في ذكرى الشهيد السيدمحمد باقر الصدر
في ذكرى الشهيد السيدمحمد باقر الصدر
تمر بنا هذه الأيام الذكرى الخامسة والعشرون لرحيل العالم الرباني الكبير الشهيد السعيد السيدمحمد باقر الصدر “رض” وشقيقته الشهيدة السعيدة السيدة آمنة الصدر – بنت الهدى – “رض”.
النسب الشريف: آل الصدر شجرة طيبة مباركة يمتد نسبها إلى الإمام موسى بن جعفر “ع” سابع الأئمة من أهل البيت “ع”، ومنه يتصل النسب إلى سيد الأنبياء محمد “ص”.
ومما يميز سلسلة النسب لشهيدنا الصدر الموصولة بالإمام الكاظم “ع” أنها سلسلة لا تضم إلا مجتهدا أو عالما فاضلا، وهي ميزة قلما تتوافر لأسرة من الأسر…
والده: آية الله السيدحيدر الصدر، عالم فاضل جليل القدر، يمتلك درجة عالية جدا من الزهد والتقوى وسمو الأخلاق. والدته: العابدة التقية الصابرة بنت المرحوم آية الله الشيخ عبدالحسين آل ياسين، وكانت هذه المرأة دائمة الذكر لله تعالى، تلهج بالتسبيح والتحميد وما انقطعت عن ذلك حتى فارقت الحياة، وكانت ملازمة للقرآن تتلوه آناء الليل وأطراف النهار…
متى ولد الشهيد الصدر؟
ولد شهيدنا السيدمحمد باقر الصدر في مدينة الكاظمية يوم 25 ذي القعدة العام 1353هـ المصادف للعام 1934م. وشاءت إرادة الله تعالى أن يعيش هذا الوليد المبارك “حياة اليتم” فقد مات أبوه وله من العمر ست سنوات، وقد تولت تربيته ورعايته والدته الكريمة، وكذلك أخوه الأكبر آية الله السيد إسماعيل الصدر…
أولاده: خلف الشهيد الصدر ولدا واحدا “السيدمحمد جعفر الصدر”، وخمسا من البنات الطاهرات…
لقطات من حياة الشهيد الصدر
اللقطة الأولى: الانقطاع الكامل إلى الله في العبادة:
كانت تتسم عباداته بالانقطاع الكامل لله سبحانه وتعالى والإخلاص والخشوع والذوبان…
يقول الشيخ النعماني – وكان ملازما للسيدالصدر -: كنت أتربص الفرص لأصلي خلفه جماعة في البيت، فكان في أحيان كثيرة يجلس في مصلاه فكنت أجلس خلفه، وقد دخل وقت الصلاة بل قد يمضي على دخول وقتها أكثر من نصف ساعة والسيد الشهيد جالس مطرق برأسه يفكر، ثم فجأة ينهض فيؤدي الصلاة… وعند السؤال عن ذلك يجيب “رض” قائلا: “إنني آليت على نفسي منذ الصغر ألا أصلي إلا بحضور قلب وانقطاع، فاضطر في بعض الأحيان إلى الانتظار حتى أتمكن من طرد الأفكار التي في ذهني، حتى تحصل لي حالة الصفاء والانقطاع، وعندها أقوم إلى الصلاة”.
وتحدث النعماني عن قراءته للقرآن فقال: “سمعته يقرأ القرآن في أيام وليالي شهر رمضان بصوت حزين، وشجي، ودموع جارية، يخشع القلب لسماعه، وتسمو النفس لألحانه، وهو في حالة عجيبة من الانقطاع والذوبان مع معاني القرآن”.
وأما عن طوافه حول الكعبة المشرفة، فيصفه النعماني قائلا: كان في الساعة الثانية ظهرا يذهب إلى المسجد الحرام إذ يقل الزحام بسبب شدة الحر، وكانت أرض المسجد مغطاة بالمرمر الطبيعي، فكان لا يتمكن أحد من شدة الحر من الطواف في تلك الفترة، فكان “رحمه الله” يذهب في ذلك الوقت إلى المسجد حافي القدمين، وكنت أطوف معه، فوالله ما تمكنت من إكمال شوط واحد حتى قطعت طوافي وذهبت مسرعا إلى الظل، فقد شعرت أن باطن قدمي قد التهب من شدة الحر، وما طفت في تلك الساعة إلا منتعلا. وكنت أعجب من حال السيد الشهيد “رحمه الله” وهو يطوف ويصلي، وكأنه في الجو الطبيعي الملائم، فسألته يوما بعد عودتنا من المسجد الحرام عن هذه القدرة العجيبة من التحمل، فقال: “مادمت في المسجد الحرام فلا أشعر بالحرارة، نعم بعد أن أعود إلى الفندق أحس بألم في قدمي” ولم يكن ذلك إلا بسبب انقطاعه وتوجهه إلى الله تعالى، وإلا فإنه “رض” كان يتضايق من الحر في الظروف الطبيعية.
اللقطة الثانية: قلب كبير ينفتح بالعطف حتى على الأعداء
لقد مارس النظام الحاكم في العراق أشرس الأساليب مع السيدالصدر “رض”، من هذه الأساليب: الحصار القاسي الذي فرضه على منزله، إذ طوقت أجهزة الأمن المنزل من كل الجهات وضيقوا الخناق على المنطقة كلها، قطعوا الماء والكهرباء والهاتف، ومنعوا كل الإمدادات. وفي وصف هذا الحصار قال النعماني: وبسبب هذه المحاصرة الجائرة اضطررنا إلى الاستفادة من الخبز اليابس، الذي لا يصلح للأكل. وكنت يوما اتغدى مع السيد الشهيد “رحمه الله” من هذا الطعام، فلمح في وجهي علامات التأثر وكنت في نفسي أقول: سبحان الله إن نائب المعصوم يأكل من هذا الفتات بينما يأكل الطغاة ما لذ وطاب. فقال لي: “إن هذا الطعام ألذ طعام ذقته في حياتي، لأنه في سبيل الله ومن أجل الله”. وكلما مرت الأيام كانت تشتد المحنة على السيد الشهيد ولاسيما من الناحية العاطفية، فإنه كان يحس بحرج كبير وهو يرى أطفاله جياعا، وأمه المريضة المقعدة تطلب الدواء ولا دواء، وكان يقول لي: “سيموت هؤلاء جوعا بسببي ولكن مادام ذلك يخدم الإسلام فأنا سعيد به، ومستعد لما هو أعظم منه”…
في أجواء هذا الحصار، وقوات الأمن يشددون الخناق، وكأنهم الذئاب يتلظون ظمأ إلى دم الشهيد الصدر… في مثل هذه الأجواء كان قلب السيدالصدر ينفتح بالرحمة والعطف على هؤلاء الذئاب…
يقول النعماني: في ظهر أحد أيام الاحتجاز كنت نائما في غرفة المكتبة، فاستيقظت على صوت السيد الشهيد “رض” وهو يقول: “لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم”.
ظننت أن حدثا ما قد وقع، فسألته: هل حدث شيء؟ فقال: “كلا، بل كنت انظر إلى هؤلاء “يقصد قوات الأمن” من خلال فتحة في الكسر الصغير في زجاجة النافذة، فرأيتهم عطاشى يتصبب العرق من وجوههم في هذا اليوم من أيام الصيف الحار”.
فقلت: سيدي أليس هؤلاء هم الذين يطوقون منزلكم، ويعتقلون المؤمنين الاطهار من محبيكم وأنصاركم، هؤلاء هم الذين روعوا أطفالكم وحرموهم من أبسط ما يتمتع به الأطفال في أعمارهم؟
فقال “رحمه الله”: “ولدي، صحيح ما تقول، ولكن يجب أن نعطف حتى على هؤلاء، إن هؤلاء إنما انحرفوا لأنهم لم يعيشوا في بيئة إسلامية صالحة، ولم تتوافر لهم الأجواء المناسبة للتربية الايمانية، وكم من أمثال هؤلاء شملهم الله تعالى بهدايته ورحمته، فصلحوا وأصبحوا من المؤمنين”، ثم نزل إلى الطابق الأرضي وأيقظ خادمه الحاج عباس وأمره أن يسقيهم الماء.
أي قلب كبير هذا القلب الذي لا يعرف إلا الرحمة وحب الخير… إنه قلب السيد الصدر، أليس جده سيد الأنبياء محمد “ص” الذي كان يقول وهو في أشد حالات المحنة: “اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون”، أليس جده سيد الشهداء الإمام الحسين “ع” الذي سقى الحر بن يزيد الرياحي وعسكره في طريق كربلاء، وهو الذي جلس يبكي في يوم عاشوراء وهو ينظر إلى الألوف الذين تألبوا لقتاله فيسأل: مم بكاؤك يا ابن رسول الله؟ فيجيبهم: “أبكي من أجل هؤلاء الذين سيدخلون النار بسببي…”
والسيدالصدر هو سليل هذا البيت الطاهر… نتابع الحديث عن الشهيد السيدالصدر إن شاء الله تعالى.