موقف الخطاب الشيعي من هذا المشروع السياسي
لم يرفض هذا الخطاب التعاطي مع المرحلة الجديدة ومع مشروعها السّياسي، ولم يحمل عقدة التردد و الشك و الريبة ، ثقة منه بصدق النوايا و التوجهات.
لقد تعامل الخطاب الشيعي مع خطوات التغيير السّياسي بإيجابية، ومرونة، وشفافية، وإنفتاح، و حينما نتحدث بهذه اللغة لا نريد أن ننطلق من مزايدات رخيصة نكرهها كل الكرة، ولا من تبجحات باهته نبغضها كل البغض، وإنّما نريد أن نؤكد أنّ ما تتجه إليه الإشكالية من إتهام الخطاب الشيعي بالتشدد- دائماً – ضد الأنظمة السّياسية، ليس صحيحاً، ومن إتهام الخطاب الحسيني بأنّه يستنفر مشاعر العداء للأنظمة ليس واقعياً.
لقد أعطينا الثقة كل الثقة ولازلنا نعطي الثقة تعبيراً عن حسن النية في التعاطي مع المشروع السّياسي رغم التحفظات الكبيرة حول بعض مفرداته، وبعض تعديلاته، ورغم القلق الذي يعيش في داخلنا نتيجة الإجحافات الواضحة في حقنا والتمايزات الطائفية المكشوفة، والإساءات الإعلامية المتعمدة، ورغم، ورغم ….
إلاّ أننا سنبقى الحريصين على إستمرار المشروع، ونجاح التجربة، ما دمنا نملك الأمل، وما دمنا نملك القدرة على الكلمة والتوجيه، والتصحيح .
نسال الله تعالى أن لا يأتي اليوم الذي يموت فيه الأمل، وتختنق فيه الكلمة، وتنتكس فيه التجربة .
لقد قال العلماء كلمتهم الجرئية الصريحة في لقاءاتهم مع المسؤولين، وسيبقون يقولون الكلمة، ما دامت هي الخيار الأسلم والأصلح، وما دامت التطمينات تبعث على الثقة .
الإّ أنّ هذه التطمينات إذا لم تتحول إلى واقع عملي، فسوف تهتز الثقة، وإنّ أخطر ما يواجه مشروع الإصلاح هو (( إهتزاز الثقة )) وكم كان لهذا الإهتزاز – في مرحلة الإحتقان السّياسي – من نتائج مدّمرة، على كل المستويات .
وفي ختام هذا اللقاء أرى من الضروري أن أقول كلمة أخيرة حول هذه الضجة المفتعلة والتي تشهدها صحافتنا المحلية في هذا الأيام، ضجة التباكي على النهج الديمقراطي بسبب ما يسمونه بتوظيف الدين ومواقف علماء الدين في العملية الإنتخابية أو الإنحياز لهذا المرشح أو ذاك .
وقد إستخدام مثيرو هذه الضجة مختلف العبارات السيئة من أجل التأثير على وعي الجماهير .
ولا شك أنّ هذه الضجة لها أهداف مفضوحة وإنها تعّبر عن حجم العقدة عند البعض من الدين ومن علماء الدين، كما تعّبر عن الهلع والخوف عند هؤلاء من سيطرة التيار الديني على ساحة الإنتخابات ، وإذا كان لنا أن نضع ملاحظاتنا حول هذه الضجة فيمكن أن نوجزها في النقاط التالية :
1)ما هي المشكلة القانونية في أن تعلن قوى دينية أو سياسية مواقفها في إسناد هذا المرشح أو ذاك متى توفرت القناعة بذلك، فمن حق المواطنين أفراداً ومؤسسات أن يمنحوا الثقة لمن يشاءون من المرشحين، وأن يحجبوا الثقة عمن يشاءون، ما دامت المعايير المعتمدة في المنح والحجب معايير مشروعة ونزيهة ونظيفة، من حق أي إنسان أن يحاسب المعايير المعتمدة في الإختيار، أما أن يطالب بمصادرة الحق في التأييد أو المعارضة فأمر غير وارد إطلاقاً، ولا يملك أيّ شرعية قانونية .
2)إنّ إعطاء الثقة من قبل علماء الدين لبعض المرشحين وحجبها عن البعض الآخر قد يشكل أحيانا ضرورة شرعية تحمي معطيات التجربة من الإخفاق والفشل والانحراف، فالمسؤولية الدينية والسياسية تفرض في هذه الحالة أن يكون الموقف العلمائي واضحاً و صريحا لا يخضع للمجاملات والمداهنات مهما كانت المبررات والحسابات ، ولن يجمد هذا الموقف ضجة تفتعل هنا أو صخب يثار هناك ، ما دامت الرؤئية واضحة وبصيرة .
إنّ حماية هوية البلد الايمانية وحماية قيمة و أخلاقيات أكبر و أكبر من أن يتعرض مرشح هنا او مرشح هناك إلى خسارة انتخابية في هذه الدائرة أو تلك ..
وكذلك حماية معطيات التجربة الانتخابية تفرض –حتى وفق حسابات الذين لا يؤمنون بمعايير الدين- أن يكون الناخب على بصيرة تامة بالنماذج التي تشكل ضرراً كبيراً على التجربة ، فمصلحة التجربة أهم من مصلحة الأفراد و الاشخاص .
