حديث الجمعة 13: مِن وَصايا لُقْمَان الحَكيم للجيلِ الصَّالح (2)
حديث الجمعة 13 | 23 ربيع الآخر 1423 | 4 يوليو 2002 م | المكان: مسجد الإمام الصادق (ع) | القفول - البحرين
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والمرسلين محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين المعصومين.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ..
في حديث الجمعة الماضية قلنا أنّ القرآن الكريم طرح لقمان الحكيم “نموذجاً للأب المربي”، وطرح وصايا لقمان ( نموذجاً للبرنامج الناجح ) الذي يجب أن يعتمد في تربية الأبناء، نتابع –الليلة- الكلام حول هذا الموضوع .
تتحكم في بناء شخصية هذا الجيل الناشئ مجموعة مؤثرات أسرية، إجتماعية، ثقافية، تربوية، سياسية .
فمسؤوليتنا – علماء، خطباء، مثقفين، أسر، جمهور مؤمن – أن نواجه الزحف الخطير الذي يهدد (أجيالنا) . .
قد يقال : إنّ المؤثرات الانحرافية الأخرى أقوى وأشد .
· فكيف نواجه طوفان الإنحراف الذي أغرق كل المجتمع ؟
· وكيف نواجه الإعلام، التلفاز، الإذاعة، الصحافة، المجلات، الانترنت التي اقتحمت كل البيوت والأسر ؟
· وكيف نواجه وسائل الفساد المهيمنة على كل الواقع الثقافي والإعلامي ؟
· وكيف نواجه ((المناهج والبرامج)) المملوءة بالمثيرات والمغريات ؟
أليس ضرباً من الخيال أن نطالب الآباء والأمهات بالتصدّي لهذا الطوفان المدمّر، والمد الطاغي ؟
فكم تعب الآباء والأمهات، وبذلوا الجهد في تربية الأولاد، ولكن أتعابهم ذهبت سدى، وجهودهم باءت بالفشل، فلا جدوى من هذا العناء والتعب ما دامت النتيجة واضحة، وما دام أبناءنا في قبضة المؤثرات الأخرى التي تتحكم فيهم كما تشاء .
· هل أنّ هذا المنطق صحيح ؟
نحن لا نشك في حجم الخطر الذي يواجه هذا الجيل الناشئ .
ولا نشك أنّ ((مشروعات)) الفساد والعبث بالدين، والقيم، والأخلاق، والهوية، مشروعات تتحرك بشكل مدروس ومرسوم ومخطط .
ولا نشك أنّ بعض الجهود المبذولة من قبل الآباء والأمهات تفشل في تحقيق أهدافها .
ومع كل هذا وذاك، فإنّ المنطق المذكور مرفوض تماماً .
· لماذا نرفض هذا المنطق ؟
إنّه يعبّر عن (( روح الهزيمة والضعف)) وهذه الروح لا تنسجم أبداً مع منطق الإيمان، أنت بين خيارين : أن تكون مؤمناً، أو أن تكون منهزماً .
أنت تكون مؤمناً، يعني أن تكون قوياً، صلباً، صامداً، ثابتاً، فالمؤمن لا يعرف((الضعف، الإسترخاء، الهزيمة )) .
جاء في الحديث : (( المؤمن القوي خير من المؤمن الضعيف )) .
وجاء في حديث آخر : (( إنّ الله ليبغض المؤمن الضعيف الذي لا دين له … )) .
((الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ)) آل عمران : 173 .
من أخطر ما يواجه المؤمنين (( ثقافة التخدير )) هذه الثقافة التي يمارسها بعض الناس المهزومين، أو المدسوسين .
· الذين يحملون ( ثقافة التخدير) في أوساط المؤمنين صنفان من الناس :
الصنف الأول : طائفة من الناس يعيشون روح الضعف والهزيمة، فيتحركون من وحي هذه الروح، ولكي يبرروا ((إنهزاميتهم)) يحاولون دائماً أن يفرضوا هذه الحالة على الآخرين، فهم لا يعملون، ولا ينشطون، ولا يواجهون الصعوبات، ولا يريدون للآخرين أن يعملوا، وأن ينشطوا، وأن يواجهوا الصعوبات، هذا النمط من الناس يشكّلون خطراً على مسار العمل، والدعوة، ويشكّلون مصدر إعاقة للحركة والنشاط .
