إشكاليات وردود حول هذه الاحتفالات
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله الطيبين الطاهرين
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته…
كما نريد لهذه اللقاءات أن تكون رافدا من روافد العاطفة، نريد لها أن تكون رافدا من روافد الفكر والوعي؛ لتشكل العاطفة الواعية، ولتكون الفكر الفاعل المتحرك.
حديثي معكم – أيها الأحبة – في هذا اللقاء بعنوان:
إشكاليات وردود حول هذه الاحتفالات
ثلاث إشكاليات تمثل ثلاثة اتجاهات مختلفة:
1. إشكالية تتهم هذه الاحتفالات بأنها تكرس حالة (( الرجوعية والعودة للماضي )) الأمر الذي يؤدي إلى فصل الأمة عن واقعها الحاضر..
·يتبنى هذه الإشكالية المثقفون العلمانيون الذين يصرون على إلغاء الدين والتراث واعتماد ما يسمونه (( بالنموذج الحداثي )).
2.إشكالية تتهم بعض هذه الاحتفالات بأنها تستثير الخلافات المذهبية، وتسيء إلى بعض الرموز الكبيرة في تاريخ المسلمين.
·يتبنى هذه الإشكالية شريحتان من المسلمين:
1)السلفيون المتشددون الذين لا يسمحون بإثارة الحديث حول خلافات التاريخ الإسلامي ولا يسمحون بنقد أي شخصية تاريخية.
2)بعض دعاة الوحدة، حيث يرون أن بعض هذه الاحتفالات تؤثر على مشروع الوحدة الإسلامية الذي يشكل ضرورة كبيرة للأمة في هذه المرحلة
3. إشكالية تتهم هذه الاحتفالات بأنها بدعة محرمة في الإسلام.
·يتبنى هذه الإشكالية أصحاب الاتجاه الوهابي حيث يعتقدون بأن هذا الأسلوب غير مشروع من الناحية الإسلامية.
الإشكالية الأولى:
الإشكالية التي تتهم الاحتفالات بأنها تكرس حالة (( الرجوعية للماضي )) مما يؤدي إلى فصل الأمة عن (( حس المعاصرة )).
وكما قلنا يتبنى هذه الإشكالية المثقفون العلمانيون الذين يصرون على إلغاء الدين والتراث واعتماد ما يسمونه (( بالنموذج الحداثي )).
يمكن أن نسمي هذا الاتجاه: القطيعة مع التاريخ والتراث ( إلغاء التعامل مع قضايا التاريخ ).
هناك ثلاثة اتجاهات في التعاطي مع التاريخ:
أ. القطيعة مع التاريخ والاستغراق في الحاضر.
ب. الاستغراق في التاريخ وإلغاء الحاضر.
ج. التواصل بين الماضي والحاضر والتراث والاستغراق في الحاضر؟؟.
( الأصالة والحداثة )
ما هي مبررات هذا الاتجاه؟
– يعتمد هذا الاتجاه مجموعة مبررات:
1. التعامل مع قضايا التاريخ والتراث يخلق ازدواجية في موقف الأمة من خلال حالة الاستقطاب المتنافي بين الماضي والحاضر.
2. التعامل مع قضايا التاريخ والتراث تجميد لحركة الأمة، حيث تبقى الأمة مسيرة التراث وتموت في داخلها ديناميكية الحركة، وحس المعاصرة.
3. التاريخ الإسلامي مليء بالتناقضات فالتعاطي معه يفتح على الأمة أجواء الصراعات والخلافات، فيجب إلغاء ملفات التاريخ.
مناقشة هذه الإشكالية
1 التاريخ جزء من حركة الأمة.
· حركة الأمة مرتبطة بمكوناتها الفكرية والروحية والاجتماعية والسياسية.
· التشكل التاريخي الإسلامي هو الذي احتضن هذه المكونات. فالارتباط بتاريخ الإسلام هو ارتباط بهذه المكونات، الأمر الذي يموّن الأمة فكرياَ وروحياً، واجتماعياً وسياسياً.
·فالتشكل التاريخي الإسلامي عنصر دفع وتحريك، وليس عنصر تجميد وتخدير.
· ربما تكون بعض التشكلات التاريخية لبعض الأمم عنصر تجميد أما في الإسلام فلا.
2. يجب أن نفرق بين أمرين في تعاملنا مع قضايا التاريخ:
* الأمر الأول: تاريخ الإسلام.
* الأمر الثاني: تاريخ المسلمين.
الخلط بين الأمرين أنتج مفارقات لدى الباحثين والدارسين
وقد تعمد المستشرقون والدارسون العلمانيون هذا الخلط وهذا خلل منهجي مقصور.
