حديث الجمعةشهر ذي القعدة

حديث الجمعة 343: اذكروا الله ذكرًا كثيرًا (1) – الإمام الصَّادق عليه السَّلام ومشروع الوحدة (2) – حوارٌ فاقد لكلِّ الصدقية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله ربِّ العالمين، وأفضل الصَّلوات على سيِّد الأنبياء والمرسلين محمَّدٍ وعلى آله الهداة الميامين.. وبعد فهذه بعض عناوين:


اذكروا الله ذكرًا كثيرًا:


قال تعالى في كتابه المجيد: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ ذِكْرًا كَثِيرًا﴾. (الأحزاب/41)
لا نجد خطابًا قرآنيًا بهذه اللغة في غير ذكر الله..
في الصَّلاة وجدنا الخطاب القرآني يقول: ﴿أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا، وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا﴾. (الإسراء/78-79)
– الدُلوك: الزوال
– الغسق: فيه قولان: أول ظلمة الليل، شدة الظلمة في نصف الليل.
– قرآن الفجر: صلاة الفجر.
فهذا النص القرآني حدَّد أوقات للصَّلاة الفريضة، وأضاف وقتًا لصلاة الليل…


فالصَّلاة فريضة أو نافلة محدودة الوقت، ولذا قال الله تعالى: ﴿إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا﴾. (النساء/103)
موقوتًا: مفروضًا أو مقدَّرًا وقتها ومحدَّدًا.
وفي الصيام وجدنا الخطاب القرآني يقول ﴿فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ…﴾. (البقرة/185)
– الشهود: الحضور مقابل السفر.
وقال بعضهم: أنَّ المراد بالشهود رؤية الهلال.
فالصيام المفروض محدود الزمان ﴿أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ﴾. (البقرة/184)
وإذا أضفنا الصيام المندوب فهو أيضًا محدود الوقت والزمان.
وفي الحج وجدنا الخطاب القرآني يقول: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا…﴾. (آل عمران/97)
فقد فرض الله الحج على مَنْ استطاع، ومرةً واحدة في العمر، وما عداه فمندوب، وقد يطرأ الوجوب بعنوان ثانوي.
نخلص إلى القول أنَّ الخطاب القرآني في كلِّ العبادات جاء محدَّدًا، إلَّا الخطاب الوارد في ذكر الله فهو خطاب مفتوح من حيث الكم والزمان، بل أكَّد الخطاب القرآني على كثرة الذكر وهذا ما لم يؤكِّده في أيّ عبادة أخرى.
نقرأ الآيات القرآنية التالية:
• ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ ذِكْرًا كَثِيرًا﴾. (الأحزاب/41)
• ﴿وَاذْكُر رَّبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ﴾. (آل عمران/41) 
• ﴿إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللهَ كَثِيرًا…﴾. (الشعراء/227)
• ﴿وَالذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا﴾. (الأحزاب/35)
• ﴿وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾. (الجمعة/10)
لا لذة عند المؤمن العاشق لله أكبر من لذة الذكر لله، فالذاكر جليس الله كما في الأحاديث.
يا أحباء الله أكثروا من ذكر الله في كلِّ الساعاتِ والأوقات والآنات من الليل والنَّهار، وحذارِ حذارِ من نسيان الله، ومن الأعراض عن ذكر الله.
• ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾. (الحشر/19)
• ﴿اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللهِ…﴾. (المجادلة/19)
• ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى﴾. (طه/124)
• قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله:
«ما مِن ساعةٍ تمر بابن آدم لم يذكر الله فيها إلّا حسر عليها يوم القيامة».
• وقال أمير المؤمنين عليه السَّلام في دعاء كميل:
«أسألك بحقِّك وقُدْسِكَ وأعظمِ صِفاتِكَ وأسمائِكَ، أنْ تجعل أوقاتي في [من] الليل والنَّهار بذكرِكَ معمورةَ، وبخدمتكَ موصولةً، وأعمالي عندَّك مقبولةً».
يا أحباء الله اذكروا الله في كلِّ مكان، وفي كلِّ الأوضاع وفي كلِّ الأحوال.
• ﴿وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ﴾. (الزخرف/36)
• ﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ…﴾. (آل عمران/191) 
• قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله:
«لا تزال مصلِّيًا قانتًا ما ذكرت الله، قائمًا، وقاعدًا أو في سوقِك أو في ناديك أو حيثما كنت».