3)إن إعطاء الثقة من قبل علماء الدين لبعض المرشحين لا يعني – في كل الحالات – المصادرة للآخرين، ما يحمله هذا التأييد والمساندة هو كون هذا البعض من المرشحين أكثر كفاءة من الناحية الدينية أو السياسية أو الثقافية أو الإجتماعية – حسب القتاعة المتكونة – ويبقى الآخرون يملكون الدين والكفاءة والقدرة، فما لم تتوفر الضرورة على التصريح بسحب الثقة لا يجوز إطلاقاً المس أو التشهير أو الاستيقاظ لأي مرشح .
4)من الواضح جداً أنّ علماء الدين البارزين – وإنطلاقاً من عدم توفر الضرورة الشرعية لإعطاء الثقة المباشرة – فقد إعتمدوا ((موقف الحياد)) ورغم القناعة المتوفرة لديهم بوجود المرشحين الذين يحضون بدرجات عالية من الثقة عندهم في الكثير من الدوائر، إلاّ أنهّم اصروا – تعبيراً عن أبوتهم العامة للساحة ولعدم الضرورة للتصريح باسماء معينة – أن يكونوا حياديين، ولم يمارسوا أيّ عملٍ يوحي بإسناد هذا المشرح أو ذاك .
5)لمّا كان ((الراي الإنتخابي)) هو المفصل الأصعب والأخطر في العملية الإنتخابية، ومن خلاله تتحدد المعطيات والنتائج في التوفر على الكفاءات الأفضل أو الكفاءات الأسوء، وفي ضوء هذه المعطيات تصاغ التجربة في إيجابياتها وسلبياتها، فيجب إذن أن يرشّد هذا الرأي الإنتخابي، حتى يتشكل بصورة أصيلة واعية بصيرة .
وهنا تاتي مسؤولية علماء الدين في ممارسة هذا ((الترشيد))، وإذا كان الأخرون يصرون على صياغة ((الترشيد الانتخابي)) وفق الرؤى والتصورات التي يؤمنون بها، ووفق القناعات التي ينطلقون منها، فلماذا لا يسمح لعلماء الدين أن يمارسوا ((الترشيد الانتخابي)) وفق الرؤى الإسلامية الأصيلة والتي تضع في حساباتها كل المكوّنات الضرورية من اجل صياغة وعي الناخب وقناعاته وإلتزاماته، خاصة وأن هذا الناخب يؤمن كل الإيمان ((بمرجعية الدين وبحاكميته)) في كل قضايا الحياة .
وتأسيساً على الرؤية فإنّ العلماء يرون ضرورة التأكيد على ((الكفاءة الدينية)) في إختيار المرشحين، وهذا لا يلغي أهمية الكفاءات الأخرى، إلاّ أنّ غياب الكفاءة الدينية له خطورته الكبرى .
أولاً : لأنّ الدين هو العامل القوى في صنع ((نظافة الوعي)) و((نظافة الضمير)) و ((نظافة الموقف)) وفي صنع ((الإرادة والصلابة والشجاعة والجرءة))، وهل يمكن أن نتوفر على تجربة سياسية نظيفة إذا لم نتوفر على هذه الشروط، مهما كانت الكفاءات والقدرات الأخرى، فما أكثر الذين يخونون أمانة المسؤولية، وما أكثر الذين يسقطون أمام إغراءات المنصب، وما أكثر الذين يضعفون أمام الإبتزازات والمساومات، وما أكثر الذين ينهزمون أمام ضغوطات الأنظمة والحكومات .
هنا تأتي أهمية الإنسان الذي يحمل الدين والإلتزام والخوف من الله تعالى، فإنه لا يمكن أن يخون أو يسقط أو يضعف أو يساوم .
ثانياً : ولأنّ من مسؤوليات مجالس البلديات ما تحتاج بشكل مباشر إلى ((موقف الدين)) رفضاً أو قبولاً، فغياب الوعي الديني والإلتزام الديني عند أعضاء هذه المجالس سوف يؤدي إلى ممارسات وانجازات تصادم الدين وتنافي أحكامه، وللتوضيح فقط أستعين ببعض أمثلة :
أ. التصرف في الممتلكات الخاصة، فقد تقتضي خطط التنظيم البلدي في هذه المنطقة أو تلك إلى التعرض لممتلكات الناس الخاصة بحجة ضرورات التخطيط، وهذه التصرفات في حاجة إلى مؤمّن شرعي واضح.
ب. إقامة المنتزهات وأماكن الترفيه، وهنا صيغتان :
· صيغة يحافظ فيها على القيم الدينية والضوابط الشرعية والأخلاقية .
· وصيغة تتجاوز تلك القيم والضوابط .
والذي يحدد إعتماد أحد الصيغتين هو مستويات الدين والإلتزام عند أعضاء هذه المجالس .
ج. المشروعات التي تخدم ((البرامج السياحية)) في هذا البلد، فربما أعتمدت برامج السياحة وأهدافها مشروعات محرمة، صحيح أنّ الخطط السياحية هي من مسؤوليات السلطة التنفيذية، وليست من مسؤوليات البلديات، ولكن بعض المشروعات الخاصة بالمناطق والخاضعة لإختصاصات المجالس البلدية قد تساهم في رفد الحالة السياحية وبمقدار ما تكون هذه المشروعات نظيفة ومحافظة، تكون السياحة نظيفة ومحافظة .
وأستغفر الله لي ولكم والحمد لله ربّ العالمين .