من كلمات السيد عبد الله الغريفي في الشهيد السيد أحمد (رضوان الله عليه)
الحمد لله ربِّ العالمين والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والمرسلين محمد وآله الطيبين الطاهرين .السلام عليكم – أيها الأحبة في الله – ورحمة الله وبركاته
لا زالت ذاكرتي تحتضن تلك اللحظة ….
في صبيحة يومٍ لا ينسى، من أيام ذي القعدة سنة خمس بعد الأربعمائة والألف للهجرة كنتُ يومَها بعيداً، يملأني الشوقُ والحنينُ إلي الأرضِ والأهلِ والأحبةِ ، بعد فراقٍ دام طويلاً …
في صبيحة ذلك اليومِ الحاضرِ في الذاكرة رنّ جرس الهاتف ..
كانت المهاتفه من البحرين …
كلماتٌ متقطعة ممزوجةٌ ببكاءٍ ، واضطراب
تسارعت دقات قلبي … ماذا جرى ؟ ماذا جرى ؟
الكلمات الوافدة – عبر الهاتف – من البحرين يبدو أنّها تحمل خبراً مشوماً
يا لشؤم هذا الصباح … لاشك أنّها فاجعة ….
تابع المهاتف كلامهَ بنبراتٍ معبئةٍ بكل الأسى والحزن وهو يقول :
وقع حادث … توفي … وتعثرت الكلمات ….
كانت لحظة اختزلت كلّ الزمن ….
إشتدت ضرباتُ القلب . .
تسارعت الخواطر . . . حادث . . . توفي
من ؟ من ؟
وطافت في خيالي أسماء وأسماء ….
ولم يرد في الحسبان أن يكون هو …
ابداً لم يكن في الحسبان أن يكون هو ….
وكانت الصدمَةُ القاسيةُ التي لا زال وقعها يلامس كلَّ مخزوناتِ الشعورِ في داخلي .
وطافت في خيالي أسماء وأسماء ….
ولم يرد في الحسبان أن يكون هو …
ابداً لم يكن في الحسبان أن يكون هو ….
وكانت الصدمَةُ القاسيةُ التي لا زال وقعها يلامس كلَّ مخزوناتِ الشعورِ في داخلي .
كانت الصدمة القاسية، وأنا أسمعه يقول : (( وتوفي السيَّد أحمد الغريفي ))
لم أتحمل الموقف … وفي لحظة ذهول، لا زالت حاضرة في ذاكرتي رغم امتداد الزمن – سقط الهاتف من يدي وأجهشت بالبكاء ولساني يردد
((إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ))
وأنا لا أكاد أصدق … هل حقاً مات السيد أحمد؟
ومرت لحظة الذهول … وبدأت الحقيقة تتحدث : ((لقد مات السَّيد أحمد))
كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ…
وهكذا بلا وداع، وفي غفلةٍ من الزمن، في تلك الليلة الليلاءِ غادرنا …
قبلها بليالٍ ثلاث كانت لي معه مكالمة، وكنا على موعدِ لقاءٍ عند قبر الحبيب المصطفى صلى الله عليه وآله، وفي رحاب بيت الله …
ولكنّه استعجل لقاءَ الله ولقاءَ جده المصطفى صلى الله عليه وآله …
مضى وتركنا نعيش حسرات الفراق الصعب وآهات اللوعة والألم،
وتفاعلت الساحة مع الحدث بكل هوله وفداحته وبكل غموضاته وإبهاماته
وانطلقت التساؤلات تضغط وتضغط …
قد يكون القدر المحتوم .. وقد يكون .. وقد يكون …
مضى الحدث، وهو يختزن في داخله الكثير من أسرارهِ وملابساتهِ، ولعل في ملفات الحدث التي أصبحت في ذمة التاريخ ما يكشف الأسرار والملابسات، ولعل يقظة ضمير هنا أو هناك يمكن أن تفتح ضوءاً حول غموضات الحدث وإبهاماته …
ربما تكون هذه مجرد هواجس نفسية فرضتها أجواء الريبة والشك، وربّما لا أساس لها، إلاّ أنَّ هذا لا يلغي الحقَ في أن نقرأ هذا الحدث، وأي حدث آخر قراءات جديدة قد تفتح جديداً في فهمنا للأحداث وللحوادث …
ونحن لسنا مع غلق ملفات التاريخ بالشكل المطلق، من الملفات ما يجب إغلاقه، ومن الملفات ما يجب أن يبقى مفتوحا، وإلاّ ضاعت الحقائق التاريخية، وضاعت الحقوق الإنسانية …
إنّه جريمة في حق الإنسان والتاريخ أن تغلق ملفات الجناة في حق الإنسانية، وفي حق الشعوب ..
إنّه جريمة في حق الحياة أن تُغلق ملفاتُ التعذيبِ وانتهاكِ الحرماتِ وهتكِ الأعراضِ ..
نعود مرة أخرى لحدث السيد الغريفي .
مرت السنون والسنون، وهي حبلى بالأحداث والأحداث، والسيد أحمد الغريفي لا زال حاضراً في ذاكرة الأجيال،هناك محاولات ومحاولات لمسح هذا الرمز الكبير من ذاكرة الأجيال،إلاّ أنّ الأجيال التي عاشت هذا الإنسان وقرأته جهاداً وعطاءً ومدرسةً لا يمكن أن تنساه.
من الخيانة أن تنسى الأجيالُ رموزَ الجهادِ والعطاء ومن الخيانة أنَّ تنسى الأجيالُ رجالَ العلمِ والثقافة ومن الخيانة أن تنسى الأجيال دماءَ الشهادةِ والشهداء .
هنا سؤالٌ كبيرُ يطرح نفسَه ـ ونحن نحتفلُ بذكرى واحدٍ من رموزِ المسيرة –
ماهي مسؤوليةُ الأجيالِ تجاه هذه الرموز؟
تتحمل الأجيال مجموعةَ مسؤولياتٍ نوجزُها في المسؤولياتِ التالية :
المسؤوليةُ الأولى :أن يبقى هؤلاءَ الرموزُ في ذاكرة الأجيال :
والحديثُ هنا عن الذاكرة، لأنّ القوى المناهضة تحاول دائما أن تمسح الرموزَ من ذاكرةَ الأمة، وتحاول دائماً أن تملأ ذاكرة الأجيالِِ بـ ((البدائلِ المستعارة)) والتي أنتجتها مشروعاتُ التغريبِ والاستلاب المصادرةَ، وهكذا تتم عمليةُ إلغاءِ هُوية الأجيالِ، ومسخِ مكوّناتها، وإنهاءِ انتمائها إلى خط الأصالة .
فمسؤولية الاحتفاظ برموزِنا الأصيلةِ في ذاكرةِ الأجيالِ، ضرورةٌ تفرضُها عمليةُ البناءِ والتأصيلِ في مواجهةِ مشروعاتِ الاستلابِ والتغريب والمصادرة .
المسؤوليةُ الثانية :أن يبقى هؤلاء الرموز في وجدانِ الأجيال …
أن يبقى الرموزُ في الذاكرة أمرٌ هامٌ جداً ولكنّه بقاءُ خاملٌ راكدٌ إذا لم يتحولُ إلى ((حبٍ وعشقٍ وعواطفَ وأحاسيس))،قد تحتفظ الذاكرة بأسماءِ الرموز إلا أنهم لا يعيشون في عمقِ الوجدان، لا يعيشون في عمق العواطف مما يخلق فتوراً في العلاقة، وجفافاً في التواصل، وركوداً في التعاطي .
وكلما اقترب هؤلاء الرموز من منطقةِ الوجدانِ، ومنطقة الأحاسيس كانت العلاقة معهم اكثرَ حرارةً، وكان التواصلُ أكثرَ نبضاً، وكان التعاطي أكثر فاعلية .
المسؤوليةُ الثالثة :أن يبقى هؤلاء الرموزُ في وعي الأجيال :
أن تحتفظ الذاكرةُ بالرموز، وأن يحتفظ الوجدان بالرموز أمرانِ ضروريان لتأصيل الانتماء، ولكن تبقي الذاكرةُ ساذجة، ويبقى الوجدانُ غبياً، إذا لم يتشكّلا من خلالِ ((الوعي والبصيرة)).
فيجب أن يتحول الرموزُ إلى زادٍ يصنعُ وعيَ الأجيالِ، ويصنعُ ثقافةَ الأجيالِ فإذا كان من الوفاءِ للرموزِ أن نذكرهَم دائماً وأن لا ننساهم، وإذا كان من الوفاءِ للرموزِ أن نحتفل بذكرياتهم وأن نقيم لهم المهرجاناتِ والتأبينات، فإن الوفاء الحقيقي لهؤلاء يفرضُ أن يكون فكرُهم حاضراً، وأن تكونَ ثقافتُهم حاضرة، وأن تكون تجربتهم حاضرة، وأن يكون عطاؤهم حاضراً في وعي الأجيال، وفي بصيرةِ الأجيال وفي رؤية الأجيال وكم يكون جميلاً وضرورياً أ، تتحول هذه المناسبات إلى ((مؤتمراتٍ علمية)) .
لا يعني هذا أن نجمّد الإحتفالاتِ الشعبية، فإن لها دورهَا الكبيرَ على مستوى تعبئةِ الجماهير .
المسؤولية الرابعة :أن يبقى هؤلاء الرموزُ في سلوكِ الأجيال :
أن يبقى الرموزُ في الذاكرةِ والوعيِ والوجدان، ضرورةٌ تفرضُها حالةُ ((التعاطي)) مع الرموز، ولكنّه تعاطٍ لا يملك (مصداقية) ما لم تتحولِ الذاكرةُ إلى فعل ، وما لم تتحولِ العاطفةُ إلى ممارسةٍ، وما لم يتحولِ الوعيُ إلى سلوك .
فحينما تفقدُ الذاكرةُ مصداقيتها تكونُ ذاكرةٌ بليدة، وحينما تفقدُ العاطفةُ مصداقيتَها نكونُ وعياً زائفاً فالعلاقةُ مع الرموز تتحدد قيمةً وأصالة وعمقاًً ووضوحاً، وثباتاً وقوةً من خلالِ القدرةِ على إنتاحِ ((سلوكية ألأجيال)) ومتى فقدتِ العلاقةُ هذه القدرةَ كانت علاقةً فاشلةً تختزنُ في داخلها البلادةَ والكذبَ والزيفَ.
المسؤولية الخامسة : أن يبقى هؤلاءَ الرموزُ في حركيةِ الأجيال .
وثمةَ مسؤوليةٌ هي التي تعطي لكلِ المكوّناتِ إمتدادَهْا في حركةِ الواقع الروحي والثقافي والإجتماعي والسّياسي تلك هي مسؤوليةُ (الفاعليةِ الرسالتية)، فالرموزُ ما كانوا كذلك إلاّ حينما استطاعوا أن يكونوا (العاملين)، الذين تجاوزوا (دائرةَ الذاتِ) ليتحولوا إلى حركة في كل الواقع ولتحولوا إلى عطاءٍ في كلِ الساحة، وليتحولوا إلى وجودٍ ينتج الوعي في كلِ مكاٍن، ويزرع الخيرَ في كلِ الأرض، وينشرُ الهدى بين الناسِ كل الناسِ .
فكم تكونُ الأجيال قادرةً أن تستحضر الرموز في (حركيتها وفاعليتها ورساليتها) عند ذلك تتشكل الصيغةُ الأقوى والأوعى والأصدق في التعاطي مع رموز المسيرة .
وانطلاقاً من هذه المسؤولياتِ نحاول أن نقرأ فقيدنا الكبير العلاّمة السيد أحمد الغريفي رضوان الله عليه، ومحاولةُ القراءةِ هنا لاتعني التوفّر على دراسةٍ علمية فأجواء الاحتفالات لا تسمح بذلك، وإنّما تعنى إثاراتٍ عامة عاجلة تستنهض الوعي والشعور في اتجاه فهم هذه الشخصية .
أولاً:أن نقرأه في دوره التربوي :
من أبرز ملامحه (رضوان الله عليه) أنّه كان “مربياً” توفّر على مكوّناتِ الإنسانِ المربي فيما هي الخصائصُ الروحيةُ والفكريةُ والنفسيةُ والعمليةُ، مما أهّله أن ينتجَ “جيلاً” من الشباب يحمل درجاتٍ عاليةٍ من الإلتزامِ والإستقامةِ والانضباط، ويتحلّى بدرجاتٍ كبيرةٍ من الطهر والفضيلةِ والصلاح .
ومن أهم مسؤوليات عالم الدين “التصدّي لتربية الجيل” تربية إيمانيةً وروحية وأخلاقية من أجل حمايةِ هذا الجيل في زحمةِ التحديات، وتحصينِه أمامَ زحفِ المشروعاتِ التغريبية المدمّرة التي تهدف إلى تمييع هذا الجيل ومسخ هويته.
مارس فقيدنا الكبير دوره في البناء والتربيةِ خلالِ الدروسِ والخطبِ والمحاضرات ,من خلالِ الأحاديث واللقاءات الجادة الهادفة ومن خلالِ إشراقاتِ الروحِ المشدودةِ إلى حب الله تعالى .
ومن خلال عطاءات السلوك الذي صاغته نقاوةُ الطهر ونداوتهُ وصبغته شفافيةُ الخلقِ وعذوبتُه
ثانياً: أن نقرأه من خلالِ دورهِ العلمي :
من اهتماماتهِ الكبيرة “تفعيل الحركة العلمية”، وقد برز ذلك من خلال تصدّيه للدروس الحوزوية: الفقه والأصول والمنطق، والتفسير والعقيدة وعلوم اللغة، وهذا الاهتمام يؤكد وعيَهُ بضرورةِ التواصل بين الحوزة وكوادر الوعي والثقافة، وبين مناهج الحوزة ومعطيات العصر، وفي هذا محاولةٌ جادةٌ للتصدي لإحدى إشكالياتِ وجدلياتِ الساحةِ الراهنةِ وهي إشكاليةُ وجدليةُ الحوزة والجامعة أو الحوزوي الأكاديمي أو عالم الدين والمثقف .
فالحوزة حينما تنفصل عن النخبِ المثقفةِ تفقدُ قدرتَها على الإنطلاقِ في الساحةِ المعاصرة، والمثقفون حينما ينفصلون عن الحوزةِ يفقدون أصالة الانطلاقِ والحركة.
ثالثاً: أن نقرأه في دوره الثقافي :
“النضجُ الثقافي” و “التنوع الثقافي” مَعْلَمانِ بارزانِ في شخصيتهِ، مما وفّر له دوراً متميزاً في المساهمةِ الثقافيةِ الفاعلةِ، ومما جعله قادراً على استقطاب الشبابِ والمثقفين، وتشهد له بذلك كثافةُ المحاضراتِ والمشاركاتِ الفكريةِ، وتمتزجُ في طروحاته الأصالة العلميةُ مع حداثةِ المعلومةِ وجدّة الرؤية .
وقد عُرف عنه النهمُ الكبيرُ في القراءةِ والمطالعةِ والتعاطي مع مستجداتِ العلمِ والثقافةِ، وبذلك شكّل نموذجاً للعالم الواعي المنفتحِ على ثقافةِ العصرِ، من أجلِ توظيفِ هذه الثقافةِ في خطِ الإسلامِ وفي خطِ الايمانِ ومن أجلِ صياغةِ الجيلِ الذي يملكُ أصالةَ الانتماءِ إلى جانب انفتاحه على معطيات العصر.
رابعاً: أن نقرأه في دوره الاجتماعي:
كان رحمه الله يعيشُ همَ الناسِ، وهمَ البؤساءِ والمحرومين، فانطلق حركةً فاعلةً تبحثُ عن محتاجٍ هنا، وتواسي فقيراً هناك، وتتحسسُ آلامَ بائسٍ أثقلته المحنة، وتنتشل أسرةً أرهقتها نوائبُ الدهرِ، وتخففُ معاناةَ بيتٍ عاش قسوةَ الحياةِ، ومرارة الحرمان.
وهكذا كان له حضوُره في كل القلوب، وكان له تواصلُه مع كل الناس، مؤكداً بذلك مسؤولية عالم الدين في التعاطي مع الواقع في كل إمتداداتهِ الروحيةِ والثقافيةِ والاجتماعيةِ والسّياسية .
إن الحضورَ الاجتماعي كان واضحاً في حياة السيد الغريفي “رحمه الله”، مما أكسبَه حبَ الناسِ، وثقةَ الناسِ، والتفافَ الناسِ، ولعل التشييعَ الرهيبَ الذي شهدتهُ جنازتُه لأكبرُ دليلٍٍ على هذا الحبِ والثقةِ والالتفافِ .
خامساً: أن نقرأه في وعيه السّياسي :
كان رحمه الله شديدَ التواصلِ مع معطياتِ السياسة، ومع قراءاتِ السياسة وأخبارِ السياسة، ولم يكن هذا التواصلُ مجردَ ترفٍ فكري، ولا مجردَ ثقافةٍ تغذّي نهمهَ المعرفي، بل كان جزءاً من مشروعِهَِ في التبليغِ والدعوةِ إلى الإسلام، هذا المشروع الذي يفرضُ أن يمتلك الدعاةُ والمبلغون كلَّ الأدوات الفكرية والعملية لإنجاحه، ولاشك أنَّ الوعي السّياسي أحد المكوّناتِ الهامة لهذا المشروع، أكتفي بهذه القراءةِ العاجلة..
وآخر دعوانا أن الحمد لله رِّب العالمين..