفاته خصوصياتها، ثم إن الأئمة عليهم السلام فرضوا على بعض أتباعهم أن يكون لهم حضورهم في بعض مؤسسات الحكم، ومنعوا آخرين، فالمسألة في القبول والرفض خاضعة لحسابات موضوعية دقيقة، وخاضعة لرؤية فقهية بصيرة.
دروس مستوحاة:
من خلال القراءة السياسية لبيعة الإمام الرضا نستوحي مجموعة دروس يجب أن تكون حاضرة في واقعنا المعاصر:
• الدرس الأول: يجب أن نقرا الواقع السياسي المتحرك حولنا قراءة متأنية بصيرة.
إن غيا القراءة الواعية يجعلنا نمارس تخبطا في التعاطي مع الواقع السياسي، ولا شك إن هذا التخبط له تأثيراتها الخطيرة على مجمل أوضاعنا.
كثيرون يعيشون اللامبالاة في قراءة الواقع السياسي، وموقف اللامبالاة له نتائجه المدمرة، وكثيرون يقرأون هذا الواقع بسذاجة وغباء، وموقف الغباء له نتائجه السيئة.
فمطلوب منا أن لا نعيش اللامبالاة والسلبية في التعامل مع الحراك السياسي، ومطلوب منا أن لا نقرأ هذا الحراك بغباء وسذاجة.
الدرس الثاني:
يجب أن نكون على حذر كبير من الوقوع في حبائل “اللعبة السياسية” الماكرة، ومن الوقوع في حبائل”الأنظمة السياسية الحاكمة”.
إن اللعبة السياسية لها دهاليزها المعتمة، وإن أنظمة السياسة لها دهاناتها وأهدافها ومساوماتها، فما أكثر الذين لم يتقنوا اللعبة السياسية فسقطوا ضحايا هذه اللعبة، وما أكثر الذين خدعتهم مساومات الأنظمة فأصبحوا عبيدا لأهواء الحكماء والمتنفذين.
الدرس الثالث:
إن نمط التعاطي مع المشروعات السياسية ايجابيا أو سلبيا في حاجة إلى دراسة دقيقة وواعية تضع في حسابها مجموعة عناصر:
1. الإيجابيات والسلبيات
2. المناخات الموضوعية
3. الصيغ والأساليب
4. العناوين الأولية والثانوية
ومن خلال هذه الدراسة يتحدد الموقف في المواصلة أو المفاصلة، وربما تكون الصيغة المطلوب شكلا من المزاوجة بين المواصلة والمفاصلة.
الدرس الرابع:
إن التصدي السياسي أو الجهادي يجب أن تتوفر له”مؤمناته الشرعية” وإلا تحول إلى تيه وانحراف وضلال، والمؤمنات الشرعية تنطلق من وجود رؤية فقهية بصيرة بصيرة قادرة على تحديد الموقف الشرعي، في المنطلقات والممارسات والأهداف، وفي بعض الحالات لا يكفي مجرد الرؤية الفقهية، بل لا بد من إمضاء الفقيه، وذلك حينما تكون المساحة خاضعة “لولاية الفقيه”.
فيجب على الإنسان المسلم حينما ينطلق في مشروع سياسي أن يتبصر موقفه الشرعي، وليس في هذا وصاية أو قيمومة على العمل السياسي من قبل علماء الدين حسبما تصور الكتابات التحريضية ضد الدين والدينيين.
إن انتماءنا إلى الدين يفرض أن نصوغ كل حراكنا الروحي والثقافي والاجتماعي والسياسي من خلال رؤى الدين وتوجيهاته، هذه هي حقيقة الانتماء والمتابعة، وإلا كنا أدعياء دين ولسنا أبناء دين.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.