حديث الجمعة 80 :أسس النقد الذاتي ومقارعة الآنا- الحوار السياسي هو الخيار
نقف مع سؤال طرحناه في حديثنا السابق. .. السؤال يقول:
كيف نمارس النقد الذاتي؟
وقبل أن نعالج هذا السؤال نحاول أن نتلمس السبب الأساس لغياب “النقد الذاتي” عند غالبية الناس… إنه “سيطرة الأنا وحب الذات” إلى الحد الذي تتعطل فيه “الإرادة” فلا يعود الإنسان قادرا على نقد الذات ومحاسبتها… ثم إن هذا السبب هو الذي يقبع وراء الكثير من السلوكيات الخاطئة في حياتنا كالتكبر، والاستعلاء، وحب الشهرة والجاه، والظلم، والاعتداء، والفتن والخلافات…
أسس النقد الذاتي:
لكي نؤسس لحركة النقد الذاتي لابد من معالجة مشكلة “الأنا” في داخل الإنسان، وتتم هذه المعالجة من خلال “الترشيد الروحي للنزعة الذاتية”…
“الأنا وحب الذات” من المكونات الغريزية الفطرية التي أودعها الله سبحانه في داخل الإنسان، فمن الطبيعي – وفق هذه الفطرة الإلهية – أن يحب الإنسان ذاته، أن يحب لها البقاء، الراحة، اللذة، الكمال… وحتى حب الأولاد هو تعبير عن حب الذات، فمن خلال الأولاد يتشكل البقاء والامتداد للإنسان… لا مشكلة في كل هذا مادام هو استجابة لنداء الفطرة الإلهية…
المشكلة حينما تتحول هذه الغريزة “الأنا وحب الذات” إلى “نزعة ضد الآخر” وحينما تتحول إلى “أنانية” لا تحب الخير إلا إلى النفس…
كيف عالج الإسلام هذه المشكلة؟
عالجها من خلال “الترشيد الروحي للنزعة الذاتية” عند الإنسان، إن التربية الإسلامية لم تصادر هذه “الغريزة”؛ كونها جزءا من الفطرة الإلهية…
فماذا صنعت التربية الإسلامية لمعالجة المشكلة؟
إنها أعطت لهذه النزعة “الأنا وحب الذات” مضمونا آخرويا، ومن خلال هذا المضمون تحول “حب الآخر” بما يحققه من عطاء آخروي كبير إلى “حب للذات” فبحسب الأحاديث والروايات أن “النفع لعباد الله” من أعظم الأعمال التي تقرب الإنسان إلى الله زلفى، وتسكنه في أعلى الجنة غرفا، فالنتيجة أن “النفع للآخر” يصب في مصلحة “النفع للذات” إلا أنه نفع آخروي وكذلك – بحسب الأحاديث والروايات – فإن “الضرر لعباد الله” من أشد الأعمال التي تبعد الإنسان عن الله تعالى، وتعرضه لغضبه وأقسى عقوباته فتكون النتيجة أن “الضرر الآخر” يصب في “الإضرار بالذات” من خلال عذاب الآخرة.
ووفق هذه الرؤية الروحية يتم التوافق بين “الأنا” و”الآخر”، ربما دفعت “روح الإيثار” الانسان المسلم إلى ان يقدم “الآخر” على “الذات” “ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة” “الحشر: 9”.
وعن رسول الله “ص” قال: “من آثر على نفسه آثره الله يوم القيامة الجنة”.
وعن أمير المؤمنين “ع” قال: “الإيثار أعلى الإيمان”.
في غزوة أحد سقط نفر من أصحاب رسول الله “ص”، وكانت فيهم بقية حياة، فجيء لأحدهم بماء ليشرب فأشار إلى آخر في جانبه، جيء بالماء إلى الثاني فأشار إلى ثالث… والثالث أشار إلى رابع… وهكذا إلى السابع، فلما جيء بالماء إلى السابع حوله إلى الأول… جيء به إلى الأول فوجدوه ميتا… أتوا به إلى الثاني فإذا هو ميت… وهكذا الثالث… إلى السابع، فما وجدوا واحدا منهم حيا…
هذه تربية الإيمان….
