ماذا لو أصبح جمهور عاشوراء يحمل عواطف لا تملك وعياً ولا تملك بصيرة؟
الحمدلله ربِّ العالمين والصّلاة والسّلام على خير الخلق أجمعين محمد المصطفى وآله الطيبين الطاهرين
السَّلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته
ونحن نستقبل موسم عاشوراء الإمام الحسين (عليه السّلام) لابد لنا من عدة وقفات نحاول من خلالها أن نتعرف على الصيغة الصحيحة لإحياء هذا الموسم والتعامل مع أجوائه والاستفادة من عطاءاته.
الوقفة الأولى: لا نريد جمهوراً عاشورياً يحمل عاطفةً خاليةً من الوعي:
في موسم عاشوراء تتأجج العاطفة الحسينية، وتصل إلى درجة الغليان والهيجان، إننا نريد للعاطفة أن تتصاعد وأن تتأجج، ونرفض كل الدعوات التي تحاول أن تجمّد العواطف الحسينية مهما كانت الذرائع والحجج، فالصيغة المأساوية تفرض نفسها في قضية كربلاء، والعاطفة تعطي للقضية بقاءها وديمومتها وحرارتها ووهجها، وهكذا يجب أن يتشكّل الجمهور العاشوري بعواطفه الحسينية المتأججة .
ولكن ؟ أيّها الأحبة ؟ إننّا لا نريد جمهوراً عاشورياً يحمل عاطفة خالية من الوعي والبصيرة، العاطفة التي لا يحتضنها وعي وفهم وبصيرة عاطفة غبية بليدة وعاطفة عمياء.
وماذا لو أصبح جمهور عاشوراء يحمل عواطف لا تملك وعياً ولا تملك بصيرة؟ وماذا لو أصبح جمهور عاشوراء يحمل عواطف غبية بليدة عمياء؟
هذا الجمهور معرّض للتخبط والعشوائية بل ومهدّد بالتيه والانحراف، وربّما يبتعد جمهور عاشوراء عن أهداف الحسين عليه السَّلام لأنّه جمهور لا يملك الوعي بهذه الأهداف.
وربّما تناقض جمهور عاشوراء مع قيم الثورة الحسينية لأنّه جمهور لا يملك بصيرة بهذه القيم، وربّما مارس جمهور عاشوراء أعمالاً تتنافى مع مفاهيم كربلاء لأنّه جمهور لا يملك رؤية واضحة بهذه المفاهيم.
ولذلك أكدّت النصوص الدينية على ضرورة الوعي والبصيرة في حركة الإنسان المسلم حتى لا ينحرف به المسار ولا يضل به الدرب، جاء في الحديث: «العامل على غير بصيرة كالسائر على غير الطريق، لا تزيده كثرة السير إلاّ بعداً».
وورد في النص القرآني: {قل هذه سبيلي أدعو إلى اللّه على بَصيرَةٍ أنا ومن اتــَّبعني وسبحان اللّه وما أنا من المشركين} (الآية 801 من سورة يوسف).
فلا بد من الوعي ولابد من البصيرة، حتى لا يتحول جمهورنا إلى شارع أعمى يضلله الإعلام الزائف، وتضلله الشعارات الكاذبة، وتخدعه العناوين البراقة، فينقاد على غير هدى في مساراتٍ تبتعد به عن دينه وقيمه وأصالته، هكذا تكون العواطف العمياء التي لا يوجهها وعي ولا ترشدها بصيرة.
يا جمهور عاشوراء أعطوا لعواطفكم الحسينية المتأججة في هذا الموسم جرعات كبيرة من الوعي الحسيني والبصيرة الحسينية، وحذارِ حذارِ من خطابات التجهيل التي تحاول أن تصنع منكم جمهوراً لا يفهم من عاشوراء إلاّ البكاء، ابكوا الحسين (عليه السلام) فالبكاء على الحسين (عليه السلام) تعبير صادق عن الحب والولاء والمواساة، والبكاء على الحسين (عليه السلام) إنصهار وتفاعل وذوبان في مأساة كربلاء، والبكاء على الحسين (عليه السلام) عمل نتقرب به إلى اللّه تعالى، ولكننا يجب أن نملك الوعي الذي ينفتح بنا على أهداف الحسين، وينفتح بنا على دروس كربلاء، وينفتح بنا على عطاءات عاشوراء، فجمهور عاشوراء يحمل عاطفة عاشوراء، ويحمل وعي عاشوراء، فلا قيمة لعاطفة لا تملك وعياً، ولا قيمة لوعي لا يملك عاطفة.
الوقفة الثانية: لا نريد جمهوراً عاشورياً يحمل عاطفةً نظريةً ويحمل وعياً نظرياً:
بمقدار ما للعاطفة من قيمة، وبمقدار ما للوعي من قيمة، فإنَّ القيمة الحقيقية للعاطفة أن تتحول إلى حركة وفعل، وأنَّ القيمة الحقيقية للوعي أن يتحول إلى سلوك وإلتزام.