ما هي القضايا التي تشكل تاريخ الإسلام؟
وما هي القضايا التي تشكل تاريخ المسلمين؟
أ. النمط الأول: القضايا التي تمثل جزء من حركة الإسلام وحركة الرسالة، وتكون من صنع الرموز الممثلة للإسلام وللرسالة
( الرموز المعصومة ).
ب. النمط الثاني: القضايا التي لا تنطلق من حركة الرسالة نفسها، ولا تكون من صنع الرموز الممثلة للرسالة ( الرموز المعصومة )
تاريخ المسلمين/ تاريخ الأمة/ تاريخ الحكام.
نستعين بأمثلة لتوضيح هذا الفارق
قضايا وحوادث ومواقف تمثل (تاريخ الإسلام )
· البعثة النبوية.
· الهجرة النبوية.
· حادثة الإسراء والمعراج.
· صلح الحديبية.
· فتح مكة.
· حادثة الغدير.
· صلح الإمام الحسن.
· ثورة الإمام الحسين.
· مواقف الأئمة (ع).
· غيبة الأمام المهدي
قضايا وحوادث ومواقف تمثل تاريخ المسلمين أو تاريخ حكام المسلمين:
· حدث السقيفة.
· يوم الشورى.
· الفتوحات التي تمت على يد الخلفاء والحكام.
· سياسات الخلفاء والحكام…
· تاريخ العلماء والفقهاء ورجال المسلمين.
· ما هي الثمرة في هذا التفريق:
1) نظرة القداسة لتاريخ الإسلام، وأما تاريخ المسلمين فنحترمه ولا نقدسه، ويمكن أن نناقشه ونرفضه.
2) تاريخ الإسلام يشكل مرجعية تشريعية ومرجعية تاريخية، بينما التاريخ الأخر لا يشكل هذه المرجعية.
3) القطيعة التاريخية تؤدي إلى:
أ فصل الأمة عن جذورها التاريخية
ب فقدان الأصالة في حركة الأمة.
ج انحراف المسيرة.
الإشكالية الثانية:
الإشكالية التي تتهم بعض هذه الاحتفالات بأنها تثير الخلافات المذهبية، وتسئ إلى الرموز التاريخية، وتتنافى مع مشروع الوحدة الإسلامية.
مناقشة هذه الإشكالية
1) إن مشروع الوحدة الإسلامية في حاجة إلى حوارات علمية موضوعية هادفة.. ووضع خطط عملية. ولا تكفي الخطابات العاطفية ولا يكفي طرح الشعارات
2) الحديث عن قضايا التاريخ بأسلوب علمي هادئ وغير متشنج لا يؤثر على مشروع الوحدة الإسلامية.. ولا يحرك الصراعات
الذي يحرك الخلافات والصراعات:
أ. الجهل
ب. التعصب ( فتاوى التكفير)
ت. العناصر المخربة السيئة
ث. السياسات المنحرفة..
ج. القوى المعادية للإسلام.
3) تصحيح الرؤية التاريخية مسألة ضرورية حتى لا تبقى الأمة أسيرة تاريخ مشحون بالنتاقضات وتختفي الرؤية الواضحة، وتختلط الأوراق.
يجب أن تحدد بوضوح:
· الرموز الأصلية والرموز الدخلية
·ما يمثل تاريخ الرسالة، وما يمثل تاريخ الحكام
فهل الأمويون والعباسيون يمثلون أصالة هذا التاريخ
فنحن لا نتفق مع شوقي أمير الشعراء حينما يحاول أن يمجد التاريخ الأموي ليجعل منه تاريخ الإسلام الأصيل، ويجعل من ؤموزه هم رموز الإسلام الأصيلة جاء ذلك في قصيدته (قم ناج جلّقو انشد رسم من بانوا )
وقد تصدى له الشاعر الوردي في قصيدته المعروفه:
هذا هو المجد لا من قال قائلهم قم ناج جلق وانشد رسم من بانوا
إلى أن يقول:
بوركت شوقي هل أغراك بارقهم إذ رحت تبكي ودمع العين هتـــــــان
مررت بالمسجد المحزون تسأله هل في المصلى أو المحراب مروان
أأنت أعمى فياعوفيت من عمه فكيف يوجد في المحراب شيطــــــان
إلى أن يقول:
أنى لهم بأصول الدين معرفة هل يعرف الدين خمارٌ ودنان
الطاس والكاس والطنبور دينهمو فجدهم ناقر والإبن سكران
فيا أمير القوافي إن أردت علا
قم في ربا الطف وانشد رسم من بائوا
ودع أمية فالتاريخ يعرفهم
ولا يغرنك سلطان وتيجان
هل أن يزيد بن معاوية من الرموز الكبيرة التي تسيء إليهم هذه الاحتفالات.