• وفي الحديث عن الإمام الباقر عليه السَّلام قال:
«لا يزال المؤمنُ في صلاةٍ ما كان في ذكر اللهِ قائمًا كان أو جالسًا أو مضطجعًا، إنَّ الله تعالى يقول: ﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ…﴾ (آل عمران/191)».
يا أحباء الله: اذكروا الله في الشدَّةِ والرخاء، وفي المرض والصحة، وفي الفقر والغنى.


الناس ثلاثة أصناف:
الصنف الأول: الذين ينسون الله في كلِّ الأحوال هؤلاء الذين ﴿نَسُواْ اللهَ فَنَسِيَهُمْ…﴾. (التوبة/67)
نسوا الله في عقولهم، وقلوبهم، وأعمالهم وألسنتهم ﴿فَنَسِيَهُمْ﴾ بحرمانهم من ألطافه ورحمته ورضوانه.
الصنف الثاني: الذين يذكرون الله في الشدَّة والمرض والفقر وينسونه في الرخاء والصحة والغنى.
• ﴿وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُورًا﴾. (الإسراء/67)
هكذا هؤلاء يجأرون بالدعاء واللجوء إلى الله حينما يقعون في مأزقٍ أو أزمةٍ أو شدَّةٍ، وما أنْ يتخلصوا من ذلك كلُه حتى ينسوا الله، ويمارسوا الجحود والتمرد والنكران…
• ﴿وَإِذَا مَسَّ الْإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِّنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِن قَبْلُ…﴾. (الزمر/8)
الصنف الثالث: الذين يذكرون الله في كلِّ الأحوال في ضرَّاء أو سرَّاء، في شدَّةٍ أو رخاء…
• قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله:
«تعرَّف إلى اللهِ في الرخاء يعرفك في الشدَّة».
• أوحى الله تعالى إلى داوود صلوات الله عليه:
«اذكرني في أيام سرَّائِك حتَّى أستجيب لك في أيام ضرَّائِك».
• جاء في إحدى مناجاة الإمام زين العابدين عليه السَّلام:
«لا تجعلني ممَّن يبطرهُ الرخاء، ويصرعُه البلاء، فلا يدعوك إلَّا عند حلول نازلة، ولا يذكرك إلَّا عند وقوع جانحة، فيصرع لك خدَّه، وترفع بالمسألة إليك يده».
للحديث تتمَّة إنْ شاء الله في اللقاء القادم.


 


الإمام الصَّادق عليه السَّلام ومشروع الوحدة:


نتابع الحديث حول هذا العنوان…
تقدَّم القول: أنَّ الإمام الصَّادق عليه السَّلام مارس دورًا كبيرًا من أجل إحياء مجتمع الأمة الواحدة الذي مزَّقته أنظمة الحكم الأموي والعباسي، ممَّا أنتج واقعًا مسكونًا بالخلافات والصراعات والصدامات، وحوَّل الأمَّة أمةً شتاتٍ وفرقةٍ واحتراب، واقتتال…
وكما قلنا: اعتمد الإمام الصَّادق عليه السَّلام ثلاثة مرتكزات لإنتاج المشروع التوحيدي في داخل الأمَّة.
تقدَّم الحديث عن المرتكزين الأول والثاني وهما:
(1)  تأسيس مدرسة علمية فكرية فقهية كبرى احتضنت كلَّ الانتماءات والمكوِّنات في داخل الأمّة، مما جعل الإمام الصّادق عليه السَّلام الأستاذ الأول لكلِّ علماء وفقهاء المسلمين في ذلك العصر.