٭ {قل إن كنتم تحبون اللّه فاتبعوني يُحبِبْكُم اللّه ويَغْفِرْ لكم ذنوبَكمْ واللّه غفور رحيم}.
فأرقى عاطفة أن نحب اللّه سبحانه، إلاّ أنَّ هذه العاطفةَ لا قيمة لها إذا لم تتحول إلى اتباع الرسول (صلى اللّه عليه وآله) وعندها يكون الإنسان محبوباً عند اللّه تعالى ومغفوراً له ذنبه.
فالعاطفة الحسينية تعبير عن الحب والولاء والمواساة، ولن يكون هذا التعبير صادقاً إلاَّ إذا ترجمته أعمال متحركة تجسّد الإلتزام بأهداف الحسين، وأهداف الحسين (عليه السلام) هي أهداف الإسلام، فلن يكون حسينياً من يتناقض في سلوكه مع أحكام الإسلام، ومبادىء الدين، وقيم القرآن، فالجمهور العاشوري جمهور ملتزم ومطيع لله تعالى، ومجسّد للقيم والمبادىء والأخلاق، فالعاطفة العاشورية الصادقة عاطفة متحركة فاعلة ملتزمة.
وكذلك الوعي العاشوري لن يكون وعياً حقيقياً إلاَّ إذا استطاع أن يصوغ سلوك الجمهور في خط الأهداف الحسينية، فأيّ قيمةٍ لثقافةٍ جامدةٍ محنطّةٍ، غير قادرة أن تصنع سلوكاً والتزاماً وتجسيداً، وأيّ قيمة لثقافةٍ نظريةٍ لا تملك حضوراً عملياً، ولا تنتج تقوى، ولا تربّي أخلاقاً.
٭ {إنَّ الذينَ قالوا ربُنَّا اللّه ثُمَّ استقاموا تَتَنَزَلُ عليِهمُ الملائكةُ ألاَّ تَخَافُوا ولا تَحْزَنُوا وأبْشروُا بالجنةِ التي كنْتُم تُوعَدُون. نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرةِ ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تَدَّعُون. نُزُلاً من غفورٍ رَحيم} (فصلت03 – 23).
{إنّ الذين قالوا ربَّنَا اللّه} ولم يترجموا ذلك سلوكاً وعملاً وإستقامةً، فهم يحملون ثقافة نظرية، وهم يتحدثون بما لا يفعلون، فلا قيمة حقيقية لهذه الثقافة، ولا قيمة حقيقية لهذا الحديث.
الوعي الإيماني الحقيقي هو الذي يصنع السلوك الإيماني، ويصنع الإستقامة الإيمانية، في كلِّ مجالات الحياة، يا جمهور عاشوراء أعطوا لوعيكم العاشوري حضوراً عاشورياً في كل مواقع السلوك والحركة والعمل، وحذارِ حذارِ من تلك الخطابات التي تخلق فيكم روح التهاون والتساهل بأحكام اللّه تعالى، وتعاليم الدين، الخطابات التي تقول لكم ابكوا الحسين (عليه السلام) وأصنعوا ما شئتم فإنَّ مصيركم إلى الجنة وإن تمردتم على أحكام اللّه، وإن ارتكبتم الذنوب والمعاصي والمخالفات، وإن مارستم الجرائم والموبقات، اللّه أكبر، هل من أجل هذا قتل الإمام الحسين وسفك دمه في كربلاء، وقتل أهل بيته وأصحابه، وذبح أطفاله، وحرقت خيامه وسبيت نساؤه.
٭ لماذا هذا التشويه والإساءة لقضية الإمام الحسين (عليه السلام) ؟
٭ لماذا هذا العبث والتلاعب بقيم الثورة الحسينية؟
٭ لماذا هذا الإنحراف والإبتعاد عن أهداف عاشوراء؟
إنّكم يا جمهور عاشوراء تملكون من الوعي والأصالة ما يجعلكم ترفضون هذا اللون من الخطابات المأسورة إمّا إلى غباء وإمّا إلى أهداف سيئة، أن نبكي الحسين عمل عبادي نتقرب به إلى اللّه تعالى ونحظى من خلاله بالأجر الكبير والثواب العظيم، ولكن أن نبكي الحسين (عليه السلام) ونجسّد أخلاق يزيد بن معاوية، أخلاق الفسق والفجور والعصيان، وأخلاق الظلم والجور والعدوان، وأخلاق العبث بالمُثل والقيم والأحكام، فأيّ قيمة لبكاء من هذا الطراز، وإلاَّ فبعض رموز الجريمة يوم عاشوراء هزتهم مشاهد المأساة، فلم يتمالكوا إلاَّ أن يبكوا وأن يذرفوا الدموع، لا يتسع المجال أن نتابع الوقفات، ولنا عودة إليها إن شاء اللّه.