منذ أن وضعت أول أنثى قدمها على هذه الأرض حينما هبطت حواء بصحبة آدم “ع”. .. وحتى نهاية أشواط البشرية تبقى الزهراء فاطمة بنت محمد “ص” هي الأولى، هي القمة، هي المثل الأعلى في كل تاريخ المرأة.
وإذا كان هذا التاريخ الطويل شهد نماذج ونماذج من النساء، فإن الزهراء فاطمة بنت محمد “ص” تبقى هي “النموذج الأرقى”. هكذا قال أبوها “ص” في قولته الشهيرة التي دونتها مصادر المسلمين “فاطمة سيدة نساء العالمين”
وما كان رسول الله “ص” لينطق عن هوى أو عاطفة أو محاباة، وإنما هو الوحي “وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى” “النجم: 2 – 3” فبأمر من الله تعالى أعطى رسول الله “ص” فاطمة من دون سواها من النساء هذا الوسام الكبير.
قد يقال: إن الله تعالى – بحسب ما جاء في القرآن – تحدث عن مريم ابنة عمران وطهرها واصطفاها على نساء العالمين، قال تعالى: “وإذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين” “آل عمران: 42”.
هذا النص يوحي بأن مريم ابنة عمران هي المرأة الأولى التي اصطفاها الله على نساء العالمين، فكيف نوفق بين النص القرآني والحديث الثابت عن رسول الله “ص” بأن فاطمة هي سيدة نساء العالمين؟
هناك إجابتان:
الإجابة الأولى: أن نعطي للاصطفاء في هذا النص القرآني معنى محدودا لا يحمل امتدادا مطلقا… إنه اصطفاء في دائرة خاصة، وفي مجالات محددة، وصرح القرآن بذلك. نذكر هنا مظهرين من مظاهر هذا الاصطفاء.
المظهر الأول: إن الله تعالى تقبل مريم ابنة عمران للخدمة والعبادة في بيت المقدس ولم يتقبل غيرها من النساء، وكان هذا الأمر مقصورا على الرجال فقط.
قال تعالى: “إذ قالت امرأة عمران رب إني نذرت لك ما في بطني محررا فتقبل مني إنك أنت السميع العليم” “آل عمران: 35”.
كان أملها الكبير أن يكون المولود ذكرا لتجعله متفرغا للخدمة والعبادة في بيت المقدس، وذلك لا يكون إلا للذكور. “فلما وضعتها” جاء المولود على خلاف ما تمنت امرأة عمران… فأصابها الخجل والاستحياء ونكست رأسها قائلة: “رب إني وضعتها أنثى” وكأنها تريد أن تعتذر إلى الله تعالى، إذ نذرت أن يكون ما في بطنها محررا للعبادة والخدمة في بيت المقدس، ظنا منها أن يكون ذكرا، إلا أنه جاء أنثى… “وليس الذكر كالأنثى” فاستسلمت لهذا الأمر وسمتها “مريم”.
وهنا بشرها الله وطمأنها بعد أن أكد لها أنه “أعلم بما وضعت” بقبول هذا المولود الأنثى للخدمة والعبادة في بيت المقدس “فتقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتا حسنا وكفلها زكريا كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا قال يا مريم أنى لك هذا قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب” “آل عمران: 37”.
المظهر الثانية: إن الله تعالى اصطفاها وأرسل إليها الملائكة ووهب لها عيسى “ع” من غير أب، ولم يكن ذلك لأحد من النساء. ورد عن الإمام الباقر “ع” في معنى “اصطفاك” أي اصطفاك لولادة عيسى “ع” من غير أب.
الإجابة الثانية: أن نعطي الاصطفاء زمانا محدودا… فإذا كان الله تعالى اصطفى مريم ابنة عمران على العالمين، فهو اصطفاء في مساحة من الزمن لا تمتد أكثر من زمانها وأكثر من عالمها… وهذا ما أكدته روايات وأحاديث صادرة عن المعصومين، بأن “مريم سيدة نساء عالمها” “وفاطمة سيدة نساء العالمين من الأولين والآخرين”، ولعل في هذا السياق يأتي الحديث عن رسول الله “ص” بأن “فاطمة سيدة نساء أهل الجنة”. فانطلاقا من هاتين الإجابتين يمكن أن نوفق بين النص القرآني وأحاديث الرسول “ص” في شأن فاطمة “ع”.
وهذا نظير قوله تعالى في سورة البقرة: “يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين” “البقرة: 47”.
