حديث الجمعة 46: حَاجتنا إلى خِطابٍ يلامسُ القَلب والرُّوح – العلمانيه يستنفرون أقلامهم
حديث الجمعة 46 | 16 ذو القعدة 1424 ه | 8 يناير 2004 م | المكان: مسجد الإمام الصادق (ع) | القفول - البحرين
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد للّه ربِّ العالمين والصّلاة والسلام على خير الخلق أجمعين سيدنا محمد وآله الطيبين الطاهرين.
السلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته.
لنا في هذا اللقاء أكثر من كلمة:
الكلمــة الأولى:
حاجتنا إلى خطاب يلامس القلب والروح،
وينفتح بنا على ذكر اللّه تعالى
إنّنا لا نرفض خطاب السّياسة أو أي خطاب آخر،فمسئوليتنا أن نتناول هموم الناس السّياسية، وهموم الناس الثقافية، والاجتماعية، والاقتصادية، فمن الخيانة للدين والإنسان أن يفرّط خطاب المسجد في معالجة هموم الناس، وأن يفرّط خطاب المسجد في معالجة قضايا الناس وأوضاعهم وشئونهم.
ولكن – مهما تنوعت وتعددت الاهتمامات والخطابات – يبقى الخطاب الذي يذكرّنا باللّه، ويذكرّنا بقضايا الروح، وقضايا القيم، الحاجة الكبيرة الكبيرة خاصةً في هذا الزمان المتخم بخطابات المسخ الروحي، والمشحون بأحاديث السَّياسة الفاسدة المراوغة، وألاعيب الإعلام المضلل والصحافة العابثة.
في هذه الأجواء الموبوءة يشتد ظمأ الإنسانِ المؤمنِ إلى حديثِ الإيمان، وحديثِ الروح وحديثِ الآخرة، وحديثِ الحب الإلهي.
في هذه الأجواء الضاغطة على الأرواح والقلوب، تتأكد حاجتنا إلى الكلمات التي تنفتح بنا على ذكرِ اللّه سبحانه، وعلى فيوضاتِ اللّه، وإشراقاتهِ الربّـانية لكي تخفّف عن أرواحنا وقلوبنا ما أصابها من تكلّس هذا الواقع المثقل بالغبش والتيه والضياع، وبالسرابات الزائفة الكاذبة الخادعة، وبالصراعات والخلافات التي أنتجتها الأهداف والأغراض البعيدة عن رضا اللّه تعالى، فما نسمعه هنا أو هناك من تجاذبات قاسية تصل إلى حد العداوات لهو تعبير عن غياب المعايير الإيمانية والروحية، وغياب الضوابط الشرعية، مما يؤكد ضرورة الخطاب الذي يؤصّل الوعي الإيماني ويجذّر الحس الشرعي في التعاطي مع كلِّ القضايا الثقافية والاجتماعية والسّياسية، هذا الخطاب التأصيلي ليس ترفاً أو استهلاكاً أو إعلاماً إنّه الحاجة لتحصين وعي الأجيال وحماية روحيتها، وتصحيح كلّ الأوضاع.
أيّها المؤمنُ الباحثُ عن حب اللّه، والمشدودُ إلى جنة اللّه {التي وعد المتقون، فيها أنهارٌ من ماءٍ غير آسن، وأنهارٌ من لبن لم يتغير طعمه، وأنهارٌ من خمرٍ لذةٍ للشاربين، وأنهارٌ من عَسَلٍ مصفى، ولهم فيها من كلِّ الثمراتِ، ومغفرةً من ربِّهم، كمن هو خالدٌ في النار وسُقُوا ماءً حميماً فقطّع أمعاءهم}.
أيّها المؤمن العاشقُ إلى لذةِ القُربِ من اللّه تعالى حذارِ أن تغفل عن ذكر اللّه {ألا بذكر اللّه تطمئنُ القلوب}، (والذكر لذة المحبين) كما جاء عن أمير المؤمنين (عليه السلام).