فإذا ارتقى الإنسان إلى هذا المستوى من التربية الإيمانية والروحية فلن تتحول “الأنا وحب الذات” في داخله إلى “نزعة ضد الآخر” ولن تتحول إلى “أنانية” تحتكر الخير للنفس…
وعندها سيقف الإنسان من ذاته “وقفة نقد” جريئة، ووقفة “استبطان” صريحة، مادام ذلك يحقق له “نفعا آخرويا” ولن يتردد لحظة واحدة في متابعة “أخطاء الذات”، وإلا كان جانيا على نفسه كل الجناية وهو يعرضها لعقوبة الله تعالى، ويدفع بها إلى نار جهنم…
“ومن يكسب إثما فإنما يكسبه على نفسه” “النساء: 111”
“من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها” “فصلت: 46”
“ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه” “الطلاق: 1”
“وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله” “البقرة: 110”
“إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها…” “الإسراء: 7”
للحديث متابعة ومواصلة في لقاء مقبل إن شاء الله تعالى…
أنتقل إلى عنوان آخر
الحوار السياسي هو الخيار:
جاءت التداعيات الأخيرة تحمل مؤشرات صعبة، وما تعبأت به الأجواء الأمنية والسياسية والإعلامية من بيانات وتصريحات، وما شهدته الساحة من أفعال وردود أفعال، ومن تجاذبات وأخذ وعطاء في شأن مسيرة الجمعة المطالبة بإجراء تعديلات دستورية والتي أصرت جمعية الوفاق الوطني الإسلامية على تنظيمها؛ كونها حقا دستوريا مشروعا، وكونها مستوفية كل الشروط القانونية، في حين أصرت الحكومة على الممانعة معللة ذلك بالظروف الأمنية الراهنة التي تمر بها المنطقة، وحفاظا على السلامة الوطنية لعدم التورط في مسيرات ومسيرات مضادة من شأنها الإخلال بالأمن والنظام العام، والإضرار بالاستثمارات والنشاط الاقتصادي ومصالح المواطنين… وعلى رغم هذا الجدل والتجاذب بين الإصرار على المنع والإصرار على التحرك، انطلقت المسيرة في الساعة الثالثة والنصف من عصر الجمعة 25 مارس/ آذار الجاري.
وعبر رئيس جمعية الوفاق عن المسيرة بـ “التظاهرة السلمية الحضارية” وتقيد المتظاهرون بتعليمات صارمة من طرف “الوفاق” التي تعهدت بضمان سلمية التظاهرة… وانتهت المسيرة بكل هدوء.
وجاء رد الفعل الرسمي معتبرا التظاهرة مخالفة للقانون وملمحا إلى اتخاذ إجراءات قانونية ضد جمعية الوفاق، وبحسب الأخبار المتسربة فإن “الوفاق” ربما تواجه عقوبة الإغلاق المؤقت لمدة “45 يوما” استنادا إلى قانون الجمعيات…
إننا نعبر عن قلقنا الشديد لأي إجراء يتخذ ضد جمعية الوفاق، لما يترتب على ذلك من نتائج لا تصب في صالح هذا البلد، وإنها بادرة تضر بسمعة المشروع الإصلاحي وبكل تطلعاته…
إننا ندعو الحكومة إلى أن تتحلى بالحكمة في التعاطي مع هذه المسألة، وأن تبتعد عن أي إجراء لا تحمد عواقبه..
إن بروز مؤشرات القطيعة والخصام بين السلطة والوفاق أمر له تداعياته الخطيرة، وله تفاعلاته الصعبة، وله انعكاساته السيئة، ونتمنى من كل قلوبنا ألا يحدث ذلك، إنه يبعث في داخلنا الكثير من الألم والكثير من الانزعاج، والكثير من القلق والكثير من الخشية على أوضاع هذا الوطن، إن الضرورة تفرض في هذا الوقت مزيدا من التواصل والتلاحم، ومزيدا من التخاطب والتفاهم من أجل تعزيز وحدة الصف الوطني، ومن أجل الدفع بمسيرة البناء والإصلاح في الاتجاه الأفضل…
إن الضرورة في هذه المرحلة تفرض الارتقاء بدرجة العلاقة بين السلطة وجميع قوى المجتمع، وجميع قطاعات هذا الشعب إلى أعلى المستويات، فأي إجراء يصيب هذه العلاقة باهتزاز وانخفاض هو مضر بمصلحة هذا الوطن، وهو مضر بوحدة وتماسك هذا الوطن…
وفي ضوء كل ذلك نؤكد أن “الحوار السياسي الجاد هو خيار هذه المرحلة” وكل الخيارات الأخرى هي “الخيارات الأصعب”.