فهل يمكن أن نعتمد هذا النص للقول إن بني إسرائيل هم الأمة المختارة على جميع العالمين؟ وثبت لدينا أن نبينا “ص” هو سيد الأنبياء، وأن أمتنا أفضل الأمم بدليل قوله تعالى “كنتم خير أمة أخرجت للناس” “آل عمران:110”. وفي ضوء هذا يمكن أن نفهم التفضيل لبني إسرائيل الوارد في هذا النص بأحد توجيهين:
الأول: ما ورد عن ابن عباس في تفسير هذه الآية: أراد عالمي أهل زمانهم.
الثاني: المراد تفضيلهم في أشياء مخصوصة وهي: إنزال المن والسلوى، وما أرسل الله فيهم من الرسل، وأنزل عليهم من الكتب، إلى غير ذلك من النعم، وتفضيلهم في أشياء مخصوصة لا يعني أن يكونوا أفضل الناس على الإطلاق “زبدة التفاسير 1: 142”.
في خطى الزهراء
المطلوب من أجيال المرأة المسلمة أن تترسم خطى الزهراء “ع”، وأن نقتدي بالزهراء.
تواجه هذا الطلب إشكالية تتحرك في الساحة المعاصرة… تقول الإشكالية: إن الزهراء نموذج تشكل وفق ضرورات مرحلة تاريخية قد انتهت، والمرأة المسلمة في العصر الحاضر يجب أن تعيد تشكلها وفق ضرورات المرحلة الراهنة. نجيب عن هذه الإشكالية:
أولا:
إننا لا نشك أن متغيرات كبيرة حدثت، وأن هناك حاجات قد تجددت، وأن حركة الواقع في تبدل مستمر، وأن المرأة في هذا العصر لها ضروراتها التي تفرضها مكونات المرحلة، وطبيعة التعاطي مع الواقع الجديد، ولا نشك أيضا في أن أية محاولة لإلغاء خصوصيات العصر، ومنتجات المرحلة، ستؤزم العلاقة بين المرأة وكل المؤثرات المتحركة حولها… وتأسيسا على هذه الرؤية، فإن المشروع الإسلامي لبناء الإنسان في هذا العصر يجب أن يضع في حساباته كل المتغيرات والمستجدات، والحاجات والضرورات حتى لا يفقد قدرته على الإنتاج والصوغ والبناء.
ثانيا:
إذا كان الزمان في حركته وتغيراته ينتج حاجات وضرورات جديدة، فإن هناك في مكونات النفس البشرية حاجات وضرورات ثابتة لا تتغير ولا تتبدل.
– فالعقيدة الإيمانية ضرورة وحاجة دائمة ومستمرة، وهي ليست نتاج مرحلة من التاريخ، لتنتهي بانتهاء تلك المرحلة، وإنما هي جزء من كينونة النفس البشرية.
– وثقافة الإيمان ضرورة وحاجة دائمة ومستمرة، فلا يمكن أن تلغى لتستبدل بها ثقافة مناقضة للإيمان.
– إن القيم الروحية والأخلاقية لا يمكن أن تنتهي الحاجة إليها لتستبدل بها قيم الفساد والفسق والتحلل والعبث.
– إن العبادة لله تعالى لا يمكن أن تنتهي الحاجة إليها لتستبدل بها عبادة الشيطان والهوى والطاغوت والمادة.
– إن فقه الحياة المستمد من شريعة الله تعالى لا يمكن أن تنتهي الحاجة إليه لتستبدل بها قوانين فيها الكثير من القصور والعجز والفشل والارتباك والخلل والفساد.
– إن العمل الجاد والهادف والدؤوب في خدمة الإنسان والحياة، والدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والنهوض بكل الواقع الاجتماعي والثقافي والسياسي والتربوي، أمر لا يمكن أن تنتهي الحاجة اليه، ليستبدل به الركود والخمود والكسل والاسترخاء والتخلي عن المسئوليات والواجبات.
هذه مجموعات حاجات وضرورات ثابتة لا تحكمها مساحات خاصة من الزمان والمكان، بل هي مفتوحة على كل حركة الزمان والمكان، وحركة الإنسان والحياة.
ثالثا:
إن الزهراء “ع” – النموذج المطروح لكل الأجيال – تملك المستوى الأرقى من المكونات التي تشكل الحاجة والضرورة لبناء المرأة في كل عصر.
– مكونات العقيدة.
– مكونات الثقافة الإيمانية
– مكونات القيم الروحية والأخلاق.
– مكونات العبادة.
– مكونات الرؤية الفقهية في كل مجالات الحياة.
– مكونات الحركة والعطاء والجهاد والتضحية والعمل الصادق من أجل صنع الإنسان والحياة وفق منهج الله تعالى، وفي ضوء مبادئه وأحكامه وقيمه.
