حديث الجمعة 17: العُلماءُ والقَرارُ السِّياسيّ
حديث الجمعة 17 | 21 جمادى الأولى 1423 | 1 أغسطس 2002 م | المكان: مسجد الإمام الصادق (ع) | القفول - البحرين
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والمرسلين محمد وعلى آله الهداة الميامين..
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
تنشط هذه الأيام أحاديث السياسة وبالأخص (حديث الانتخابات)، حتى أصبح التقييم للخطب والمحاضرات والندوات بمقدار ما تتعاطى مع هذا الشأن السّياسي، وهكذا أصبحت الأجواء مشحونة بالجدل السّياسي، وباللغط السّياسي، وبالتشنجات السياسية، وبالتجاذبات السياسية، ومن إفرازات هذا الجو أنتشرت مقولات وأفكار خاطئة تحتاج إلى تصحيح وتوضيح، أحد هذه المقولات ما يتردد على ألسنة بعض الشباب من أنّه لا ضرورة في الرجوع إلى علماء الدين في (قرار الانتخابات) بدعوى أنّ هذه المسألة من القضايا السياسية البحتة التي يعتمد فيها على أهل الخبرة السياسية، فهم الذين يحددون (الرؤية السياسية) و(الموقف السياسي) على ضوء قراءة موضوعية للواقع السياسي ومعرفة الأرباح والخسائر في هذا الخيار أو ذاك الخيار، فما هي الضرورة إذن في الرجوع إلى علماء الدين؟
وقبل أن نناقش هذه المقولة الخاطئة أود أن أؤكد على مجموعة أمور:
1. يجب – أيّها المؤمنون- أن لا تشغلنا قضايا السياسة عن قضايانا الروحية والأخلاقية والثقافية والاجتماعية، فما أكثر ما تستغرق بعض الناس شؤون السياسة فيصابون بالإدمان السياسي، والسكر السياسي، فتموت في داخلهم الروحانيات، وتسقط أخلاقيات الدين، وتتلوث مشاعرهم وعواطفهم بأوساخ السّياسة، ودنس السّياسة، ويبقون يلهثون ويلهثون وراء الكثير الكثير من السراب السّياسي، والخداع السّياسي، لا أريد أن أقول أنه يجب أن نترك السياسة، ونتخلى عن ممارسة السياسة، ومحاسبة أوضاع السياسة، ولكن ما أريد أن أؤكده أنّ السياسة ليست كل شيء في حياتنا رغم خطورتها وأهميتها، وضرورة التعاطي معها، لا يجوز أن تتحول السياسة إلى واقع يأكل كل إهتماماتنا الروحية والأخلاقية والثقافية والاجتماعية، كثيرون خسروا دينهم، إيمانهم، روحانيتهم، قيمهم من خلال الغبش السياسي، والعبث السياسي، والخبل السياسي، وأحياناً يكون “الخصام السياسي” أحد وسائل الألهاء والإشغال للشعوب لتمرير المشروعات والخطط،، نحن هذه الأيام مشغولون بجدليات الانتخابات ومهرجانات صيف البحرين تزدحم ببرامج اللهو والعبث والفسوق، شغلتنا هموم الانتخابات عن الكثير من الإهتمامات.
2. الحذر كل الحذر – في هذه الأجواء المشحونة بالتجاذبات الخطيرة- من الإنجرار إلى الصراعات والخلافات والعداوات، فماذا ربحنا – لو ملكنا الدنيا بكاملها – إذا خسرنا أخوّتنا الإيمانية، ما قيمة أن نشارك أو نقاطع، إذا تحوّلنا إلى أعداء يكفر بعضنا بعضاً، والله نخسر الدنيا والآخرة، لن نربح الدنيا لأننا بإختلافاتنا المتعادية كتبنا على أنفسنا الفشل والهزيمة، ولن نربح الآخرة لأننا بالعداوة والتباغض وضعنا أنفسنا في دائرة الغضب الإلهي، والسخط الإلهي، واللعنة الإلهية، فما أسوء أن يبيت أحدنا وهو مرهون لغضب الله، ولسخط الله، وإلى لعنة الله، لا يغرنكم الشيطان، والدنيا، والهوى، فيكون المصير النار وبئس القرار، لا مانع –أيهّا الأحبة- أن تتعدد الرؤى والتصورات إذا كانت خاضعة للضوابط العلمية الدقيقة، والنزيهة، ولكن أن تتحول هذه الاختلافات إلى عداوات وصراعات ومواجهات فهذا لا يعّبر عن دين وتقوى وإيمان، ووعي، وإنما هي نزغات الشيطان، وتسويلات الشيطان وغوايات الشيطان.
3. إننا في هذه المرحلة المملوءة بالتعقيدات والغبش الثقافي والسياسي نحتاج إلى أن نؤصّل مجموعة (قيم ومعايير) يجب أن توجه رؤانا، ومواقفنا، وحركتنا، وأساليبنا في التعاطي مع كل القضايا المتحركة في الساحة الثقافية والاجتماعية والسّياسية.
وأهم هذه القيم والمعايير:
1. البصيرة الإيمانية، لن تنفعنا كل ثقافاتنا السياسية والاجتماعية وكل ثقافات العصر، إذا كنا لا نملك بصيرة الإيمان، هذه البصيرة هي التي تحمينا من التيه والزيغ والضلال والإنحراف، (العامل على غير بصيرة كالسائر على غير الطريق لا يزيده كثرة السير إلاّ بعداً). أيها الأحبة يجب أن لا ننخدع ببعض كلمات أو بعض أفكار نتعلمها من هنا أو هناك وهي لا تضيف شيئاً إلى بصيرتنا الإيمانية، لاإبحثوا عن الروافد والمصادر التي تغذّي هذه البصيرة، أكثروا من قراءة كتاب الله ففيه الهدى والنور والبصيرة، وما ضل من اهتدى بهدي القرآن وما عمي من قادته بصائر القرآن، أكثروا الأرتواء من نبع النبوة والإمامة، فهو النبع الذي لا يظمأ واردوه.
2. التقوى هي المعيار الذي يجب أن يحكمنا في التعاطي مع كل القضايا، فإذا كانت السياسة الفاسدة قد أنتجت لنا معايير زائفة، فإن التقوى هي المعيار الذي أنتجه لنا الدين، ومن المؤسف جداً أن تأسر الكثيرين ممن ينتمون إلى الدين معايير بعيدة كل البعد عن معيار التقوى، وخاصة الذين استهوتهم أجواء السياسة الموبوءة، لا أتحدث هنا عن أولئك الذين لا يؤمنون بمعايير الدين، وإنما يعنيني في هذا الحديث العدد الكبير من أصحاب الدين ممن اختفت في سلوكياتهم معايير التقوى، لا أتهم كل الذين يتعاطون مع السياسة بأنهم لا تحكمهم معايير الدين والتقوى، فالساحة فيها الكثير من النماذج التي استطاعت أن تحتفظ بنقاوة السلوك، وطهارة المعايير في زحمة الممارسات السياسية، ولكن هناك شريحة كبيرة من المتعاطين مع السياسة ومن المنتسبين إلى أجواء الدين، تاهت لديهم المعايير، والقيم الدينية والروحية لضعف في الإرادة أو لغشاوة في الرؤية.
3. الأخّوة الإيمانية وهي من الثوابت التي لا يسمح بالتنازل عنها، وكما ذكرت قبل دقائق أن أخّوة الإيمان هي الربح الأكبر، فمهما كانت إشكالات الواقع السياسي وخلافاته وتجاذباته فلا يجوز أبداً أن تمّس هذا الثابت –ثابت الأخّوة الإيمانية- وإذا دار الأمر بين أن نربح موقفاً سياسياً وأن نخسر أخوّتنا الإيمانية، فيجب أن نضحي بالمكسب السياسي لنربح أخوتنا، ولاسيما ونحن نتعرض لهجمات شرسة مخطط لها تحاول أن تصادر(هويتنا) و(انتماءنا) لهذا الوطن، وإلاّ فما معنى هذا الصوت النشاز المملوء بالحقد والعداوة والشنئآن، صوت خطيب جمعة عراد والذي تجرأ بكل وقاحة وصلف وأتهم طائفة بكاملها بأنها لا تحمل ولاء لهذا البلد وأنها تنتمي إلى جهات خارجية محكوم عليها –حسب زعم هذا الخطيب- أنهّا خارجية عن الملة والدين والقيم، لا يعنينا أن يتبنى هذا الخطيب وأمثاله من دعاة الفتنة والطائفية هذا الرأي السياسي أو ذاك حسب ما تمليه عليهم المطامع والمصالح، ولكن ليس من حقهم أن يصادروا رأي الآخرين، وليس من حقهم أن يسوّقوا التهم الظالمة والمزايدات المفضوحة.
إننا نحذر من أن تستمر هذه الأصوات البغيضة فإنها إنذارات فتنة عمياء، وطائفية مجنونة وإذا لم تمارس السلطة دورها في إخماد هذا اللغط القبيح فإن العواقب سيئة وخطيرة.
بعد هذا الاستعراض أعود للإشكال المطروح في بداية الحديث وخلاصة هذا الإشكال: إن مسألة الانتخابات من القضايا السياسية البحتة، والتي يحدد الرؤية والموقف فيها خبراء القانون والسياسة لا خبراء الدين والعقيدة، فالمسألة تحتاج إلى قراءة موضوعية للواقع السياسي ولا تحتاج إلى أكثر من ذلك.
• ما هي ملاحظاتنا على هذه المقولة ؟
الملاحظة الأولى:
هذه المقولة يروّجها في الغالب أصحاب الاتجاه العلماني الذي يحاول إقصاء الدين عن كل مواقع الحياة الثقافية والاجتماعية والسياسية، وقد تسرّبت هذه المقولة إلى ذهنية بعض الشباب وأصبحوا يرددونها عن غير وعي وربما بحسن نية، ونحن لا يهمنا الموقف العلماني فهو موقف يعبر عن رؤية أيديولوجية معروفة، ولكن يهمنا بل يؤسفنا أن ينخدع بعض شبابنا إلى هذا اللون من المقولات المغلوطة المشبوهة.
الملاحظة الثانية:
من مسلّمات الوعي الديني أنّ جميع قضايا الحياة الروحية والأخلاقية والثقافية الاجتماعية والسياسية خاضعة لأحكام الله، وهذا ما يؤكده الحديث النبوي: (ما من واقعة إلا ولله فيها حكم).
ولن يأتي يوم من الأيام توجد فيه واقعة أو قضية أو مسألة لا تملك حكماً شرعياً، وإلا كانت أحكام الله ناقصة وقاصرة، ومن يتهم أحكام الله بالنقص والقصور فهو كافر بدين الله.
إنّ مسائل السياسة من أهم قضايا الحياة، والانتخابات هي واحدة من مسائل السياسة فهل يعجز الدين أن يعطي رأياً فيها ؟
من السهل أن يتهم العلمانيون الدين بالعجز، ولكن ما بال المنتمين إلى الدين يتهمون دينهم بالعجز والقصور؟
الملاحظة الثالثة:
إنّ اعتبار المسألة الانتخابية شأناً سياسياً بحتاً لا يحتاج إلا إلى قراءة موضوعية يقوم بها خبراء السياسة، ولا حاجة إلى خبراء الفقه والدين، دعوى في حاجة إلى وقفة وتأمل، نحن نسلم أنّ القضايا الموضوعية يرجع فيها إلى أصحاب الاختصاص.
• ففي قضايا الطب يرجع إلى الأطباء.
• وفي قضايا الهندسية يرجع إلى المهندسين.
• وفي قضايا الإقتصاد يرجع إلى الإقتصاديين.
• وفي قضايا القانون يرجع إلى القانونيّن.
• وفي قضايا السياسة يرجع إلى السياسيين.
ولكن يجب أن نفرق بين جنبتين: الجنبة الموضوعية البحتة، والجنبة العملية فيما هو موقف الإنسان الملتزم بالدين.
أستعين ببعض الأمثلة لتوضيح الفكرة:
المثال الأول: أنتم تسمعون باللولب الذي يستخدم لمنع الحمل، في هذا الموضوع جانبان:
الجانب الموضوعي ونرجع فيه إلى الطبيب، فنسأله ما هي وظيفة اللولب؟
فيجيب الطبيب: اللولب وظيفته أنه يمنع وصول الحويمن إلى البويضة، فلا يتم التلقيح وبالتالي لا يحصل الحمل.
وربما يجيب طبيب آخر فيقول: إنّ وظيفة اللولب إسقاط البويضة بعد التقليح، فلا يتم بقاء الحمل.
أما التكليف العملي في جواز هذا العمل أو حرمته فيرجع فيه إلى الفقيه.
فلو طرحنا هذا السؤال على الفقيه فسوف يكون الجواب على النحوالتالي:
إن كان اللولب يمنع وصول الحويمن إلى البويضة فهذا عمل جائز، وأما إن كانت وظيفه اللولب إسقاط البويضة الملقحة عمل غير جائز لأنه ينطبق عليه عنوان الإجهاض حسب رأي بعض الفقهاء.
إذن وظيفة الطبيب أن يضع المعطيات الموضوعية الطبية، ووظيفة الفقيه أن يحدد التكليف الشرعي.
فليس صحيحاً أن نعطي وظيفة التشخيص الموضوعي للفقيه، إلا إذا كان الفقيه طبيباً. وليس صحيحاً أن نعطي للطبيب وظيفة الفتوى إلا إذا كان الطبيب فقيهاً، فإذا اجتمع الاختصاصان كانت الوظيفتان متحدتين.
المثال الثاني: مسألة التأمين: الخبراء في التجارة والإقتصاد يحددون لنا عناصر التأمين:
1. المؤمِّن (شركة التامين).
2. المؤمّن له (الشخص، الأشخاص، الجمعيات).
3. المؤمّن عليه “حياة، سيارة، منزل، تجارة” ولكن هل أن هذه المعاملة جائزة شرعاً أو غير جائزة ؟
هنا يعطي الفقيه رأيه..
المثال الثالث: إذا قال الفلكيون: يولد الهلال ويمكث بعد الغروب دقائق قليلة جداً، أو يمكث دقائق يكون قابلاً للرؤية، فهل تثبت بذلك بداية الشهر الشرعي، هنا نحتاج إلى رأي الفقيه، فمن الفقهاء من يعتمد الحسابات الفلكيين إذا أوجبت العلم أو الإطمئنان، ومن الفقهاء من لا يعتمد الحسابات الفلكية.
إذن وظيفة الفلكيين تشخيص الجانب الموضوعي ووظيفة الفقهاء تحديد “الوظيفة الشرعية”.
المثال الرابع: مسألة الانتخابات..
خبراء القانون يحددون لنا (القيمة القانونية) للتجربة البرلمانية (إيجاباً أو سلباً).
خبراء السياسة يحددون لنا (القيمة السياسية) للتجربة البرلمانية (إيجاباً أو سلباً).
هذا هو الجانب الموضوعي في المسالة..
أما الجانب العملي في تحديد الوظيفة الشرعية (جوازاً أو حرمة) فهذا مسئولية أصحاب الخبرة الشرعية وهم العلماء.
وربما كان العلماء هم أيضاً أصحاب رؤية سياسية، فتتوفر الرؤيتان الفقهية والسياسية معاً، وإلا فهم في حاجة إلى اعتماد من يثقون به من أصحاب الكفاءات السياسية، وإذا اختلفت وجهات النظر عند أصحاب الرؤية السياسية، أو تعارضت (الحيثيات) فهناك قواعد فقهية تحدد الموقف الشرعي (قواعد التعارض، قواعد التزاحم).
أيها المؤمنون:
كلنا مسئولون أمام الله، وسوف نقف بين يديه سبحانه للحساب، ما يصدر منا من كلمة أو موقف أو تأييد أو معارضة أو قبول أو رفض سوف يضعنا أمام المحكمة الإلهية الكبرى، (ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد).
فربّ كلمة أدخلت صاحبها إلى النار.
وربّ موقف قاد صاحبه إلى عذاب الله، وإلى غضب الله..
فلنتق الله فيما نقول، وفيما نفعل، فالوقوف بين يدي الله رهيب رهيب حينما نرتهن بأقوالنا وأعمالنا ومواقفنا.
الساحة – أيها المؤمنون – مشحونة باللغط، والغبش، والغيبة والبهتان، والإسقاط والتشهير. فحذارِ حذارِ أن نكون ظالمين لأحد من عباد الله، ولو بكلمة أو إساءة أو إيذاء، (فويل للذين ظلموا من عذاب يوم أليم)، (يوم يعضّ الظالمم على يديه يقول ياليتني اتخذت مع الرسول سبيلاً).
عن رسول الله (ص): (بين الجنة والعبد سبع عقاب أهونها الموت قال أنس قلت يا رسول الله: فما أصعبها ؟ قال الوقوف بين يدي الله عز وجل إذا تعلق المظلومون بالظالمين).
نسأل الله السداد في القول والفعل.
نسأل الله صدق النوايا ونقاء القلوب.
نسأل الله أن يجنبنا المزالق والعثرات.
نسأل الله أن يجمع كلمتنا على البر والتقوى.
وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربّ العالمين..