إننا تأسفنا كثيرا لتوقف “الحوار”، ولم تتضح لنا حتى الآن أي مبررات مقبولة لتعطيل الحوار… لا أريد هنا أن أحمل أي طرف المسئولية في تعثر الحوار، ولكن من الواضح أن الحكومة هي التي أوقفت الحوار من دون إعلان واضح للأسباب والمبررات…
إن الحوار السياسي الجاد هو الخيار القادر على أن ينقذ البلد من أزمات كثيرة، ومن تعقيدات صعبة… وهو القادر على إزالة الكثير من الاحتقانات…
إذا حضر الحوار السياسي الجاد كان في ذلك كل الخير لهذا الوطن الحبيب في أمنه وهدوئه واستقراره، وفي وحدته وتماسكه وقوته، وفي ازدهار أوضاعه الاقتصادية والتنموية والمعيشية والحياتية.
إذا حضر الحوار السياسي تلاقت القلوب على الحب والصفاء والمودة، وترسخت وتجذرت الثقة في داخل النفوس، وتآزرت وتعاونت القوى الخيرة من أجل حماية هذا الوطن، ومن أجل الدفاع عن مكاسبه ومنجزاته، ومن أجل رسم مستقبله الزاهر…
إذا حضر الحوار السياسي الجاد اختصرنا الطريق، ووفرنا على أنفسنا الكثير من الجهود والطاقات، وقربنا بين المسافات وخففنا من المعوقات والتعقيدات والإشكالات…
إذا حضر الحوار السياسي الجاد كانت البداية الناجحة، وكانت الانطلاقة الصادقة وكانت الحركة الهادفة…
أما إذا غاب الحوار السياسي الجاد كان في ذلك كل الخشية وكل الخوف وكل القلق على أوضاع الوطن وعلى أمنه واستقراره ووحدته، وعلى خيره وتقدمه وازدهاره…
إذا غاب الحوار السياسي الجاد تحركت الشكوك والوساوس والظنون، وتباعدت القلوب، وتأزمت النفوس، وتعثرت الثقة، وفي ذلك شر كثير…
إذا غاب الحوار السياسي الجاد كان الطريق طويلا، وكانت المسافات كبيرة، وكانت الجهود والطاقات مبعثرة، وكانت الخطوات مرتبكة، وكانت المعوقات متجذرة…
أكرر القول وبكل حب وإخلاص لهذا الوطن: إن الحوار السياسي الجاد هو “خيار هذه المرحلة” من أجل معالجة كل الأزمات، وكل الاحتقانات، وكل التعقيدات، وكل الخلافات…
وإن الخيارات الأخرى هي “الخيارات الأصعب والأعقد” لا أريد أن أتحدث عن صحة أو خطأ تلك الخيارات، فذلك محكوم بمجموعة حسابات وقراءات موضوعية دقيقة، لكن ما أريد تأكيده أن “البدائل الأخرى للحوار” لن تكون “البدائل الأسهل” ولن تكون “البدائل الأهدأ” ولن تكون “البدائل الأقدر”.