هذه المكونات في مستوياتها المتميزة تملكها الزهراء “ع”، فالانفتاح على الزهراء انفتاح على كل هذه المكونات.
فهل يمكن للمرأة في هذا العصر أن تدعي أنها في غنى عن الزهراء لأنها تشكلت وفق ضرورات مرحلة تاريخية قد انتهت؟
إن الزهراء قد تشكلت وفق ضرورات الإسلام التي تمثل حاجة متحركة في كل زمان و في كل مكان، ولم تتشكل وفق ضرورات تاريخية جامدة.
هكذا تبقى الزهراء نموذجا صالحا للتحرك وقادرا على أن يقود مشروع النهوض بالمرأة في كل عصر، إذا اريد لهذا المشروع أن يحافظ على الهوية الإيمانية والأصالة الإسلامية.
إن المرأة في العصر الراهن تواجه مشروعات متعددة:
1- مشروعات تحمل شعار النهوض بالمرأة، ولكنها تعتمد في هذا النهوض برامج تتناقض مع المكونات الإسلامية هذه المشروعات هي مشروعات تغريب ومصادرة واستلاب… ومسئولية المرأة المسلمة أن تحذر من الانخداع بهذه المشروعات، ومسئولية القائمين على شئون الساحة ان يتصدوا لكل محاولات التغريب والمصادرة والاستلاب.
2- مشروعات تحمل شعار النهوض بالمرأة ولكنها تعتمد في هذا النهوض برامج تحريفية، ونعني بالبرامج التحريفية تلك البرامج التي تطرح أفكار الإسلام وقيمه بطريقة محرفة، ولعل هذا الاتجاه أخطر من الاتجاه الأول، كون الاتجاه المنحرف واضح الهوية وواضح الأهداف، أما الاتجاه التحريفي فهو محاولة خبيثة لاختراق واقع المرأة المسلمة من خلال عناوين تدعي الانتماء إلى الإسلام وهي في واقعها مصادرة لمفاهيم الإسلام وقيمه.
3- مشروعات تحمل شعار النهوض بالمرأة، ولكنها تعتمد برامج فيها خلط مشوه، ما ينتج ازدواجية مقيتة في شخصية المرأة، فهي تؤمن بالله سبحانه ولكنها تتحرك في الكثير من مساحات حياتها كما يهوى الشيطان، تصلي وتصوم ولكنها تعيش التبرج والتهتك، تحب الإسلام ولكنها تغرق في القيم المناهضة للإسلام، تقدس القرآن ولكنها تمارس في حياتها ما يرفضه القرآن، تنتمي إلى الدين ولكنها لا تعطي له حضورا في حركة الواقع الاجتماعي والثقافي والسياسي.
4- مشروعات تحمل شعار العودة بالمرأة إلى الأصالة والهوية والدين والقيم… ولكنها تعتمد برامج تكرس في حياة المرأة التخلف والجمود والانغلاق والجهل، انطلاقا من فهم خاطئ للدين، والأصالة، والهوية، ومن رؤية مغلوطة للمرأة، ودور المرأة، ومسئوليات المرأة.
وفي ضوء هذا الفهم والرؤية تشكل تصور يرفض أن تمارس المرأة عملا ثقافيا واجتماعيا وسياسيا، حتى لو كان خاضعا لضوابط الشرع والدين كون الدين والشرع أساسا – وفق هذا التصور لا يسمحان للمرأة أن تتحرك في هذه المساحات وقد نتج عن ذلك فرض حصار صعب على نشاط المرأة وحركتها ودورها في مجالات كثيرة، كان بإمكانها أن تساهم فيها بحضور فاعل، وضمن ضوابط الدين والشرع، غير أن الرؤية القاصرة عطلت الكثير من طاقات المرأة وقدراتها وابداعاتها.
5 – مشروعات النهوض الحقيقي بالمرأة المسلمة.
تعتمد هذه المشروعات على مسارين متوازيين:
المسار الأول:
الحفاظ على الهوية الإسلامية في مضمونها العملي المتحرك، وليس مجرد تأكيد مسألة الانتماء الشكلي، فالمشروعات التي لا تأخذ في حسابها الحفاظ على هذه الهوية وفق الصيغة العملية القادرة على تحريك المكونات الأساسية التي مر ذكرها هي مشروعات فاشلة لا تملك النهوض بواقع المرأة في خط الانتماء والأصالة.
المرأة المسلمة المعاصرة في حاجة إلى نهوض يؤكد هويتها الإيمانية، ويصوغ انتماءها الروحي، ويؤصل حركتها في خط الإسلام.