٭ وعن النبي الأكرم (صلّى اللّه عليه وآله): «ألا أخبركم بخير أعمالكم، وأزكاها عند مليككم وأرفعِها في درجاتِكم، وخير لكم من الدينارِ والدرهم، وخيرٍ لكم من أن تلقوا عدوكم فتقتلونهم ويقتلونكم؟ قالوا: بلى يا رسول اللّه قال (صلى اللّه عليه وآله): ذكر اللّه عز وجل» ، وقيل للنبي (صلى اللّه عليه وآله): مَنْ أكرم الخلق على اللّه؟ قال (صلى اللّه عليه وآله): «أكثرهم ذكراً للّه، وأعملهم بطاعته».
التعاطي الحقيقي مع ذكر اللّه:-
وحقيقة الذكر – أيها المؤمن – الطاعة للّه عز وجل، عن النبي (صلّى اللّه عليه وآله): «من أطاع اللّه عز وجل فقد ذكر اللّه وإن قلت صلاته وصيامه وتلاوته للقرآن، ومن عصى اللّه فقد نسى اللّه وإن كثرت صلاته وصيامه وتلاوته».
المهم أيّها الأحبة أن نكون على ذكر دائم للّه تعالى في كلِّ المواقع والحالات {يا أيّها الذين آمنوا اذكروا اللّه ذكراً كثيراً وسبّحوه بكرة وأصيلاً}، {ومن أعرض عن ذكري فإنّ له معيشة ضنكا، ونحشره يوم القيامة أعمى، قال ربِّ لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيراً، قال كذلك أتتك آياتُنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى}.
إنَّ القلوب مهددة بالعمى متى ابتعدت عن ذكر اللّه سبحانه، ومهددة باستحواذ الشيطان وغواياته وضلالاته {ومَنْ يَعشُ عن ذكر الرحمن نقيّض له شيطاناً فهو له قرينٌ، وإنهم ليَصدّونهم عن السبيل ويحسبون إنهم مهتدون حتى إذا جاءنا قال يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون}.
– يعش عن ذكر الرحمن: يعرض عنه أو يَعْمَ عنه {شبههم بالعمى لما لم يبصروا الحق}.
– نقيض له شيطاناً: نخل بينه وبين الشيطان الذي يغويه ويدعوه إلى الضلالة فيصير قرينه عوضاً عن ذكر اللّه وقيل نقرن به شيطان في الآخرة يلزمه فيذهب به إلى النار كما أن المؤمن يقرن به ملك فلا يفارقه حتى يصير به إلى الجنة، ومثيل الشيطان: من يتصدّى لإضلال الناس.
وحتى نحمي قلوبنا من العمى وعبث الشيطان يجب أن نملأها بذكر اللّه، وحب اللّه وطاعة اللّه، أن نملأها روحانية وإشراقاً وإيماناً، من خلال المجالس الربانية، والأحاديث الربانية، والأجواء الربانية.
قال لقمان لابنه:
«يا بني إختر المجالس على عينيكِ فإن رأيت قوماً يذكرون اللّه فاجلس معهم، فإن تكن عالماً نفعك علمُك، وإن تكن جاهلاً علّموك، ولعلّ اللّه يظلّهم برحمتهِ فتعمّك معهم، وإن رأيت قوماً لا يذكرون اللّه فلا تجلس معهم فإنك إن تكن عالماً لا ينفعُك علّمك، وإن تكن جاهلاً يزيدوكَ جهلاً، ولعلّ اللّه يظلّهم بعذابٍ فيعمّك معهم».
القلوب المؤمنة أنْسُها الكبير بذكر اللّه، وبمجالس ذكر اللّه، وبالأحاديث التي تذكرهم باللّه.
