حديث الجمعة 44: الحَجُّ هَذهِ الفَريضة العَظيمة (1) – العلمانية وزيف الشعارات الكاذبة
حديث الجمعة 44 | 2 ذو القعدة 1424 ه | 25 ديسمبر 2003 م | المكان: مسجد الإمام الصادق (ع) | القفول - البحرين
الحمد لله ربِّ العالمين والصلاة والسلام على سيدنا ونبّينا وحبيبنا وقائدنا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين المعصومين.
السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أبدأ حديثي بكلماتٍ عن الحج في ظل مجموعة من النصوص تضعنا أمام القيمة الكبيرة لهذه الفريضة العظيمة:
قال الله تعالى مخاطباً نبيّه إبراهيم (عليه السّلام):
{وأذِّنْ في الناسِ بالحجِ يأتوكَ رجالاً وعلى كلِّ ضامرٍ يأتِينَ من كلِّ فجٍّ عميق}.
عن الإمام الباقر (عليه السلام): (إنّ الله جلَّ جلاله لمّا أمر إبراهيم (عليه السلام) ينادي في الناس بالحج قام على المقام فارتفع به حتى صار بإزاء جبل أبي قُبيس فنادى في الناس بالحج فأسمع من في أصلاب الرجال وأرحام النساء إلى أن تقوم الساعة)
وعن ابن عباس: لما بنى إبراهيم البيت أوحى الله إليه أن أذّنْ في الناس بالحج، فقال إبراهيم: ألا إنّ ربَّكم قد أتخذ بيتاً وأمركم أن تحجّوه، فاستجاب له ما سمعه من حجر أو شجر أو أكمة أو تراب: لبيّكَ اللهمَّ لبيّك.
ويروى عن رسول الله (صلىّ الله عليه وآله) أنه سئل: أيّ الأعمال أفضل؟ قال: إيمان بالله ورسوله، قيل: ثمَّ ماذا؟ قال صلىّ الله عليه وآله: جهاد في سبيل الله قيل: ثمَّ ماذا؟ قال (صلىّ الله عليه وآله): حج مبرور.
وعنه (صلىّ الله عليه وآله): (أيّ رجل خرج من منزله حاجاً أو معتمراً، فكلمّا رفع قدماً ووضع قدماً تناثرت الذنوب من بدنه كما يتناثر الورق من الشجر، فإذا ورد المدينة وصافحني بالسَّلام صافحته الملائكة بالسَّلام، فإذا ورد ذا الحُليفة واغتسل طهرّه الله من الذنوب، وإذا لبس ثوبين جديدين جدد الله له الحسنات، وإذا قال: لبيّك اللهمّ لبيّك، أجابه الربّ عز وجل بلبيّك وسعديك، أسمع كلامك، وأنظر إليك، فإذا دخل مكة وطاف وسعى بين الصفا والمروة وصّل الله الخيرات.
فإذا وقفوا في عرفات وضجت الأصوات بالحاجات باهى الله بهم ملائكة سبع سموات ويقول: ملائكتي وسكّان سماواتي: أما ترون إلى عبادي أتوني من كلِّ فج عميق شُعْثاً غُبْراً، قد أنفقوا الأموال وأتعبوا الأبدان فوعزتي وجلالي لأهبن مسيئهم بمحسنهم، ولأخرجنّهم من الذنوب كيوم ولدتهم أمهاتهم، فإذا رموا الجمار وحلقوا الرؤوس وزاروا البيت، نادى منادٍ من بطنان العرش: ارجعوا مغفوراً لكم، وأستأنفوا العمل..)
أيّها المؤمنــون هذا هو حج بيت الله تعالى، والحــج فقــرة هامــة جداً من فقرات البرنامج الرباني لصياغة الإنسان ولصياغة الحياة.
التمسك بمنهج اللّه تعالى:
ما أحوجنا – أيّها الأحبة – إلى العودة إلى (البرنامج) الذي وضعه الله وأن لا ننخدع بالاطروحات التي قدّمها الإنسان القاصر بعيداً عن (منهج الله تعالى) في هذا العصر تتعالى أصوات في مجتمعات المسلمين تدعو إلى التخلّي عن أحكام الله وعن شــريعة الله، والعمــل بأنظمــة مخالفــة لأحكام اللّه وشــريعة اللّه.
إنّ الذين يدعون إلى تحكيم القوانين البعيدة عن منهج الله يمارسون أعظم جناية في حق الإنسان وفي حق الحياة.
