العنوان الأول:متابعة لصفات كمال العقل عند الإنسان المؤمن-الخصلة السادسة/ العنوان الثاني:كلمة حق يراد بها باطل
في متابعة لحديث الإمام الرضا “ع” نقف اليوم عند “الخصلة السادسة” من عشر خصال وردت في حديثه، إذ قال: “لا يتم عقل امرئ مسلم حتى تكون فيه عشر خصال. ..” وسادس هذه الخصال: “ولا يمل من طلب العلم طول دهره” فمن تمام العقل أن يكون المرء دائم السعى في طلب العلم والثقافة والمعرفة، لا يشبع من الازدياد، يجد اللذة كل اللذة في حضور مجلس علم، أو في قراءة كتاب، أو في ملازمة درس، أو في الاستفادة من حديث، أو في الاستماع إلى محاضرة، أو في سؤال يضيف إليه معرفة، أو في حوار يمنحه بصيرة… إنه يجد في العلم قيمة كبيرة، مادام هذا العلم يقوده إلى هدى، ويبعده عن ضلال.ويجد في الثقافة غاية كبيرة، مادامت هذه الثقافة تأخذ به إلى طريق الصلاح والرشاد، وتنأى به عن دروب الغي والفساد. ويجد في المعرفة عبادة، مادامت هذه المعرفة تنفتح به على الله سبحانه، ومادامت هذه المعرفة هي السبيل إلى رضوان الله تعالى.
دعونا نستنطق بعض كلمات معصومة صادرة عن رسول الله “ص” وعن الأئمة من أهل بيته “ع” بحسب ما وردت في عدة من مصادر الحديث، هذه الكلمات تحث على التفقه والتعلم والتثقف في أمور الدين…
في كلمة لرسول الله “ص”: “أف لكل مسلم لا يجعل في كل جمعة “يعني في كل أسبوع” يوما يتفقه فيه أمر دينه ويسأل عن دينه”.
والتفقه في أمر الدين لا يعني – فقط – تعلم الأحكام الفقهية، وإنما يتسع لكل ما يتصل بأمر الدين من عقائد وأفكار ومفاهيم وقيم وأخلاق ورؤى وتصورات… فالإنسان المسلم مطلوب منه أن يتوافر على: ثقافة عقائدية وفقهية وروحية وأخلاقية واجتماعية وتاريخية وسياسية، فهذه هي ثقافة الحياة… هذه الألوان من الثقافات تشكل ضرورة لتكوين ذهنية الإنسان المسلم وفق الصيغة المستمدة من الدين ومفاهيمه وقيمه.
فالحديث الآنف الذكر يؤكد ضرورة أن يمارس الإنسان المسلم عملية التفقه والتعلم من أجل أن ينمي وعيه الديني وثقافته الدينية، لأن غياب هذا الوعي وهذه الثقافة يؤدي إلى نتائج خطيرة منها:
1- العمل على غير بصيرة: وهنا يتخبط الإنسان في حركته وسلوكه وممارساته، وربما تاه أو ضل أو انحرف، جاء في الحديث: “العامل على غير بصيرة كالسائر على غير الطريق، لا يزيده كثرة السير إلا بعدا…”.
فقد يتصور هذا الإنسان الفاقد للبصيرة أنه على الجادة، إلا أنه يتحرك في الدرب المنحرف، وفي الطريق الخاطئ. فما أكثر أولئك الذين يتحركون في الدروب المنحرفة، وفي الطرق الخاطئة وهم يحسبون أنهم سائرون في الدرب المستقيم، وفي الطريق القويم…
ولعل هؤلاء هم الذين عناهم الله تعالى بقوله: “قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا” “الكهف: 104”.
على رغم أن الآية نزلت في كفار أهل الكتاب “اليهود والنصارى” فإنها تنطبق على كل الذين يعيشون الضلال الفكري والروحي والعملي وهم يعتقدون أن هذا الانتماء الضال هو طريق الخلاص والنجاة، وهو الطريق الذي يحقق لهم النجاح والتقدم والازدهار.
وربما كان هؤلاء من أصحاب النظريات والايديولوجيات الرافضة للدين، كما هو شأن الاتجاهات العلمانية والرأس مالية والشيوعية في هذا العصر، فأصحاب هذه الاتجاهات يرون أن الخلاص كل الخلاص على يد هذه النظريات وهذه الايديولوجيات، إلا أنهم خادعون أو مخدوعون، فهذا الفكر الذي يحملونه ويروجون له ليس إلا الوهم والسراب والزيف، والخداع والتيه والضلال والبؤس والشقاء…
قال تعالى: “ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى…” “طه:124”.
فصيلان خطيران
وربما كان هؤلاء الذين يعيشون الضلال ممن يحملون عناوين دينية، كما كان الخوارج في عهد أمير المؤمنين “ع”، الذي قام إليه ابن الكواء فسأله عن أهل هذه الآية “الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا”، فقال: “أولئك أهل الكتاب كفروا بربهم، وابتدعوا في دينهم، فحبطت أعمالهم، وأهل النهر منهم ليس ببعيد “يعني الخوارج””.
وفي رواية أخرى قال: “منهم أهل الحروراء” والأمر ينطبق تماما في هذا العصر على “جماعات” تحمل من الدين شعارا وهي تمارس الإرهاب والقتل وسفك الدماء كما يحدث في العراق وفي مناطق أخرى.
2- ومن النتائج الخطيرة لغياب الوعي الديني والثقافة الدينية التطبيقات الخاطئة التي تسيء إلى سمعة الدين وسمعة المتدينين. روي عن أمير المؤمنين “ع” أنه قال: “قصم ظهري اثنان: عالم متهتك، وجاهل متنسك”.
هذان الفصيلان من الناس يشكلان خطرا كبيرا على الدين: الفصيل الأول العلماء المتهتكون: يفترض في علماء الدين أن يكونوا قادة للناس ونماذج يقتدى بهم، وأدلاء على طريق الله، فماذا يكون مصير الناس، إذا انحرف العلماء، وفسق العلماء، وكذب العلماء، واغتاب العلماء، وداهن العلماء، وصمت العلماء، فالويل كل الويل للناس، ولدين الناس ولعقائد الناس، ولأخلاق الناس…
الفصيل الثاني الجهال المتنسكون: إنهم يقدمون صورة شوهاء للتنسك، وللتعبد وللتدين، لأنهم لا يملكون الفقه والفهم والرؤية السليمة فيما يمارسون من تنسك وتعبد وتدين، فتأتي الممارسة متخبطة خاطئة مشوهة، فيحسب الناس ما يصدر عنهم نسكا وعبادة ودينا، في حين أنه شيء آخر لا علاقة له بالنسك والعبادة والدين.
في كلمة لأمير المؤمنين “ع”: “لا خير في عبادة ليس فيها تفقه، ولا خير في علم ليس فيه تفكر، ولا خير في قراءة ليس فيها تدبر”.
فإذا أردت – أخي المؤمن – أن تكون على بصيرة في أمر دينك، فاحرص كل الحرص على أن تتفقه وأن تتعلم، وأن تتثقف، والطرق إلى ذلك كثيرة وكثيرة:
– داوم على القراءة والمطالعة إن كنت قادرا على ذلك، تزدد علما وفقها وثقافة…
– حاول إن وجدت متسعا أن تحضر درسا في الفقه أو العقيدة أو التفسير أو الأخلاق..
– كن على تواصل دائم مع مرافد الوعي الديني والثقافة الإسلامية…
– سل عما لابد لك من علمه، ولا تعذر في جهله “حديث لأمير المؤمنين”.
فأعط – أيها المؤمن – من وقتك، ومن جهدك، ما يمنحك بصيرة في دينك، وفقها في عبادتك، وهديا في خطواتك…
قال الإمام الكاظم “ع”: “تفقهوا في دين الله، فإن الفقه مفتاح البصيرة، وتمام العبادة، والسبب إلى المنازل الرفيعة، والرتب الجليلة، في الدين والدنيا، وفضل الفقيه على العابد كفضل الشمس على الكواكب ومن لم يتفقه في دينه لم يرض الله له عملا”.
كلمة حق يراد بها باطل
قول معروف لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب “ع” قاله حينما رفع الخوارج شعار “لا حكم الا لله”.
هذا الشعار هو كلمة حق بلا إشكال، الا ان الخوارج ما كانوا يريدون من هذا الشعار الا الباطل.
الإمام علي “ع” على بصيرة تامة بأمر هؤلاء القوم الذين أخبر عنهم النبي “ص” بقوله: “يخرج في هذه الأمة قوم تحقرون صلاتكم مع صلاتهم، يقرأون القرآن ولا يجاوز حلوقهم، يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية”.
نعم كان هؤلاء القوم – في الظاهر – عبادا، وقراء للقرآن، ولكنهم ما كانوا يملكون البصيرة في الدين، فحينما رفعوا في وجه علي بن أبي طالب شعار “لا حكم الا لله” ما كانوا يريدون الا الباطل، فما بالك بقوم كفروا عليا، وحاربوا عليا الذي قال فيه رسول الله “ص” “علي مع الحق والحق مع علي” فهل تراهم يريدون الحق وهم يرفعون هذا الشعار؟
شعارات لطلب الباطل
وكم من الناس، وكم من اصحاب الاتجاهات وكم من الساسة في هذا العصر يحملون شعارات حق، وكلمات حق، الا أنهم لا يريدون بها الا الباطل.
وما أكثر التطبيقات في الواقع المعاصر… فهل أميركا صادقة وتريد الخير لشعوبنا حينما رفعت شعار “الاصلاح السياسي والديمقراطية” وسوقته الى مجتمعات العرب والمسلمين؟ أم انها تريد الهيمنة كل الهيمنة على هذه الشعوب، وهذه المجتمعات؟ وهل أنها صادقة حينما رفعت شعار “مكافحة الإرهاب” وهي التي رعت إرهاب الصهاينة ودعمت كل الأنظمة التي تمارس العنف والاستبداد ضد الشعوب؟
وفي الساحة المعاصرة يتحرك شعار “مناهضة العنف ضد المرأة” وهو شعار حق، فيجب ان تحمى المرأة من كل أشكال العنف والظلم والامتهان، ولكن ليس كل الذين يرفعون هذا الشعار صادقين ويريدون الخير للمرأة، وخصوصا الذين يعملون على تغريب المرأة وإبعادها عن دينها وهويتها وأصالتها وقيمها.
وفي الساحة المعاصرة يتحرك شعار “مناهضة ثقافة التكفير”، انه شعار يحمل كلمة حق، فكم هي المآسي والويلات التي أنتجها خطاب التكفير والتضليل، ولعل من أهم نتاجات هذا الخطاب بعض حالات العنف والتطرف والارهاب في هذا العصر. ولكن السؤال المطروح: هل ان كل الذين يحملون هذا الشعار يريدون به الحق؟
بكل تأكيد الأمر ليس كذلك… بعض الذين يرفعون هذا الشعار يريدون ان يحموا حركة الضلال العقيدي والضلال الثقافي والضلال السياسي في مجتمعات المسلمين..
بعض الذين يرفعون هذا الشعار يريدون ان تتجمد أي مواجهة لحالات الانحراف والارتداد والنفاق. وكأن مجتمعاتنا العربية والإسلامية خالية تماما من كل أشكال الضلال والتمرد على الدين، والتنكر للمبادئ والقيم، وهذا يعني ان نشطب من خطابنا المعاصر جميع هذه العناوين، وهي عناوين امتلأت بها كلمات القرآن الحكيم، وأحاديث السنة الشريفة.
إن من مسئولية كل المخلصين لهذا الدين ان يتصدوا لحالات الضلال والارتداد والانحراف متى ما تحركت في واقع المسلمين، واستهدفت هويتهم العقيدية والثقافية والروحية، ومن مسئولية كل المخلصين لهذا الدين أن يعلنوا البراءة من أي تيار أو حزب أو اتجاه فكري أو اجتماعي أو سياسي يضع ضمن أهدافه المعلنة أو المتسترة “محاربة الدين ومبادئه وقيمه وأحكامه”. وإن من مسئولية كل المخلصين لهذا الدين أن يدفعوا عنه كل الإشكالات والشبهات والاتهامات، ومن مسئوليتهم أن يفضحوا كل أشكال الزيغ والضلال والانحراف، مادامت الرؤية واضحة كل الوضوح.
نعم لا يسوغ بأي حال من الأحوال اعتماد “الظن والشك” وسيلة لاتهام الآخرين والتشهير بهم فذلك من المحرمات القطعية في الدين. واذا غاب دور المخلصين في التصدي والمواجهة والرفض والبراءة، والكشف والتعرية، فإن هذا يترك الأجواء مفتوحة لكل الاختراقات ولكل ألوان العبث والتحريف والتشويه والمصادرة. وتشتد الخطورة عندما ترفع القوى المضادة للدين “شعارات حق يراد بها باطل” كما فعل الخوارج في التاريخ، ولولا التحذيرات الصادرة عن سول الله “ص” ولولا التصدي الواضح من أمير المؤمنين علي بن أبي طالب “ع” لاستطاع هؤلاء ان يجذروا فكرهم وخطهم وضلالهم في واقع المسلمين، بما حملوا من شعارات تعبر في ظاهرها عن “الحق”، وبما أظهروا من عبادة منقطعة النظير، وبما أبرزوا من شدة في الدين بهرت النفوس حتى أنهم كانوا يتصايحون وهم يتهافتون على الموت في معركة النهروان: “لا حكم الا لله… الرواح الرواح الى الجنة”.
سفاكو الدماء باسم الإسلام
وما أشبه الليلة بالبارحة، فهاهم سفاكو دماء الابرياء – في هذا العصر – قتلة الاطفال والنساء، العابثون بأمن البلاد والعباد، الرافعون شعارات الجهاد كذبا وزورا الذين يفجرون أنفسهم بالأحزمة الناسفة، والسيارات الملغومة، يتصايحون “الرواح الرواح الى الجنة والى لقاء رسول الله”، انهم مارقون من الدين، كما مرق أولئك “الشراة” في التاريخ.
فالمارقون لم ينتهوا من واقع المسلمين، العناوين تتغير، والألوان تتبدل، والأشكال تتعدد، ويبقى المروق هو المروق، ويبقى الضلال هو الضلال، والانحراف هو الانحراف… لا نريد أن نمارس “ثقافة التكفير” فهي ثقافة بغيضة، وثقافة مدمرة، وثقافة محرضة، والشواهد صارخة على جرائم التكفييرين ولكن لا يجوز أن نمارس “ثقافة المداهنة” فهي ثقافة ممقوتة، وثقافة محرمة، وثقافة ملعونة وثقافة تقود مجتمعاتنا الى الهلاك والضياع والفساد، “لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى بن مريم، ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون، كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون” “المائدة: 78”.
قال الامام الباقر “ع”: “أوحى الله عزوجل الى شعيب النبي – “ع”: إني معذب من قومك مئة ألف: أربعين ألفا من شرارهم، وستين ألفا من خيارهم، فقال “ع” يا رب هؤلاء الاشرار فما بال الاخيار؟ فأوحى الله عزوجل اليه: داهنوا أهل المعاصي ولم يغضبوا لغضبي”
أيها الأخ المؤمن: حذار حذار من المداهنة والصمت والسكوت حينما ينتشر الباطل، وحينما يتحرك الانحراف وحينما يحاول اصحاب المبادئ الضالة، وأصحاب الاتجاهات الفاسدة ان يعبثوا بعقائد وقيم الناس وان يقودوا الحياة بعيدا عن منهج الله وشريعته، فان المداهنة وخصوصا عندما يتعرض الدين لخطر، وعندما تتعرض قيم الدين لخطر، جناية تضع صاحبها أمام المسئولية الإلهية والعقوبة الأخروية.
ربما يتذرع البعض بحجة التوافقات السياسية والتحالفات الوطنية التي قد تفرض شيئا من المداهنة وشيئا من الصمت والمساومة. كل ذلك لا يبرر المداهنة والصمت والمساومة، ولا يبرر التفريط بالمبادئ والقيم من أجل مصالحات أو تحالفات أو أي هدف آخر.
مسئوليتنا ان نغضب لله عزوجل والا كنا في معرض غضبه تعالى، وفي معرض عقوبته.
قال الامام الصادق “ع”: “ان الله تعالى بعث ملكين إلى أهل مدينة ليقلباها على أهلها، فلما انتهيا الى المدينة وجدا رجلا يدعو الله ويتضرع اليه، فقال أحد الملكين لصاحبه: أما ترى هذا الداعي؟
فقال: قد رأيته ولكن أمضي ما أمر ربي.
فقال: لا، ولكن لا أحدث شيئا حتى أراجع ربي، فعاد إلى الله تبارك وتعالى فقال: يا رب اني انتهيت الى المدينة فوجدت عبدك فلانا يدعوك ويتضرع اليك، فقال: امض ما أمرتك به، فإن ذا رجل لم يتمعر وجهه غيظا لي قط”.
ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين… ربنا أفرغ علينا صبرا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين، ربنا أفرغ علينا صبرا وتوفنا مسلمين.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.