حديث الجمعة 21: التَّقوى زادُ الأخِرة
حديث الجمعة 21 | 21 شوال 1423 هـ | 26 ديسمبر 2002 م | المكان: مسجد الإمام الصادق (ع) | القفول - البحرين
الحمد لله رب العاملين والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والمرسلين وآله الهداة الميامين.
قال الله تعالى في كتابه المجيد: ]وتزوّدوا فإنَّ خير الزاد التقوى[
أيها الأخوة والأخوات، أرأيتم لو أنَّ أحدنا أراد سفراً من أسفار الدنيا، كم يتهيأ له، وكم يعد له من المؤنة والزاد، وكم يستنفر همه وتفكيره، وعواطفه، وجهده من أجله، وكم يعطيه من وقته، وطاقته، ومن ماله وإمكاناته… وكم، وكم…
فما بالنا لا نعطي لسفر الآخرة اهتماما؟…
أليس هذا أولى بالتهيؤ والاستعداد والزاد؟
• روي أنَّ أبا ذر الغفاري رضي الله عنه وقف عند الكعبة ونادى بأعلى صوته: أنا أبو ذر. فاتجه الناس إليه.
فقال: لو أنَّ أحدكم أراد سفراً لاتخذ فيه من الزاد ما يصلحه، فسفر الآخرة أما تريدون فيه ما يصلحكم؟
فقام إليه رجل فقال: أرشدنا.
فقال أبو ذر رضي الله عنه:
– صم يوماً شديد الحر للنشور،
– وحجَّ حجة لعظائم الأمور،
– وصل ركعتين في سواد الليل لوحشة القبور.
• وجاء في وصية الإمام الحسن عليه السلام لأحد أصحابه: استعدّ لسفرك وحصلّ زادك قبل حلول أجلك.
أيها المؤمن، وأيتها المؤمنة، ليكن العمل الصالح هو زادكما إلى الآخرة، فلا تنال الآخرة إلاّ بالطاعات، والعمل الصالح الذي يقربنا إلى الله عز وجل.
• ]وبشَّر الذين آمنوا وعملوا الصالحاتِ أنَّ لهم جنَّاتٍ تجري من تحتها الأنهارُ، كلَّما رُزِقُوا منها من ثمرةٍ رِزْقاً قالوا هذا الذي رُزِقنا من قَبلُ وأُتُوا به مُتَشَابهاً، ولهم فيها أزواجٌ مُطهرةٌ وهم فيها خالدون[ البقرة/آية 25
• ]الذين آمنوا وعملوا الصالحاتِ طوبى لهم وحُسنُ مئاب[ الرعد/ آية29
• ]إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية[ البينة/آية7
فما أحوجنا أن نحاسب أنفسنا اليوم قبل أن نوقف غداً للحساب العسير ]يوم لا ينفع مال ولا بنون إلاّ من أتى الله بقلب سليم[
]يوم يفِرُّ المرءُ من أخيهِ وأُمّهِ وأبيه وصاحبته وبنيه لكلِّ امرىءٍ منهم يؤمئذ شأن يُغنيِه[
ألا فحاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا فإنَ في القيامةِ خمسين موقفاً كلّ موقف مقام ألف سنة – ثم تلا هذه الآية – ]في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة[
نعم ما أحوجنا أن نقف وقفات نقدٍ ومحاسبة لأنفسنا قبل أن يؤذن لنا بالرحيل، وقبل أن ننادى فنسلم الأرواح، وتخمد منا الأنفاس ونُرتهنُ في ظلمة القبر، وتكون الحسرة و الندامة، ونتمنى العودة والرجوع، وهيهات هيهات. ]حتى إذا جاء أحدهم الموتُ قال ربَّ ارجعُونِ لعلي أعمل صالحاً فيما تركتُ، كلا إنّها كلمةٌ هو قائلُها ومن ورائهم برزخٌ إلى يوم يبعثون، فإذا نُفخَ في الصور فلا أنسابَ بينهم يؤمئذٍ ولا يتساءلون، فمن ثَقُلتْ موازينهُ فأُولئِكَ هم المفلحون، وَمنْ خفَّتْ موازينهُ فأولئكَ الذّينَ خَسِرُوا أنفُسَهُم في جَهنَّمَ خالدون، تَلْفَحُ وجوههُم النارُ وهُم فيها كالحوُن، ألَمْ تَكُنْ آياتي تُتْلَى عليكم فكنتم بها تكذَّبُون، قالوا ربنَّا غَلَبتْ علينا شِقْوتُنا وكنّا قوماً ضالين، ربَّنا أَخرِجَنا منها فإنْ عُدْنَا فإنّا ظالمون، قال أخْسَئوا فيها ولا تُكلَّمون، إنّه كان فريقٌ من عبادي يقولون ربنَّا آمنا فاغفر لنا وأرحمنا وأنت خير الراحمين، فاتخذتُمُوهُم سِخْرياً حتى أنسوكم ذكري وكنتم منهم تضحكون، إنيّ جزْيتُهمُ اليوم بما صَيَرُوا أنهّم هم الفائزون[ المؤمن / 99-111
قل للذين يملأون الدنيا ضجيجاً ولغطاً، وصخباً على المؤمنين، في كتاباتهم، وفي إعلامهم، في صحافاتهم: رويداً رويداً، فسوف يخفت الضجيج، وسوف يسكت اللغط والصخب غداً حينما تخشع كل الأصوات للرحمن ]وخشعت الأصواتُ للرّحمن فلا تَسْمَعُ إلاّ هَمْسَا، يومئذٍ لا تَنْفعُ الشفاعةُ إلاَّ من أَذِنَ له الرحمن وَرَضِيَ له قولاً[
وحينما يؤخذ الظالمون المكذبون ]أخذ عزيز مقتدر[
وحينما يأتي الموعد الحق ]بلِ الساعةُ مَوْعِدُهم والساعةُ أدهى وأمرُّ، إنَّ المجرمين في ضَلالٍ وسُعُر، يومَ يُسْحبونَ في النار على وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مسَّ سَقَر[ القمر / 46-48
وحينما تخضع وتذل كل الوجوه لله الواحد القهّار…
]وعنت الوجوه للحي القيوم وقد خاب من حمل ظلماً[
– عنت: أي خضعت وذلت خضوع الأسير في يد من قهره..
والمراد خضع أرباب الوجوه، وأسلموا الحكم لله الحي القيوم.
– وقيل: المراد بالوجوه الرؤساء والقادة والملوك، أي يذلون وينسلخون عن ملكهم وعزهم وسلطانهم…
فما عسى أن تطول دنيا المجرمين، ودنيا العابثين، ودنيا الفاسقين، ودنيا المنحرمين. فالنهاية خزي، وعار، وفضيحة، وعذاب ونار، وأغلال، وذل، وصغار، فلا تغرنكم الدنيا، ولهوُها، وزخرفُها وباطلُها، مهما استطال هذا الباطل، وأنتشر وتعاظم، ومهما تفنن أصحاب الباطل في نشر الفساد والإفساد. لقد أصبحنا في عصرٍ تحركت فيه كل أساليب الشيطان في غواية الإنسان، وفي إفساد الإنسان، وفي العبث بقيم الإنسان.
قد يقول قائل أو يعترض معترض:
لماذا تصرّون على الحديث عن الدين، والقيم، والأخلاق ولا تتحدثون عن قضايا الإنسان الخطيرة في هذا العصر: قضايا المعيشة، قضايا الثقافة، قضايا الاجتماع، قضايا السياسة، قضايا الاقتصاد، قضايا التنمية.. إلى آخره.
ونلاحظ على هذا الاعتراض:
أولاً: من قال أنَّ الخطاب الديني لا يتحدث عن قضايا الحياة، وقضايا العصر؟
كيف والدين الحق يحمل مسؤولية كل الحياة في أبعادها الروحية والثقافية والاجتماعية، والاقتصادية والسّياسية، كيف والدين الحق يحتضن كل هموم الإنسان على هذه الأرض، ويواكب كل مستجدات الزمن، ويستجيب لكل حاجات العصر…. وإذا وجد خطاب ينتسب إلى الدين ولم يتحمل مسؤولية الحياة، ولم يحتضن هموم الإنسان، ولم يقارب قضايا العصر، فهو ليس خطابَ الدين، وليس خطابَ الإسلام، وليس خطابَ القرآن….
اقرءوا الخطابات الأصيلة والواعية للدين فسوف تجدون الانفتاح على كل قضايا الحياة وسوف تجدون التعاطي مع كل هموم الإنسان، وسوف تجدون المواكبة لكل مسارات الزمن.
ثانياً: من المفارقات عند هؤلاء المعترضين أنّهم الذين يطالبون الخطاب الديني أن لا يتدخل في قضايا الثقافة، وقضايا الاجتماع، وقضايا الاقتصاد، وقضايا السياسة، وهم الذين يطالبون علماء الدين أن لا يقحموا الدين في السّياسة وفي شئون الدنيا..
لأنَّ الدين وظيفته تهذيب الروح، ومعالجة قضايا الإنسان الفردية…
ولأنَّ علماء الدين ليس من صلاحياتهم التعاطي مع مسائل السياسية والاجتماع والاقتصاد، ثمَّ إنَّ هؤلاء هم أنفسهم يطرحون الإشكال حول غياب الخطاب الديني في قضايا الحياة، وفي قضايا العصر. أليس هذا مفارقة صريحة واضحة، لكنه الزيغ الفكري، والغبش في الرؤية، وطيش الهوى يفرض هذا التناقض والارتباك والتشويش.
ثالثاً: إنَّ جميع قضايا الحياة إذا لم تحصنها قيم الدين، فإنّها تتحول إلى أزمات حادة في حياة الإنسان، وإلى مآزق صعبة تربك أوضاع المسيرة، فالثقافة التي لا توجهها أخلاقية الدين تشكّل ثقافة هدم وإفساد و ثقافة ضياع وانحراف والاجتماع الذي لا تحكمه ضوابط الدين يشكّل حالة الانفلات والتشتت والتناقض والصراع، وهيمنة المصالح والتمايزات والأنانيات.
والسّياسة التي لا تعتمد قيم الدين تتحول إلى مساومات رخيصة، وإلى دجلٍ وكذبٍ ونفاق، وإلى ظلم وقهر واستبداد، وإلى عبث وتلاعب بمقدسات الإنسان، فالحديث عن الدين والقيم والأخلاق هو الذي يؤصل حركة الثقافة والاجتماع والسّياسة في خط النظافة والانضباط والاستقامة، وهل أزمة الثقافة في هذا العصر إلاّ أنّها ثقافة فقدت هوية الدين.
وهل أزمة الاجتماع في هذا العصر إلاَّ إنّه اجتماع ضاعت فيه معايير الأخلاق وهل أزمة السّياسة في هذا العصر إلاّ أنّها سياسية لا تحمل قيم الروح.
كثر الحديث عندنا في هذه المرحلة عن الفساد الفساد السياسي، الفساد المالي، الفساد الإداري، الفساد الأخلاقي وكثر الحديث عن أسباب الفساد وقالوا إنَ أهم أسبابه غياب الديمقراطية. لست هنا في صدد معالجة هذا الموضوع ما أود تأكيده أنَ السبب الأساس لكل هذا الأنماط من الفساد هو غياب الوازع الديني الحقيقي وغياب القيم الروحية، ستبقى الديمقراطية هيكلاً فارغاً إذا لم تترسخ معايير الدين والقيم وسيبقى المشروع السياسي عنواناً خادعاً إذا لم تحصنه أخلاقيات صادقة.
فمن الجناية على إنسان هذا العصر أن نصوغ حركته ثقافياً واجتماعيا وسياسياً بعيداً عن الدين والقيم والأخلاق فيجب أن نعطي للدين وقيمه حضوراً في كل قضايا الحياة، ما دمنا نؤمن أنَّ الدين هو المنهج الذي وضعه الله لتنتظم من خلاله حركة الإنسان على هذه الأرض…
وكلمّا اقترب الإنسان من تقوى الله كانت حركته أكثر انضباطاً واستقامة ونظافة وكلمّا ابتعد الإنسان من تقوى الله كانت حركته اكثر ارتباكاً وانحرافاً وفساداً.
وإذا كانت التقوى هي زاد الآخرة فهي زاد الدنيا أيضاً، لأنَّ حركة الدنيا في منظور التقوى يجب أن تكون في خط الآخرة فحينما تنحرف حركة الحياة عن خط الآخرة تبدأ مأساة الإنسان على هذه الأرض، وتبدأ مأساة الواقع بكل امتداداته الفكرية والأخلاقية والاجتماعية والسّياسية.
من هنا يجب أن نستوعب بعمق معنى هذا النص القرآني ]وتزوَّدوُا فإنَّ خيرِ الزاد التقوى[ هي زادنا في حركة العبادة والطاعة والالتزام، هي زادنا في حركة العقل والفكر، هي زادنا في حركة العاطفة والخواطر والمشاعر، هي زادنا في حركة القيم والأخلاق، هي زادنا في حركة الممارسة والسلوك، هي زادنا في الثقافة والاجتماع والاقتصاد والسياسة .
إنَّ الذين يزرعون في واقعنا الفسق والفساد والفجور في هذا البلد أو ذاك وفي هذا الموقع أو ذاك هم الذين يحاربون التقوى، والذين يحاربون التقوى هم الأعداء الحقيقيون للإنسان والأوطان، هم أعداء الروح والفكر والسلوك، وهم أعداء الثقافة والسّياسة والاقتصاد.
نسمع ونقرأ هذه الأيام في بلدنا البحرين أحاديث كثيرة حول السياحة، هناك أصوات تعبّر عن أصالةِ هذا البلد ودينه وقيمه وأخلاقياته تطالب بتنظيف السّياحة، فقد أصبح الوضع الأخلاقي في البحرين من خلال واقع السياحة وواقع الفنادق والصالات والملاهي والمراقص وأماكن الدعارة يشكّل قلقاً كبيراً عند الغيارى من أبناء هذا البلد المسلم الذي يعتز بقيمه ودينه وأصالته، ولذلك تحركت المطالبات على عدة مستويات بضرورة إنقاذ البلاد من مشروعات الدمار الأخلاقي، وسياسات العبث بقيم هذا الشعب وأخلاقياته، وإذا لم يتدخل المسؤولون في إيقاف هذا الدمار وهذا العبث، فالطوفان سوف يأتي على كل البُنى والمكوّنات لمشروع الإصلاح الذي يراد له أن ينطلق في هذه المرحلة، وكيف يتحقق الإصلاح على مستوى الاجتماع والسّياسة والاقتصاد إذا كان المضمون الروحي والأخلاقي مصاباً بالشلل والاهتزاز.
إننا نشفق على هذا المشروع أن يتعرض إلى الفشل والإفلاس في ظل غياب التحصين الروحي والأخلاقي، ومن المؤسف جداً أن نجد من يتباكى على السياحة خوفاً أن ينالها شيء من التطهير والتنظيف، وربما بمبررات كاذبة فيما هي الخشية على الاقتصاد والتنمية وفيما هي الخشية من ازدياد البطالة وعطالة الأيدي العاملة. الأمر ليس كذلك، إنّه الهوى ونزوات النفس الجامحة إلى الفسوق والفجور، وإنّه الإصرار على إشاعة الفحشاء والمنكر.
وما أسوء هذا الاقتصاد الذي تصنعه الثروة الحرام، وما أسوء هذه التنمية التي يحركها الفعل الحرام، وما أسوء هذه الأيدي العاملة إذا كانت تمارس المكسب الحرام.
إنّ شعباً مؤمناً أصيلاً كما هذا الشعب لن يفكر يوماً أن يتنازل عن دينه وقيمه والتزامه من أجل أن يملأ بطنه، وإنّه ليفضل أن يموت جائعاً دون أن يأكل لقمة مغموسة بالحرام ودون أن يخسر دينه وقيمه، وإذا وجد من يبحث عن اللقمة الحرام فهو لا يمثل أصالة هذا الشعب، وإذا وجد من يسطو على البيوت والمحلات في ظلمة الليل وفي وضح النهار وينشر الرعب والقلق في النفوس، فهذا يمثل انتكاسةً في الضمير، وخواءً في الروح، وإفلاساً في التربية، كما يمثل عجزاً وفشلاً وإهمالاً من قبل أجهزة الأمن والشرطة في هذا البلد الصغير.
]ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبّت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين[
]ربنّا أفرغ علينا صبراً وتوفنا مسلمين[.
والحمد لله ربَّ العالمين.