أمّا القلوب المنافقة فتستوحش من ذكر اللّه وتهرب من مجالس ذكر اللّه، وتضيق بمن يحدّث عن ذكر اللّه
{وإذا ذُكِرَ اللّه وحَدْهُ اشْمَأَزَتْ قلوبُ الذين لا يؤُمنونَ بالآخرة، وإذا ذُكِرَ الذين من دُونِه إذا هم يستبشرون}.
حاول – أخي المؤمن – أن تمتحن قلبَكَ وأنت تصغي لمتحدثٍ هنا أو متحدثٍ هناك، فإن كان المتحدث يذكرّك باللّه، ويقرّبك إلى اللّه، ويشدك إلى دين اللّه، ويملأك بروحانية اللّه، كم ينفتح له قلبك، وكم يضيق به قلبُك؟ فإن كانت الأولى فبشر نفسك بالخير ورضوانٍ من اللّه سبحانه، وإن كانت الأخرى فأبدأ حسابَك مع نفسِك وقلبك وروحك قبل أن تنزلق في متاهات الشيطان والهوى، وإذا كان المتحدّث لا يذكرّك باللّه، ولا يقرّبك إلى اللّه، ولا يشدّك إلى دين اللّه، ولا يملأك بروحانية اللّه، فكم ينفتح له قلبك وكم يضيق به قلبك، فإن كانت الأولى فكن من قلبك في حذرٍ شديد، وإن كانت الأخرى ففي قلبك خير ونور وهدى من اللّه، وخشية منه {إنّما المؤمنون الذين إذا ذكر اللّه وَجِلتْ قلوبُهم وإذا تُلِيَتْ علِيهمْ آياتهُ زادتهم إيماناً وعلى ربِّهم يتوكلون. الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون. أولئك هم المؤمنون حقاً لهم درجاتٌ عند ربِّهم ومغفرةٌ ورزقٌ كريم}.
الكلمـة الثانيــة: المضمــــون الروحـــي للعبــادة
العبادة الإسلامية – الصلاة، الصيام، الحج – لها مضمونات: المضمون الفقهي والمضمون الروحي، المضمون الفقهي هو الصيغة التي تؤدي بها العبادة وفق الشروط الفقهية، وغياب هذه الشروط يعني فساد العبادة فقهياً.
والمضمون الروحي هو ما تحمله العبادة من دلالات ومعاني روحية كبيرة تهدف إلى خلق الإنسان المتقي، وغياب هذا الهدف يعني عدم قبول العبادة {إنّما يتقبل اللّه من المتقين}.
ومن المؤسف جداً أنَّ الكثيرين ممن يمارسون العبادة يحرصون كلّ الحرص على المضمون الفقهي ، وهذا أمر هام جداً، إلاَّ أنّهم يهملون المضمون الروحي تماماً، وبعبارة أخرى: هؤلاء يحافظون على «الشكل العبادي» ويهملون «المحتوى العبادي» أو قل: يحافظون على «جسم العبادة» ويفرطون في «روح العبادة» والمطلوب منا أن نحافظ على «الشكل والمحتوى» وعلى «الجسم والروح»، وإذا أردنا أن نستعين بأمثلة تطبيقية لتوضيح هذا التناقض في سلوك الإنسان المسلم فنطرح الأمثلة التالية:
1- الطهارة الحسية والطهارة الروحية، نحرص كثيراً على طهارة أبداننا وثيابنا من النجاسات والقذارات، ولكن كم نحرص على طهارة قلوبنا وأرواحنا من التلوثات والشوائب؟
الفارق كبير وواضح في حياتنا بين طهارة الأبدان والثياب، وطهارة الأرواح والقلوب.
2- الدقة في الوضوء والغسل إلى حد الوسوسة عند البعض، إلى جانبها تفريط ولا مبالاة في الاعتداء على حقوق الناس، فكيف نوفق بين هذين النمطين من السلوك، إنّه مثال واضح للتناقض بين «الالتزامات الفقهية» و«الالتزامات الروحية».