من هو يزيد؟ قاتل الإمام الحسين، هادم الكعبة، مبيح المدينة، شارب الخمر، ونعم ما قال بولس سلامة في ملحمته المعروفه:
رافع الصوت داعياً للفلاح أخفض الصوت في أذان الصباح
وترفق بصاحب العرش مشغولاً عن الله بالقيان الملاح
ألف الله أكبر لا تساوي بين كفي يزيد نهلة داح
هل أن الوليد من هؤلاء الرموز التاريخيين الذين يجب الحفاظ على سمعتهم؟
الوليد الذي يستفتح بالقرآن فتظهر الآية (( واستفتحوا وخاب كل جبار عنيد )) فيضع القرآن أمامه غرضاً للسهام، وهو يقول:
تهددني بجبار عنيد فها أنا ذاك جبار عنيد
إذا ما جئت ربك يوم حشر فقل يا رب مزقني الوليد
فالاتجاه الذي يتحفظ على فتح ملفات التاريخ خوفاً من المماس ببعض الرموز، اتجاه يساهم في تكريس الرؤية الخاطئة للتاريخ، وفي غياب الفهم الأصيل لتراث هذه الأمة، في مفرداته التاريخية، وفي رموزه الحقيقية.
فمن الخير لهذه الأمة، أن تدعو إلى قراءة جادة ومنصفه للتاريخ وأحداثه ورجاله، لإعطاء هذا التاريخ مضمونه الأصيل، ومساراته النظيفة، بعيداً عن كل ألوان التحريف والتزييف، ومصادرة الحقائق، وتشويش الرؤية، وبعثرة الأوراق.
هذا هو المنهج التأصيلي للتاريخ، وهذا هو التعاطي الواعي مع أحداث التاريخ، ورجال التاريخ، وملفات التاريخ، وما عداه فهو منهج تبريدي، وصياغة متخلفة، ونظرة جامدة.
إن الإصرار على تبرئة التاريخ، وكل أحداثه ورموزه ورجاله، مسألة لها خطورتها على إنتاج (( وعي الأجيال ))؛ كون التاريخ هو أحد الروافد الهامة لتشكل هذا (( الوعي ))، وبمقدار ما تكون مكونات هذا التشكل أصلية ونقية تتحدد أصالة الوعي ونقاوته…. وبمقدار ما تفقد هذه المكونات عنصر الأصالة والنقاء، يكون الوعي فاقداً لذلك….
من هنا يمكن أن نتهم هذا الإصرار بأنه لا ينطلق من حالة عفوية ساذجة ورؤية منغلقة، وإنما هو المنحنى الهادف إلى إنتاج (( الوعي التحريفي ))، بما لهذا الوعي من معطيات خطيرة على مسارات الأمة الروحية والثقافية والاجتماعية والسياسية.
ولا نجد في هذا الاتهام شيئاً من التجني، والجود، والإجحاف؛ كون المحاسبة التاريخية ضرورة تفرضها الرؤية الموضوعية الهادفة إلى صياغة الأصالة الحضارية لهذه الأمة، وغياب هذه الرؤية يشكل خللاً واضحاً في إنتاج هذه الصياغة.
والأمة – في حاضرها المعاصر – وهي تبحث عن هويتها الضائعة، وعن مشروعها الحضاري الغائب في حاجة إلى أن تعيد القراءة لكل تاريخها، وليس هذا استلاباً لحس المعاصرة كما يدعى أصحاب (( القطيعة التاريخية )) وإنما هو محاولة (( التجذير والتأصيل ))، وإلا بقيت الهوية تائهة، والمشروع متغرباً.
الإشكالية الثالثة:
الإشكالية التي تتهم هذه الاحتفالات بأنها (( بدعة )) محرمة في الإسلام.
مناقشة هذه الإشكالية..
البدعة – حسب الاصطلاح – هي إدخال في الدين ما ليس منه.
فقد يقال إن (( البدعة )) في مسألة الاحتفالات كونها تمارس على أساس أنها من الأمور التي شرعها الإسلام وندب إليها، وهذا إدخال في الدين ما ليس فيه، فلم يثبت من خلال النصوص الإسلامية أن هذه الاحتفالات قد شرعت، بل لم يكن لها وجود في العصر الأول للإسلام.
ونلاحظ من هذا الكلام:
أولاً: الذين يمارسون هذه الاحتفالات لا يدعون أنها من الأمور التي شرعتها النصوص الإسلامية بخطاباتها المباشرة لتكون ضمن منظومة القضايا التعبدية كما هي المسنونات والمندوبات الشرعية الواردة في خطابات النصوص.
ثانياً: هناك عناوين عامة في الإسلام، تتحرك من خلال تطبيقات متجددة…..