وليست في حاجة إلى مشروعات تغريب وإفساد واستلاب ومصادرة، فما ربحت المرأة شيئا إن خسرت هويتها وانتماءها وأصالتها.
المسار الثاني:
الانفتاح على حركة الواقع في متغيراته ومستجداته وضروراته، لا بمعنى الانئسار لضغوطه ومؤثراته على حساب الثوابت والمكونات، وعلى حساب الهوية والأصالة.
وانما يعني هذا الانفتاح ان يحتضن المشروع النهضوي الإسلامي حركة الواقع المتغير والتجدد ليصوغ حاجاته وضروراته وفق رؤية الدين وفقه الشريعة، وقد صممت هذه الرؤية لتكون قادرة على استيعاب كل المتغيرات والمستجدات، كما صمم فقه الشريعة ليكون قادرا على مواجهة كل الحاجات والضرورات المتحركة في خط الزمان والمكان.
إن مشروع النهوض بالمرأة المسلمة في هذا العصر والذي يعتمد الإسلام منطلقا ومنهجا، ليس مشروعا جامدا، لا يضع في حسابه كل المتغيرات والمستجدات، ولا ينفتح على حاجات العصر وضروراته، نعم هو ليس مشروعا تفرض عليه ضغوط الواقع الجديد التنازل عن هويته وأصالته، وتفرض عليه التخلي عن ثوابته ومكوناته.
إشكالات وردود:
قد تطرح بعض إشكالات في مواجهة المشروع الإسلامي للنهوض بالمرأة في هذا العصر.
من هذه الإشكالات:
– الحجاب لم يعد حاجة في هذا العصر.
وربما شكل عائقا في حركة النهوض عند المرأة… فضرورات الواقع الجديد تفرض الاستغناء عنه، وإلغاءه، واعطاء المرأة حق التحرر منه.
– الاختلاط بين الجنسين أصبح ضرورة عصرية، فلم يعد الموقف الفقهي من الاختلاط مناسبا لمستجدات الواقع المعاصر… ومقتضيات المرحلة الراهنة.
– بعض حقوق المرأة تغيرت بفعل تطورات المجتمع البشري، فيجب أن تعدل بعض القوانين الإسلامية: قانون الإرث، قانون الولاية، قانون الطلاق، قانون النفقة، قانون تعدد الزوجات، فالكثير من أحكام الأسرة في حاجة إلى تغيير، ومن أجل انتاج فقه للأسرة، وللمرأة يتناسب مع حاجات هذا العصر، ويتناسب مع ضرورات هذه المرحلة.
– وغيرها من الإشكالات… وهذه الإشكالات هي افرازات للعقل المنهزم أمام تحديات العصر.. فالكثير من أبناء هذا الجيل المعاصر فقد القدرة على مواجهة التحديات، وهذا الضعف والانهزام لهما أسبابهما: فمن هذه الأسباب غياب الرؤية والوعي والبصيرة مما هيأ الذهنيات للانفعال والتأثر، وهذا الغياب لا يتحمل مسئوليته أبناء الجيل وحدهم بل يشاركهم في ذلك كل المعنيين بصوغ وعي الأجيال من علماء ودعاة ومبلغين وتربويين ومثقفين واعلاميين… هؤلاء جميعا ساهموا في انتاج هذا الغياب حينما قصروا في أداء وظائفهم في احتضان أجيال الأمة وبناء وعيها بالمستوى المطلوب، والقادر على مواجهة التحديات والإشكالات.
ومن الأسباب لنشوء حالات الانهزام لدى أجيالنا المعاصرة ضعف الإرادة في المواجهة والتصدي، وهذا الضعف له مكوناته وعوامله… وعندما تضعف الإرادة في داخلنا نسقط أمام التحديات، وننهزم أمام الضغوط، ونتراجع أمام المواجهات.
وعلى كل حال حينما تشكل لدى الأجيال العقل المنهزم، والإرادة المنهزمة، أصبحت هذه الأجيال مأسورة للتحديات، محكومة للضغوط، ما أوجد في داخلها شعورا بضرورة التنازل عن بعض الثوابت الدينية وعن بعض المسلمات الفقهية.
وفي هذه السياق تأتي تلك الإشكالات التي طرحت في مواجهة مشروع النهوض بالمرأة والأسرة في ظل البرنامج الإسلامي… هذا هو الموقف العام من هذه الإشكالات وأما المناقشة التفصيلية فتأتي في الحديث القادم إن شاء الله تعالى.
*عالم دين ورمز اجتماعي في الساحة السياسية، والكلمة ألقيت مساء أمس في جامع الإمام