3- ضبط اللسان في القراءة ومخارج الحروف وهتك الأعراض والحرمات، اللسان هو اللسان، فإن كان إنضباطه في الصلاة تعبيراً عن «الالتزام بأحكام اللّه» وخوفاً من التفريط في عبادة اللّه تعالى، فلماذا لا ينضبط هذا اللسان نفسه في «الالتزام بأوامر اللّه ونواهيه» وخوفاً من الوقوع في غضب اللّه، هذا اللسان الذي يخضع لأحكام اللّه في أداء القراءة الصحيحة، ينطلق في خارج الصلاة ليمارس الكذب والغيبة والبهتان.
4- مبطلات الصلاة الفقهية ومبطلات الصلاة الروحية:
من الواضح أن المصلين العارفين بأحكام الصلاة يحاولون أن يتجنبوا كلَّ الأمور التي تؤدي إلى بطلان الصلاة فقهياً، والمبطلات الفقهية معروفة كما هي مدوّنة في الرسائل العملية، ولكن السؤال المطروح: هل يحافظ المصلون بنفس القدر على تجنــّـب «المبطلات الروحية للصلاة» ونعني بالمبطلات الروحية الأمور التي تؤدي إلى عدم قبول العبادة.
«من أغتاب مؤمناً أو مؤمنة لم يقبل اللّه صلاته ولا صيامه أربعين يوماً».
«من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من اللّه إلاّ بعــداً».
من المهم جداً أن نحافظ على صحة الصلاة من الناحية الفقهية، ولكن ما قيمة أن نتوفر على صلاة صحيحة فقهياً إلاّ أنّها فاقدة للقبول.
5– المفطرات الفقهية والمفطرات الروحية: المفطرات الفقهية مجموعة من الأمور ذكرها الفقهاء، وتسبب فساد الصوم، المفطرات الروحية مجموعة من الأمور تسبب حرمان الصائم من الثواب والعطاء الإلهي، وإن بقي الصوم صحيحاً من الناحية الفقهية، من أمثلة المفطرات الروحية: الظلم فحينما يمارس الصائم ظلماً أو إعتداءً أو إيذاءً كان صيامه مردوداً عليه، ولو كان صحيحاً (مائة بالمائة) من الناحية الفقهية
روي أنّ رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) سمع إمرأة تسب جارية لها وهي صائمة، فأمر لها بطعام فقالت إنّي صائمة، قال (صلى اللّه عليه وآله) : «كيف تكونين صائمة وقد سببتِ جاريتكِ، إنّ الصيام ليس من الطعام والشراب».
وقد تقدم حديث الغيبة.
وورد في بعض الروايات الزوجة التي تؤذي زوجها بلسانها لا يقبل اللّه صيامها ولا صلاتها، وكذلك الزوج الذي يظلم زوجته.
6- التروك الفقهية والتروك الروحية في إحرام الحج:
تذكر مناسك الحج مجموعة أمور تسمى «محرمات الإحرام» يجب على الحاج أن يتجنبها بمجرد أن يدخل في الإحرام، فإذا لبس الحاج ثوبي الإحرام، وعقد نية الحج، ولبى أصبح محرماً، ووجب عليه أن يلتزم بتروك الإحرام وتقدر محرمات الإحرام بخمسة وعشرين محرماً، وهذه المحرمات تترتب على مخالفة بعضها كفارات والحجاج عادةً يحرصون بدقة أن لا يتورطوا في ارتكاب شيء من هذه المحرمات، رغبة في صحة حجهم أو خوفاً من مسؤولية الكفارات، وهنا نتساءل:
كم من الحجاج يحرصون على اجتناب التروك الروحية للإحرام وهي الأمور التي تعطل قبول الحج وتصادر معطياته؟
«إنّ اللّه لا يعبأ بمن قصد هذا البيت ما لم يرجع بثلاث: ورع يعصمه عن الحرام، وخلق يعيش به مع الناس، وحلم يدفع به جهل الجاهلين».
«الغيبة تأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب».
– ما معنى هذا التعبير في الروايات «تأكل الحسنات» وقد ورد بالنسبة لبعض الذنوب.
– توجد ثلاثة تفسيرات:
أ – الغيبة تحبط العمل بمعنى إلغاء وإسقاط الحسنات أو بطلان العمل وسقوط تأثيره:
٭ {أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون}.
٭ {وقدمنا إلى ما عملوا من عملٍ فجعلناه هباء منثوراً}.
ب – أنّه حينما توزن الأعمال فإنّ الغيبة بمالها من عقوبات مغلظة ومشدّدة توجب اضمحلال ثوابات الأعمال الأخرى.
ج- إنّ حسنات الإنسان المغتاب تنقل إلى الشخص المستغاب كما ورد في كثير من الأخبار.
«لقد ذهب عملك باغتياب الناس».
الكلمــة الثالثــة: العلمانيون يستنفرون أقلامهم
أستنفر العلمانيون في أوطاننا الإسلامية أقلامهم في الدفاع عن القرار الفرنسي بمنع الحجاب، مستخدمين كلَّ ما في قاموسهم من مفردات تسيء إلى الموقف الإسلامي الذي انطلق في بلدان المسلمين غيرة على القيم الدينية الأصيلة، ومتهمةً لهذا الموقف بالتخلف والرجعية والتشدد والتطرّف، وربّما بالإرهاب، هكذا أصبح الحجاب أو الستر الإسلامي تطرفاً وارهاباً.
هذا ما تفهمه أمريكا من التطرف والإرهاب، وقد استجاب لهذا الفهم أولئك الذين يزعمون لأنفسهم أنهم ضدّ المشروع الأمريكي من مثقفين وسياسيين أن يرتمي هؤلاء في أحضان المشروع الثقافي الأمريكي المناهض للدين وقيم الدين ليس عمالة في نظر مثقفة العلمانية، إن العلمانيـة في عدائها المتأصــل للدين هي التعبير الأوضح لإنجــاح المشـروع الثقافي الأمريكي، هذا المشروع الذي يهدف إلى تغيير هوية الأمــة في مكوّناتها الروحية والأخلاقية والثقافيــة والحضاريـــة.
إذا لم يكن هذا التسويق والترويج للبضاعة الثقافية الأمريكية أو البريطانية أو الفرنسية هو العمالة فماذا تعني العمالة؟
هؤلاء المثقفون المتعلمنون يطرحون شعار «الخطاب النهضوي» في مواجهة خطابات التخلف والظلامية، ويعنون بالتحديد خطابات الدينيين والإسلاميين، ومفهوم الخطاب النهضوي عند هؤلاء هو الجرأة ضد الدين وقيم الدين والجرأة في رفض الانتماء إلى الدين.
أن يعبّر الإنسان المسلم عن إنتمائه وهويته مسألة لا تنسجم مع روح النهضة والتطور والعصر، هكذا في منظور الخطــاب النهضــوي لدى مثقفــي التغــريب والعلمنـة.
هل الحجاب يهدد دولة العلمانية العظمى؟!!
أن تحافظ فتاة مسلمة على هويتها بإلتزامها بزيّها الشرعي أمر يهدّد مبادئ العلمانية والتي كانت تزعم أن موقفها من الدين ومن الظاهرة الدينية موقفاً حيادياً وليس موقفاً عدائياً، أن تدخل فتاة متعرية بشكل فاضح إلى حرم الجامعة هذا شأن شخصي لا يجوز التدخل فيه، أمّا أن تغطي الفتاة مساحة من جسدها حماية للخلق والحشمة فهو انتهاك صارخ لقدسية العلمانية ولحرم الجامعة الذي يجب أن يبقى حيادياً كما يقولون إذا كان الحجاب يعبّر عن هوية الانتماء الديني، فالتحلل يعبّر عن هوية الانتماء اللاديني.
وإذا كان الحجاب يشكل دعاية دينية في المؤسسة التعليمية التي لا تقدم لطلبتها وتلامذتها إلا المعارف العلمية والقيم الإنسانية الكونية التي لا تنتمي لأي دين كان، ولا تعادي أي دين كان – حسب ما جاء في بعض المقالات المستنفرة للدفاع عن الموقف العلماني – أقول إذا كان الحجاب يشكّل دعاية دينية، فالتحلل في اللباس يشكّل دعاية لا دينية، فإذا كان من حق دعاة (إللاّديني) أن يعبّروا عن أنفسهم، فلماذا لا يسمح لدعاة (الدين) أن يعبّروا عن أنفسهم في مجتمعات تزعم لنفسها أنها مجتمعات الديمقراطية والحرية؟
شـــعارات الديمقراطيــة:-
الديمقراطية والحرية حينما تصل إلى منطقة (الدين) يجب أن تتجمد وأن تقف، ومن المؤسف أن مثقفي هذا العصر المبهورين بهذه العناوين والذين يزعمون لأنفسهم أنهّم يدافعون عن الديمقراطية وحرية المرأة وحقها في التعبير عن نفسها، حينما يرتبط الأمر بقضايا الدين وقيم الدين يتحولون إلى مدافعين عن الدكتاتورية والقمع الفكري ومصادرة الحريات.
قال أحدهم بأن إبعاد خصائص المعتقدات الدينية عن المؤسسات الرسمية يكرّس حالة المساواة بين المواطنين، والمساواة هنا طبعاً في التخلي عن الانتماء الديني – في الأوساط السياسية والرسمية على الأقل – لماذا المطلوب دائماً من الإنسان الملتزم أن يتخلّى عن إلتزامه، لماذا لا يكون العكس، المسألة واضحة كون المشروع السياسي أو التربوي أو الإعلامي مشروعاً مناهضاً للدين، ثم أنه إذا كان وجود الظاهرة الدينية في الوسط التعليمي أو في وسط المؤسسة الرسمية يكرّس حالة الخلاف والتناقض فالأمر ينسحب على الشارع وعلى كلّ المواقع، فحتى نحمي المجتمع من ظاهرة الإنقسام والتناقض بين المواطنين، يجب أن يمنع أي شكل من أشكال الإلتزام الديني، في الحجاب أو في أي سلوك آخر في كل المواقع الاجتماعية، وتبقى ظاهرة الإلتزام الديني محصورة في البيوت وفي دور العبادة، هذا ما تطمح إليه النظرية العلمانية، والنهج العلماني.
وأنا هنا لن أدخل في الجدل حول رؤيتنا الإسلامية في مسألة الستر الشرعي للمرأة المسلمة أو الحجاب الإسلامي، فذلك له حديث آخر ولكن ما أود الإشارة إليه في ختام هذه الكلمة أن العلمانيين أصبحوا ينظرّون لنا فقهياً فيما هو جائز وفيما هو حرام، وأصبحوا يتدخلون في تفسير النصوص القرآنية والروايات والأحاديث.
من حقهّم أن يكونوا منظرين في الفكر العلماني أمّا أن ينصبوا أنفسهم منظرين في الفكر الديني ليحددوا الرؤية الشرعية والفهم الشرعي في هذه المسألة أو تلك، فمعذرة إن طلبنا منهم أن يقفوا عن هذا الاقتحام الذي لا يملكون مؤهلاته وكفاءاته، وليكونوا مثقفين وسياسيين وكما يحلو لهم، أمّا أن يمارسوا دور الفقاهة والاجتهاد والاستنباط فأمر غير مقبول منهم، حتى لو كان على مستوى الترجيح لهذا الرأي الفقهي أو ذاك، أو هذا الفهم أو ذاك.
أكتفي بهذا القدر من الحديث على أمل العودة إليه مرة أخرى.
وآخر دعوانا أن الحمد للّه ربِّ العالمين.