(2)  الخطاب التوحيدي الذي مارسه الإمام الصَّادق عليه السَّلام في مواجهة خطابات الفرقة، وخطابات الفتنة، وفي مواجهة كلّ أشكال العصبيات الدينية والمذهبية والطائفية والقومية والعرقية والطبقية وما تحتفظ به مصادر التاريخ من كلمات الإمام الصَّادق عليه السَّلام شواهد واضحة على ذلك.
وهنا نحاول أنْ نعرض للمرتكز الثالث…


(3) اعتماد منهج الحوار…
أسَّس الإمام الصَّادق عليه السَّلام لحراكٍ حواريٍ نشط جدًا في مجالات العلم والمعرفة، ولم تقتصر حواراته على شؤون العقيدة والدِّين والفقه، بل امتدَّت إلى شتَّى المعارف من طب، وفلك، وكيمياء، وكلّ شؤون الحياة والإنسان…
ومنهج الحوار عند الإمام الصَّادق عليه السَّلام هو منهج الحوار القرآني، فكلّ الأسس التي اعتمدها الإمام الصَّادق عليه السَّلام في حواراته هي أسس مستقاة من القرآن…


أتناول هنا بإيجاز جدًا بعض هذه الأسس:
• الأساس الأول:
ما كان الإمام الصَّادق عليه السَّلام يتعقد من أيِّ حوار، بل كان يفتح له كلّ قلبه وعقله حتَّى إذا كان هذا الحوار يتحدَّى ثوابت الدِّين الكبرى وثوابت مدرسة أهل البيت، فقد حاور الإمام الصَّادق حتى الملحدين المنكرين لوجود الله بكلِّ أريحية وانفتاح…
هذا هو منهج القرآن.. اقرأوا ما دوَّنه القرآن من حوارات سوف تجدون أنَّ الله العظيم بكلِّ جلاله وقدسه يحاور إبليس رمز الشر والعصيان والتمرُّد..
﴿قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ،
قَالَ لَمْ أَكُن لِّأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ،
قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ، وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ،
قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ،
قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ، إِلَى يَومِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ،
قَالَ رَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ، إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ،
قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ…﴾.  (الحجر/32-41)
وكذلك نقرأ في القرآن نماذج كثيرة من حوارات الأنبياء مع معارضي حركة النبوات والرسالات…
جاء في سورة الأنبياء قوله تعالى:
﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وَكُنَّا بِه عَالِمِينَ،
إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ،
قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءنَا لَهَا عَابِدِينَ،
قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ،
قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ،
قَالَ بَل رَّبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ،
وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُم بَعْدَ أَن تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ،
فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَّهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ،
قَالُوا مَن فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ،
قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ،
قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ،
قَالُوا أَأَنتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ،
قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ،
فَرَجَعُوا إِلَى أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظَّالِمُونَ،
ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُؤُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاء يَنطِقُونَ،
قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ مَا لَا يَنفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ،
أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ،
قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ،
قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ،
وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ…﴾. (الأنبياء/ 51 – 70)
وهكذا أصحابُ الباطل وأصحابُ السُّلطة حينما ينهزمون أمام الحوار أو حينما لا يملكون القدرة على الحوار يلجأون إلى القوة والبطش والعنف…
وربَّما استمروا في ممارسة الحوار الفاقد للجدِّية والصدق من أجل الاستهلاك وإضاعة الوقت، ومن أجل التضليل والخداع…
الحوار الجادُّ والصَّادق هو يملك أسس الحوار ومقوِّمات الحوار وشروط الحوار…