الصنف الثاني : طائفة من الناس مدسوسة في أوساط المؤمنين بهدف إيجاد (المعوّقات الداخلية) وتثبيط همم العاملين، وتخدير إرادة الناشطين .
وكثيراً ما يعتمد هذا الصنف المدسوس لغة (( تهويل القوى المضادة ))لخلق الرعب والخوف في قلوب المؤمنين (( إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ )) هذه اللغة هي التي يمارسها اليوم إعلام التخدير، وصحافة التخدير، وأقلام التخدير .
·فماذا يقول إعلام التخدير ؟
· وماذا تقول صحافة التخدير ؟
· وماذا تقول أقلام التخدير ؟
إنّها جميعاً تقول :
إنّ قوى الضلال والشر والفساد لا يمكن أن تقاوم .
إنّ من العبث أن نحاول التصدّي والمواجهة لتيارات التغريب والعلمنة .
إنّ الدين، وقيم الدين أصبحت معوّقات لحركة العصر، وحاجات العصر .
إنّ الإصرار على تطبيق الإسلام وأحكام الشريعة يعتبر تشدّداً، وغلواً .
إنّ الدعوة إلى التمسك بالفضيلة، والأخلاق والطهارة في هذا الزمان، دعوة مثالية طوبائية خيالية .
أن يمارس الإسلاميون دورهم الثقافي، والإجتماعي، والسّياسي، والجهادي، فهذا إرهاب، وعنف، وتطرف .
هذه مقولات ظالمة جائرة، يسوّقها الإعلام المضلل والصحافة الكاذبة، والأقلام المستأجرة من أجل تخدير الجماهير، وتغييب وعيها، ومصادرة أصالتها .
من هنا نؤكد على أن تكون جماهيرنا واعية كل الوعي، وأن تكون حذرة كل الحذر، فالساحة متخمة بالألاعيب الثقافية، والسياسية، والإعلامية، ويجب أن تكون جماهيرنا بصيرة حينما تقبل، وحينما ترفض، فقد تتعقد الرؤى، وتشتبك الأفكار، وتتيه المواقف .
جاء في الحديث : (( من أصغى إلى ناطق فقد عبده، فإن كان الناطق يحدّث عن الله فقد عبد الله، وإن كان الناطق يحدّث عن الشيطان فقد عبد الشيطان )) .
إنّ الذين يحملون يقين الإيمان، وصلابة الإيمان، ووثوق الإيمان، وطموح الإيمان لا يسقطون، لا يضعفون، لا ينهزمون أمام طغيان الباطل، وغطرسة الباطل، وضجيج الباطل، وإعلام الباطل، إنهم الثابتون، الصامدون، الأقوياء، حينما يسمعون كلمات التخويف، الترهيب، التخدير لا يزدادون إلاّ إيماناً .
((الَّذِينَ قَالَ لَهُم النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ )) آل عمران : 173/174
أيها المؤمنون، أيهّا الآباء والأمهات :
حذارِ حذارِ من (( ثقافة التخدير)) إنّها ثقافة الشيطان، ولغة الشيطان، وأبواق الشيطان.
((إِنَّمَا ذَلِكُمْ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)) آل عمران 175 .
الذين يستمعون، ويستجيبون، ويصدّقون تخويفات، وتهويلات، وتخديرات الشيطان في كل عناوينه وأسمائه وتجسّداته، هؤلاء هم أولياء الشيطان، أمّا أولياء الله فلا يخافون إلاّ الله تعالى (( وَخَافُونِي إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ )) .
وهذا لا يعني أن لا نحسب حساباً للشيطان، وأولياء الشيطان، وقوى الشيطان، وأحزاب الشيطان، ومؤسسات الشيطان، وأنظمة الشيطان، يجب أن نحسب كل الحساب، ولكنه الحساب الذي لا يجعلنا نضعف، وننهزم ونخاف .
((وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوْا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)) . آل عمران 176.
يجب أن نحسب لهم كل الحساب، ولكنه الحساب الذي يخطط، يفكر، يرصد، يتابع، يلاحق الأحداث، المواقف، الكلمات .
الحساب الذي يؤلّف، يوحّد، يكتل، ينظم الصف المؤمن في مواجهة تكتلات، وتجمعات، وقوى الباطل والضلال والشر والفساد .
نّ أخطر ما يواجه الصف المؤمن : التشتت، التشرذم، الصراع، الخلاف، التناقض، لا مانع أن تتعدد الآراء في مسألة فكرية، فقهية، إجتماعية، سياسية، إذا كان هذا التعدد يعتمد الأسس العلمية، وليس الأهواء والمزاجات الذاتية، أمّا أن يتحول هذا الاختلاف الفكري والفقهي والسّياسي إلى خلافات وصراعات وعداوات فهي حالة تعبر عن غياب التقوى أو غياب الوعي، أو غيابهما معاً .
يّها الأحبة في الله أ:
الساحة في هذا البلد الصغير تموج بالعديد من القضايا الساخنة، تحتاج إلى رؤية وبصيرة، فيما هو الرأي ، وفيما هو الموقف، وفيما هو القرار، وإنّ الذين يريدون أن يعطوا الرأي والموقف والقرار يجب أن يملكوا شرطين أساسين :
الشرط الأول :
أن يملكوا الرؤية الفقهية الدقيقة، فما من قضية من قضايا الحياة إلاّ وتحتاج إلى حكم شرعي، وإنّ من يدّعي أنّ هناك قضيةً من القضايا الروحية والثقافية والإجتماعية والسّياسية خارجة عن دائرة حكم الله، فقد اتهم شريعة الله بالنقص والقصور، وقد لجأ إلى حكم الطاغوت، وكل حكم لا ينطلق من دين الله، فهو حكم طاغوت، ومن لجأ إلى حكم الطاغوت كان مصيره النار وبئس القرار، فليحذر المؤمنون أن يعطوا الرأي بلا بصيرة ورؤية فقهية .
الشرط الثاني :
أن يملكوا الرؤية الإجتماعية السّياسية، إنّ غياب هذه الرؤية لا تعطي الرأي مساره الصحيح، ولا تعطي المواقف حركته الصائبة، ولا تعطي القرار بصيرته الواعية .
وهنا نخلص إلى هذه النتيجة :
إنّ القرار الصائب والذي يأخذ صفته الشرعية هو الذي يعتمد الرؤيتين الفقهية والسّياسية، وغياب الرؤيتين او إحدى الرؤيتين يفقد القرار صوابيته وشرعيته .
قد يقال : إنكم بهذا تحصرون القرار في دائرة ضيقة جدا, فأين دور المثقفين , وأين دور الجماهير في اتخاذ القرار ؟
إنّ للمثقفين الذين يملكون الرؤية السياسية دورهم في إنتاج القرار، وإن للجماهير الواعية التي تملك البصيرة السياسية والاجتماعية دورها الكبير في إنتاج القرار، ولكن لايعني أن هذة الرؤية والبصيرة وحدها هي التي تحدد القرار،إنها تساهم في إنتاج القرار .
هذا إذا توفرت الرؤية والبصيرة السياسية عند المثقفين وعند الجمهور، وليس كل المثقفين يملكون الوعي السياسي , وليس كل الجمهور يملكون الفهم السياسي .
نعم إن نبض الشارع , وحس الشارع, وهموم الشارع, تشكّل مؤشرات سياسية واجتماعية هامة يجب أن لا تغيب عند (( صناع القرار)) إن الفارق الكبير بين الجمهور الذين ينتمي إلى خط الإيمان، والآخر الذي ينتمي إلى الخطوط الأخرى , هو أنّ جمهور الإيمان تحكمه ((المرجعية الشرعية)) في كل مواقفه وقراراته، والجمهور ا لآخر تحكمه مرجعياته الأخرى ..
إننا نبارك لجمهورنا المؤمن وعيه ونضجه وبصيرته , بدليل أن الزخم الكبير من ثقافة التضليل التي يروج لها كثيرا في هذه الأيام لم تقوَ على أن تنال شيئا من إيمان هذا الجمهور.
وموقفه في صف العلماء والرموز الإسلامية يبرهن على ذلك .
إننا في الوقت الذي نبارك لجمهورنا المؤمن حيويته, وحركيته, ووعيه, وتفاعله مع أحداث الساحة , وقضايا المرحلة , ونؤكد أن لاينأسر هذا الجمهور ((للضجيج والصخب السياسي)) وينسى ((القيم والروحية)) و((المعايير الدينية)) في التعاطي مع القضايا والأحداث.
وللحديث صلة إن شاء الله تعالى .
واستغفر الله لي ولكم … والحمد لله رب العالمين .