إن مسئوليتنا جميعا – ملكا وحكومة وشعبا – أن نحافظ على هذا الوطن وعلى أمنه واستقراره ووحدته، وقبل ذلك على دينه وقيمه وأخلاقه، مسئوليتنا جميعا أن نفكر بصدق وإخلاص ووعي وبصيرة فيما يحقق لأبناء هذا البلد كل الخير، وكل الحرية والكرامة والعزة، وكل الآمال والطموحات الصالحة…
المهم أن تبقى الثقة هي التي تحكم العلاقات وأن تبقى النوايا صادقة، وأن تبقى السواعد متحفزة من أجل التغيير والإصلاح والبناء…
في هذه المرحلة الصعبة التي تمر بها أمتنا العربية والإسلامية، وفي هذا الظرف الحساس بكل ما يحمله من تعقيدات وتحديات وبكل ما يواجهه من مخاطر وتهديدات، تكون الحاجة كبيرة وكبيرة إلى الحوار وإلى الانفتاح بين الأنظمة الحاكمة والشعوب…
إذا لم تنفتح الأنظمة الحاكمة على الشعوب من خلال مشروعات إصلاح حقيقية، ومن خلال مشروعات تغيير جادة، ومن خلال مشروعات تحول صادقة، ومن خلال مشروعات حوار هادفة…
وإذا لم تنفتح الشعوب على الأنظمة بكل صدق وإخلاص، وثقة واطمئنان…
فإن ذلك يعقد الأوضاع، ويوتر الأمور، ويكرس الأزمات السياسية والاقتصادية والأمنية، ويضع الأوطان في مخاضات صعبة وعسيرة وقاسية…
إن هذا الانفتاح المطلوب بين أنظمة الحكم والشعوب له شروطه ومكوناته، ومتى غابت هذه الشروط والمكونات فلن تتوافر للانفتاح أجواؤه، ولن تتوافر له فاعليته…
وبمقدار ما تتحمل الشعوب وقوى المجتمع الفاعلة دورها الكبير في نجاح هذا الانفتاح، فإن أنظمة الحكم والسياسة هي المسئول الأقوى في صنع عملية الانفتاح وفي إنجاح حركة التواصل…
ولعل الحوارات السياسية الجادة هي من أهم أسباب هذا التواصل والانفتاح بين الحكومات والشعوب بما تعبر عنه هذه الحوارات من رغبات صادقة في معالجة كل القضايا، وفي إزالة كل التوترات وفي التخفيف من كل الاحتقانات…
المسألة في الحوار السياسي الهادف ليس أن ينتصر هذا الطرف أو ذاك الطرف وليس المسألة تسجيل النقاط على الآخر، المسألة كل المسألة أن تتقارب وجهات النظر، وتتزاوج الرؤى والتصورات من أجل الوصول إلى ما هو “الأصلح” لهذا الوطن، ولاشك في أن مصلحة الوطن، ومصلحة المواطنين من المسلمات والثوابت لدى جميع الأطراف، ربما يقع الاختلاف في الأساليب والطرق والبرامج والآليات إلا أن الحوار الجاد الهادف القائم على الأسس الصحيحة قادر على أن يعالج الكثير من الاختلافات، مادامت النوايا صادقة، ومادامت العزائم جادة، ومادامت الأهداف مشتركة…
ان أي تصعيد سياسي أو أمني غير محسوب، وإن أي ردة فعل منفعلة من هذا الطرف أو ذاك الطرف، سيخلق مزيدا من الاحتقان والتوتر والارتباك، فكل ما نتمناه ألا تتحرك الأمور وردود الأفعال في اتجاه التصعيد الأمني أو التصعيد السياسي…
هناك خطابات تمارس “دور التصعيد والتشنيج” وتمارس “دور التحريض” هذه الخطابات مضرة بالأوضاع الأمنية والسياسية، إن مسئولية الخطاب الديني والخطاب الثقافي والخطاب السياسي هي المساهمة في إنتاج حركة الحوار والتفاهم وليس المساهمة في خلق أجواء القطيعة والكراهية والعداء…
قد يحلو لبعض الخطابات أن تؤجج العداوات، وأن تشنج النفوس، وأن تحرك الانفعالات غير المسئولة، إن هذا اللون من الخطابات يتجنى على مصلحة هذا الوطن وعلى استقراره ووحدته…
يجب ألا يفهم من هذا الكلام أننا ندعو إلى “مصالحات وتوافقات وتسويات” وإن كانت على حساب “المبادئ والثوابت” أو كانت على حساب “المصارحة والمكاشفة” أو كانت على حساب “مسئولية الكلمة في الدفاع عن الحق”…
الأمر ليس كذلك، يجب أن تبقى المبادئ والثوابت والحقوق ومسئولية الكلمة حاكمة على كل التوافقات والمصالحات، ويجب أن يبقى “الحوار” هو الخيار مادام لا يفرط في المبادئ والثوابت والحقوق ومسئولية الموقف…
وآخر دعوانا أن الحمدلله رب العالمين