ما يدور في بلدنا هذه الأيام من لقاءات على طاولة يُسمونها طاولة الحوار، يبدو أنَّه حوارٌ فاقد لكلِّ الصدقية والجدِّية ويبدو أنْ لا نية لدى موجهي هذا الحوار لتصحيح مساره…
وماذا يعني ذلك؟
هل يعني ذلك أنْ لا رغبة جادَّة في إنقاذ البلد من أزمته؟
هل يعني ذلك وجود إصرارٍ على استمرار محنة هذا الوطن؟
لمصلحة مَنْ أنْ يبقى هذا الواقع المأزوم؟
مَنْ المستفيد من وجود هذا الوضع؟
هل أنَّ ما يدورُ حولَنا في مناطق قريبةٍ أو بعيدةٍ من أحداثٍ تنذر بأخطارٍ مرعبةٍ لا تدفع القائمين على شؤون هذا البلد أنْ يعيدوا كلَّ الحسابات؟
إذا كان الكلام موجَّهًا في الأساس إلى النظام والسُّلطة فبيد النظام، وبيد السلطة أنْ تبقي الأوضاع مأزومة، وبيد النظام وبيد السُّلطة أنْ يتخلَّص الوطن من هذا المأزق…
أقول إذا كان الكلام موجَّهًا إلى النظام والسُّلطة فهذا لا يعني أنَّ قوى الشارع، وقوى المعارضة، وقوى الموالاة لا تتحمَّل أيَّ مسؤولية، الجميع يجب أنْ يمارس دوره في إنقاذ هذا الوطن، وفي خلاصِ هذا الشعب، رغم الفارق الكبير في مستوى المسؤوليات بين نظام يملك كلَّ مفاصل الإصلاح والتغيير، وقوى شارع تحكمها ضغوطات الواقع السِّياسي المفروض، فهذه القوى تصارع من أجل أنْ تتخلَّص من هذه الضغوطات الثقيلة، ولا تحمل أيَّ نية شرٍّ لهذا الوطن، إلَّا أنَّ ارتباك الثقة أوجد وضعًا دفع في اتجاه التأزيم، وأنتج خياراتٍ ساهمت في تعقيد الحلِّ…
ولا يمكن أنْ يعالج هذا التصدُّع الخطير في العلاقة إلَّا من خلال مبادرةٍ جادَّةٍ وحقيقيةٍ وصادقةٍ من قبل النظام، والسُّلطة، وما دامت هذه المبادرة غائبة أو على الأقل أنَّ المؤشرات الراهنة لا تشير بذلك، فإنَّ مسار الانفراج والحل والإنقاذ سوف يبقى مُعطَّلًا، وكلّما استمر هذا التعطيل تعقَّد العلاج، وبقدر ما يكون الإسراع في إزالة هذا العطل والعطب تكون التكلفة أقل، وتكون الأثمان الباهظة أخف، فمتى تستيقظ المبادرةُ الحقيقية الصَّادقة التي يطمئن لها هذا الشعب، من أجل أن تخفِّف من معاناته، وأزماته، وآلامه، فشعبنا الوفي لهذا الوطن، ولهذه الأرض لا يستحق كلَّ هذا العناء، وكلَّ هذا الألم، وكلَّ هذا العذاب…
لقد جرَّبتم وفاءَ هذا الشعب، وصدقه، وإخلاصه في مفاصلَ تاريخيةٍ مشهودةٍ، فمن الظلم كلّ الظلم أن تستمر الأصواتُ النشازُ المتَّهمةُ، والمحرِّضةُ، والمسكونةُ بالحقد والشنآن والكراهية، وما دامت هذه الأصوات تجد الدعم والاحتضان رسميًا فسوف تشكِّل أخطر المعوِّقات في طريق الخلاص والإنقاذ، وإذا كانت هناك عوامل تنتج خياراتٍ غاضبةً ومنفعلةً، فهذه الخطابات المحرِّضة والقاذفة والمخوِّنة تشكِّل أخطر تلك العوامل، فمتى يتنبَّه وعي النظام، وضمير السُّلطة إلى خطر منابر الفتنة وأقلام التحريض المدعومة والتي تجد كلّ الاحتضان…
المرحلة في حاجة إلى خطابات المحبَّة والأخوَّة والتسامح لا إلى خطابات الكراهية والفرقة والتشدُّد…
هذه الخطابات التي أنتجت جماعاتِ التكفيرِ والعنفِ والتطرُّف والإرهاب، هذه الجماعات أغرقت مجتمعات المسلمين بالدماء، والقتل، والعبث بالأعراض والمقدَّسات…
إنَّ شعبنا بكلِّ طوائفه ومذاهبه ومكوِّناته وانتماءاته عاش ولا يزال وهو يحمل روح الأخوَّة والمحبَّة والتسامح، وإذا وجدت أصوات نشاز فهي لا تمثِّل أصالة هذا الشعب، ولا تعبِّر عن قيمه ومبادئه، فلنعمل جميعًا لكي نحافظ على هذه الأصالة، وهذه الروح، وهذه القيم والمبادئ من أجل هذا الوطن ومن أجل أمنه وازدهاره وخلاصه من كلِّ منتجات الصراع والخلاف…
﴿إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ﴾. (الأنبياء/92)
للحديث صلة – إن شاء الله – حول مشروع الوحدة عند الإمام الصَّادق عليه السَّلام
وآخرُ دعوانا أنْ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى