النبوغ المبكر عند الشهيد السيدالصدر
النبوغ المبكر عند الشهيد السيدالصدر
من القصص التي تعبر عن نبوغه المبكر – بحسب ما جاء في كتاب “شهيد الأمة” – أنه لما بلغ العاشرة من عمره تجاذبه في داخل الأسرة اتجاهان: اتجاه يحثه على التوجه نحو الدراسة الحوزوية، وكانت والدته تتبنى هذا الاتجاه، واتجاه يرغبه في مستقبل يضمن فيه سعادة دنياه والعيش في رفاه ودعة بعيدا عن حياة الحوزة وما يكتنفها من فقر وفاقة، وكان يتبنى هذا الاتجاه المرحوم السيدمحمد الصدر، أحد شخصيات الأسرة الكبار، وكان رئيسا للوزراء ولمجلس النواب في حكومات متعاقبة في العراق.
أما السيدالصدر فقد حسم الموقف، إذ أضرب عن الطعام من دون إعلان، واكتفى من الطعام بقطعة صغيرة من الخبز يسد بها رمقه طوال الليل والنهار. وبعد أيام أحس الجميع بالإضراب الهادئ، فسألوه عن السبب، فأجاب الصدر ابن العاشرة من العمر: “إن الذي يستطيع أن يعيش على قطعة صغيرة من الخبز أياما عدة قادر على أن يستمر إلى آخر العمر كذلك، فأنا لا أخشى من الفقر ولا أخاف من الجوع…”.
وهكذا استطاع أن يحدد خياره عن قناعة وإصرار واستعداد لتحمل كل الأتعاب والمعاناة، مادام هذا الخيار يمثل انخراطا في صفوف ورثة الأنبياء.
ومن مظاهر النبوغ المبكر عند السيدالصدر ما تحدث به أحد المعلمين في مدرسة منتدى النشر الابتدائية التي التحق بها السيدالصدر قبل أن يتفرغ للدراسة في الحوزة.
قال هذا المعلم وهو يتحدث عن السيدالصدر الطالب الصغير في مدرسة منتدى النشر: “أحببت أن أتعرف أكثر على هذا الطفل، وشاءت الصدف أن أنفرد بالسيد المدير فاستوضح منه عما كان يشغل تفكيري بشأن هذا الطفل، فأجابني: أرجو أن ترعاه كما يرعاه زملاؤك من الهيئة التدريسية، فقد سبق وأن أوصيتهم به خيرا لأنني أتوسم فيه أن يكون له مستقبل كبير باعث على التفاخر والاعتزاز بما يقوم به، والدرجة العلمية التي أترقب أنه سيصلها ويبلغها…”.
وواصل هذا المعلم حديثه عن السيدالصدر قائلا: “وقد كان طفلا يحمل أحلام الرجال ويتحلى بوقار الشيوخ، وجدت فيه نبوغا عجيبا وذكاء مفرطا، يدفعانك إلى الاعتزاز به ويرغمانك على احترامه وتقديره، كما شاهدت كل المدرسين أيضا يكنون له هذا الاحترام وهذا التقدير.
لقد كان كل ما يدرس في هذه المدرسة من جميع العلوم دون مستواه العقلي والفكري… كان شغوفا بالقراءة، محبا لتوسيع دائرة معرفته، ساعيا بجهد إلى تنمية مداركه ومواهبه الفذة.
كان لا تقع عيناه على كتاب إلا وقرأه وفقه ما يحتويه في حين يعز فهمه على كثير ممن أنهوا المرحلة الثانوية.
ما طرق سمعه اسم كتاب في أدب أو علم أو اقتصاد أو تاريخ إلا وسعى إلى طلبه… كان يقرأ كل شيء. وقد حدثني أحد الزملاء ممن كان لديهم إلمام بالماركسية واطلاع على كثير من الكتب التي كتبت فيها قائلا لي: لقد جاءني يوما مبديا رغبته في أن يقرأ بعض الكتب الماركسية ونظرياتها ليطلع على مكنونات هذه النظرية، ترددت في بادئ الأمر في إرشاده إلى ذلك لأنه طفل، وخشيت أن تتشبع أفكاره بالماركسية ونظرياتها، وبعد إلحاح منه شديد، ولما كنت لا أحب رد طلبه، أرشدته إلى بعض المجلات والكتب المبسطة في كتابتها عن الماركسية وفي عرضها لها، وقد أخذت على عاتقي تهيئة ما تيسر لي من هذه المجلات والكتب وهي نادرة وعزيزة لأنها كانت آنذاك من الكتب المحرم بيعها في المكتبات. وبعد أن تسلمها مني تهلل وجهه فرحا ثم أعادها إلي بعد أن قرأها، مكررا طلبه أن أجد له كتبا أكثر موضوعية وأعمق شرحا وعرضا لآراء الماركسية. فهيأت له ما طلب، وكنت أظن أنه سوف لا يفقه منها شيئا، لأنني أنا نفسي على رغم مطالعتي الكثيرة في هذا الموضوع أجد أحيانا صعوبة في فهمها، وبعد مدة أسبوع واحد أعادها إلي وطلب غيرها”.
وأضاف المدرس قائلا: “أحببت أن أعرف ما الذي استفاده هذا الطفل من قراءته لهذه الكتب، وإذا به يدخل في شرح الماركسية طولا وعرضا، فأخذت عن شرحه لها كل ما غمض علي معناه عند قراءتي لها… فعجبت لهذا الطفل المعجزة وهو لما يزل في المرحلة الثالثة من الدراسة الابتدائية. وقد زاد في اطمئناني – عندما راح يشرح لي – أنه كان يأتي على مناقشة كل رأي على حدة مناقشة العالم المتبحر في العلم، فاطمأننت أنه لم يتأثر بالماركسية مطلقا، وأنه كان يقرأها كناقد لا كدارس لها…”. انتهى ما أوردناه من حديث أحد معلميه، وكما جاء في “شهيد الأمة”.
ومن شواهد النبوغ عن السيدالصدر: أنه درس أكثر أبحاث السطح العالي بلا استاذ… وفي الحادية عشرة من عمره كتب رسالة في المنطق، ومنذ بلغ الحلم كان لا يقلد، إذ وجد في نفسه القدرة على الاجتهاد. ونواصل الحديث عن الشهيد الصدر في لقاء قادم إن شاء الله تعالى.