لو أخذنا – مثلاً – عنوان (( البر والإحسان )) فهو عنوان عام ورد ذكره في النصوص الدينية، إلا أن مصاديقه، وتطبيقاته تتجدد مع حركة الزمن، وهذه المصاديق والتطبيقات تكون مشمولة بخطابات النصوص في اطلاقاتها وعموماتها، وهكذا بقية العناوين.
ثالثاً: في مجالات العمل الإسلامي تعاملت الشريعة مع الأسس والمبادئ والضوابط والمنطلقات، وأما الوسائل والطرق والأساليب، فهي تتحرك وتتغير وتتجدد محكومة بتلك الأسس والضوابط.. والمنطلقات.
رابعاً: تأسيساً على النقاط المتقدمة، يمكن القول: أن (( الاحتفالات )) وإن لم ترد بعنوانها في نصوص دينية مما لا يسمح بوضعها ضمن المنظومة التعبدية الخاصة، إلا أنها يمكن أن تكون إحدى التطبيقات والمصاديق لبعض العناوين.
مثلاً ورد عنوان (( الإحياء )) في بعض النصوص الصادرة عن أئمة أهل البيت عليهم السلام (( أحيوا أمرنا رحم الله من أحيا أمرنا )) والإحياء عنوان يمكن أن يتحرك من خلال عدة تجسيدات، ولا شك أن (( الاحتفالات )) واحدة من هذه التجسيدات.
وورد عنوان (( المجالس التي نحبها )) في بعض كلمات الأئمة عليهم السلام، والاحتفالات تعبيرات واضحة لهذه المجالس.
وإذا أردنا أن نأخذ عنوان ((العمل الإسلامي)) في خطه المتحرك والمتجدد فيمكن أن نصنف ((الاحتفالات)) ضمن ((الأساليب الموضوعية)) التي تجسد أحد تجددات هذا العنوان، وأحد تمظهراته المتحركة.
إن مسؤولية العمل الرسالي تفرض البحث عن صيغ متجددة ومتطورة في ما هي أساليب الدعوة إلى الإسلام، وفي ما هي طرق التبليغ.
الانفتاح على هذه الصيغ المتجددة والأساليب المتطورة ما دامت محكومة للضوابط والأسس الشرعية، لا يمكن أن نجد فيه أي إشكال من وجهة النظر الإسلامية.
هل يمكن أن يستشكل أحد على إقامة المؤتمرات، والندوات، وتشكيل المؤسسات الثقافية والاجتماعية والسياسية، باعتبارها أساليب مستحدثة وما كانت موجودة في عصر الإسلام الأول.
هل أن اعتماد ((التقنيات الحديثة)) في الدعوة إلى الإسلام، يعد خروجاً على ضوابط الشريعة… ؟
قد يقال أن هذه مغالطة، لأنكم أقحمتم ((الاحتفالات)) ضمن ((الممارسات الشعائرية الإسلامية)) وهذا إدخال في الدين ما ليس منه، وما أشرتم إليه من أساليب متجددة ليست إلا تعبيرات موضوعية لا تحمل الصبغة الدينية.
نجيب بأن الاعتقاد بكون الاحتفالات من الأمور التي نتقرب بها إلى الله تعالى، لا يعني إعطاءها صفة ((الشعائرية)) ذات البعد الوقيفي، فكل عمل – لا يحمل عنواناً محرماً – سواء كان هذا العمل ثقافياً أو اجتماعياً او اقتصادياً، أو سياسياً إذا قصدنا به ((التقرب إلى الله تعالى)) يتحول إلى عمل ((عبادي)) بالمعنى العام، فالممارسات المحكومة للضوابط الإسلامية والتي تتحرك في خط التقرب إلى الله؛ كونها تخدم الإسلام، تعتبر ممارسات عبادية لا بالمعنى الخاص للعبادة لأن هذه أمور توقيفية ولا يجوز إدخال ما لم يرد فيه نص، ولكن بالمعنى العام للعبادة – كما أوضحنا – .
هذه الاحتفالات من الأساليب الموضوعية المتحركة، ولا تحمل عنواناً يتنافى مع الإسلام، ولها معطياتها الكبيرة في خدمة الرسالة وتأصيل الانتماء، وربط الأمة بجذورها التاريخية، وحماية المسيرة من الذبغ والانحراف.
إن الاتجاه الرافض لهذه الاحتفالات، في نتائجه السلبية، يلتقي مع الاتجاهات العلمانية التي تحاول إلغاء التعاطي مع التراث والتاريخ، وتريد أن تمسح من ذاكرة الأمة كل معطيات هذا التراث والتاريخ بدعوى أن هذا يشكل ((رجوعية للماضي)) تتنافى مع ضرورات المعاصرة والانفتاح على الحاضر.