لماذا يصرّ المؤمنون على رفض تدّخل المؤسسات المدنية الوضعية في شؤون الشريعة، وفي شئون أحكام الله تعالى؟ لأنّ هذا التدخل هو الخطوة الأولى في طريق المصادرة لأحكام الشرعية الإسلامية، ربّما تكون دوافع البعض من دعاة التقنين المدني لأحكام الأسرة وأحكام الوصايا والمواريث دوافع مخلصة إلاّ أنَّ هذا لا يبرر إطلاقاً الإقدام على هذا العمل لأن مسألة الحلال والحرام في شرع الله لا تناط بمداولات البرلمانات والمؤسسات المدنية، وإذا كان هناك حديث عن الضمانات التي تحمي التقنين أن يتجاوز أحكام الشريعة فهذا وهم كبير، فضلاً على أنّ المسألة من حيث المبدأ هي عدم مشروعية تدخل المؤسسة الوضعية في قضية التشريع الديني.
حديث الضمانات القانونية!!
وأمّا حديث الضمانات فحديث خرافة في واقع برهن أن لا ضمانات تحمي أيّ قانون، فعلى هؤلاء أن يعيدوا النظر في حديث الضمانات، فالقضية تمس شرع الله، وتمس أحكام الله، فلا يصح إطلاقاً المجازفة في اتجاه يقودنا إلى تمكين المؤسسات الوضعية أن تضع يدها على هذه المساحة التي لازالت محكومة لشريعة الله، وإذا كان لديهم إخلاص للإسلام وللشريعة فليبدلوا جهودهم في إسترجاع المساحة المغصوبة من الشريعة فيما هي القوانين المدنية الكثيرة المخالفة لأحكام الله.
القضاء في البلد بحاجة إلى معالجة:
وهذا لا يعني أننّا لا ندعو إلى تحسين أوضاع القضاء بما يحمي حقوق الناس رجالاً ونساءً وبما يحمي الأسرة في مواجهة كلّ أشكال العبث والتلاعب والفوضى، ولكن هذا لا يتم من خلال أي عمل يساهم في تمكين (الهيمنة الرسمية) من الأحكام الشرعية، نحن لا نمانع أن يكون هناك إشراف رسمي في الشؤون الإدارية والنظامية البحتة لا في شؤون الأحكام والشرع، في ساحة القضاء مسائل لابد من معالجتها (هيكلة القضاء، شروط القضاء، تعيين القضاة) فإذا أُريد تصحيح أوضاع القضاء فيجب أن تعالج هذه المسائل، ويجب أن تحرر من كلّ الاعتبارات السّياسية ومن كلّ المحسوبيات والولاءات فالقضية ليست غياب قانون أو غياب أحكام شرعية، أو تعدد الآراء الفقهية، أو غموض الرؤى والتصورات فيما هي القضايا والمشاكل، القضية: القاضي، مؤهلات القاضي، تعيين القاضي، إذا تمت معالجة هذه المسائل فلسنا في حاجة إلى كلِّ هذا الضجيج في الدعوة إلى تقنين الأحكام تقنيناً مدنياً.
ويجب أن ترتفع كفاءات المحامين ليتمكنوا من التعاطي مع المصادر الفقهية، فما يثار من عدم وضوح الأحكام عند من يتصدون للدفاع أمام القضاء الشرعي فراجع إلى انخفاض مستوى الكفاءة الفقهيــة عند هــؤلاء، فالمشــكلة ليست في الأحكام الفقهية نفسها وإنمّا في مستوى الإعداد والبناء في كليات القانــون.
آمل أن لا تضيقوا بهذا النمط من الأحاديث التي تلامس قضايا الدين والشريعة وقضايا القيم الروحية، ربمّا ينزعج البعض بهذا اللون من الخطاب وهذا اللون من الحديث، إنّ الذين تزعجهم هذه المعالجات يمكن أن نصنفهم إلى صنفين:
الصنف الأول: أصحاب الاتجاه العلمــاني الذين يـرون في حديث الدين والقيم الروحية ترف لا مبرر له في هذا العصر، فيجب أن يتوقف هذا الخطاب.
الصنف الثاني: بعض الناس الذين اختلطت عليهم الأمور، فأصبحوا يرددون مقولات خاطئة، من هذه المقولات إنَّ المرحلة المعاصرة في حاجة إلى خطاب السياسة لا إلى خطاب الدين والروحانيات.
إنّ المرحلة المعاصرة في حاجة إلى خطاب يعالج هموم الناس المعيشية، أزمة البطالة، قضايا اقتصادية واجتماعية وسياسية كثيرة هي ضمن قائمة الأولويات.
ما قيمة أن نحدّث الناس عن الصلاة، والصيام، والحج وهم يعانون أشد الأزمات السياسية، ما قيمة أن نحدّث الناس عن القيم والأخلاق والفضيلة وهم يعانون أشد الأزمات المعيشية.
وقد انعكس هذا الفهم على مستوى التعاطي مع المواقع الدينية (المساجد والحسينيات) ومع الفعّاليات الدينية (المحاضرات والندوات).
خطاب المسجد وقضايا الواقع:
قد تسمع من بعض الشباب حينما تسألهم لماذا لا يكون لكم حضور في المساجد وفي الحسينيات وفي الفعّاليات الدينية، قد تسمع منهم: لماذا نحضر وهل سوف نسمع غير الحديث عن الصلاة، وعن الفساد الأخلاقي، وعن المواعظ والتخويفات، وسوف لن نسمع حديثاً عن السياسة، عن مشاكل الشباب، عن أزمات المعيشة، عن حقوق المرأة.
أنا لن أدافع عن كلِّ خطابات المساجد والحسينيات وكل خطابات الدينيين، فمن الواضح أنَّ هناك حاجة حقيقية إلى تطوير الكثير من هذه الخطابات.
ولكنّي أقول لهذا البعض من الشباب والذين لاشك في إخلاصهم للدين ولقيم الدين:
أولاً: إنّه من التجنّي الواضح أن نتهم كلَّ خطاب من خطابات المساجد والحسينيات والفعّاليات الدينية بأنّه غائب عن قضايا الساحة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، وهل هذا الضجيج الذي يثيره العلمانيون ضد الخطاب الديني، إلا كوّنه يحاول أن يتدخل في شؤون السياسة والاقتصاد والثقافة، وإلاّ فلو كان هذا الخطاب لا يتجاوز حديث الوضوء والصلاة، والمواعظ الأخلاقية والإرشادات الروحية، لكان هذا أقصى أمنيات العلمانيين ولباركوا هذا الخطاب لأنّه اعتزل الساحة وتركها لخطابهم العلماني، هذا الضجيج الذي يحركه العلمانيون يعبر عن قلق واضح وخوف من اقتحام الخطاب الديني لكلّ الساحات، فها هم يطالبون العلماء ويطالبون الدينيين أن لا يتدخلوا في قضايا السياسة وقضايا الاقتصاد وقضايا الثقافة.
أيّها الشباب: إنَّ خطابنا الديني في العديد من المساجد والحسينيات والفعّاليات خطاب يعيش الحظور في كل قضايا الساحة وفي كلّ قضايا المرحلة.
وهنا نقطة هامة يجب أن يفهمها شبابنا الأعزاء الذين نحمل لهم كل الحب والتقدير فهم رصيدنا الكبير، هذه النقطة هي أنَّ الحضور في قضايا الساحة وفي قضايا المرحلة لا يعني أبداً ضرورة أن ينفعل الخطاب بكلِّ حدث هنا أو حدث هناك، وبكلِّ قضية تتحرك هنا أو هناك، الخطاب قد يرى من المصلحة أن يقول كلمة وقد يرى المصالحة في السكوت أو التحرك بعيداً عن الضجيج وبعيداً عن الإثارات، المسألة خاضعة إلى قراءة دقيقة لكل الحيثيات والمردودات والنتائج، في مصالح الدين والناس.
إنّنا نفتح قلوبنا لكل أبنائنا وشبابنا لنسمع كلِّ همومهم وآرائهم إلاّ أننا نقول لهم بكل حب إنّ مسألة تحديد الموقف للخطاب العلمائي يجب أن يكون وفق المعايير الشرعية وليس حسب رغبة الناس أو انفعالات الناس مهما كانوا صادقين ومخلصين.
من حق الناس أن يطرحوا تصوراتهم وآرائهم إذا كانوا يملكون مؤهلات التصور والرأي، ولكنّهم ليس من حقهم أن يفرضوا الرؤية على الخطاب العلمائي، وإلاّ فسوف يجد هذا الخطاب نفسه أمام تباينات متعددة في الآراء والأفكار المتحركة في الشارع.
ثانياً: من قال لكم – أيّها الأحبة – أنّ حديث السياسة هو الحديث الأهم في هذه المرحلة؟!
صحيح أنّ حديث السياسة يفرض نفسه، وأنَّ هموم السياسة تفرض حضورها وهيمنتها على عقول الناس وعواطف الناس وحياة الناس، وصحيح أنَّ أنظمة السياسة هي التي تتحكم في كلِّ مصائر الشعوب وأوضاع الشعوب وحياة الشعوب، إلاّ أنه لا يعني أنَّ حديث السياسة هو الأهم، هناك حديث الثقافة، هناك حديث الاقتصاد، هناك حديث الاجتماع، وهناك حديث القيم والأخلاق.
وأمّا حديث الدين فهو حديث شامل لكل هذه الأنماط من الأحاديث.
نحن لا نفهم حديث الدين مفصولاً عن قضايا السياسة ومفصولاً عن قضايا الاقتصاد، ومفصولاً عن قضايا الثقافة، ومفصولاً عن قضايا المجتمع.
ثمَّ من قال لكم – أيّها الأحبة – أنَّ قضايا القيم الروحية وقضايا الأخلاق تقع في هامش القضايا وفي آخر قائمة الأولويات.
المسألة ليست كذلك، فقضايا الروح وقضايا الأخلاق تقع في واجهة الأولويات، ثمّ إنّ قضايا القيم الروحية والأخلاقية هي الضمانة لحماية كل المسارات.
فهل انحرفت السّياسة إلاّ لغياب الدين والقيم الروحية والأخلاقية؟
وهل انحرف الاقتصاد إلاّ لغياب الدين والقيم الروحية والأخلاقية؟
وهل انحرفت الثقافة إلاّ لغياب الدين والقيم الروحية والأخلاقية؟
ماذا لو أشبعت الأنظمة الحاكمة بطون الناس لكنّها جوّعت أرواحهم؟
ماذا لو كست الأنظمة أبدان الناس ولكنّها عرّت أرواحهم؟
ماذا لو وفرّت الأنظمة الحاكمة للناس المساكن والمنازل لكنّها سرقت كلَّ سكنهم الروحي..؟
ماذا لو أعطت الأنظمة للناس حرياتهم السياسية والاجتماعية لكنّها حاصرتهم بمشروعات الفساد والعبث الأخلاقي؟
القيــم الروحيــة والأخلاقيـة من أولـويـات المرحلة الراهنـة:
أيّها المؤمنون:
لا تجعلوا دينكم وأخلاقكم وقيمكم الروحية هي آخر اهتماماتكم، وآخر مطالباتكم، وآخر قضاياكم..
قد يكون هذا مقبولاً من علماني لا يؤمن بالدين ولا يؤمن بقيم الدين، إلاّ أنه لا يمكن أن يكون مقبولاً من مؤمن يؤمن بالدين ويؤمن بقيم الدين ويخاف الله ويخشى عقابه.
العلمانية وزيف الشعارات:
وفي ختام حديثي أقول كلمة حوّل العلمانية وزيف الشعارات، ما كنا نشك في يوم من الأيام إنّ الشعارات التي يطرحها العلمانيون هي شعارات كاذبة وشعارات زائفة، وإن كانت هذه الشعارات قد خدعت الكثيرين من أبناء أمتنا، قالوا: إنَّ العلمانية لا تصادر الحقوق، وقالوا: إنَّ العلمانية هي النصير لقضايا المرأة، وها هي فرنسا بلد العلمانية العريقة تعرّي زيف الشعارات وتعرّي كذب الشعارات، فماذا يعني قرار منع النساء المسلمات في فرنسا من ارتداء الحجاب الإسلامي في المدارس والجامعات؟، فهل هذا يمثل حياد العلمانية تجاه الدين كما يزعمون؟ أم أنّ العلمانية هي مشروع لمطاردة الدين ومصادرته، أم أنّ العلمانية هي مشروع لمحاربة القيم والأخلاق.
٭ ماذا يقول دعاة العلمانية في أوطاننا؟
٭ ماذا يقول أولئك الذين يمارسون دائماً التشكيك في الدين ورموز الدين؟
٭ ماذا يقول كـتـــّاب الأعمدة الصحفية هنا أو هناك ممن يروّجون لفكر العلمنة وثقافة التغريب؟
أنا لا يهمني كثيراً – في هذا الكلام – الأشخاص والأسماء ولا يهمني العناوين الكبيرة والعريضة التي تتصدر تلك الأعمدة، ما يهمني الحديث عن هذا الاتجاه الذي يحاول من خلال هذا القلم أو ذاك الإساءة (المباشرة أو غير المباشرة) إلى مسارات الدين وشخوص الدين، ولا أدعي هنا أن الرموز والشخوص الدينية في هذه الساحة أو تلك الساحة هم فوق النقد والمحاسبة، ولكن ما تروّج له الكتابات ذات النفس العلماني هو التشويش والتهجم والطعن من منطلقات واضحة وغايات مفضوحة.
ما نطالب به هنا أن يعيد المبهورون بالشعار العلماني حساباتهم ورؤاهم وأن لا يثقلوا شعوبنا بهذه الأطروحات الزائفة والتي آن الأوان لأن تتعرّى وتتكشف (ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين).
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين