حديث الجمعةشهر ربيع الثاني

حديث الجمعة 458: مسؤوليَّة الخِطابِ الدِّينيِّ –

بسم الله الرَّحمن الرَّحيم
الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، وأفضلُ الصَّلواتِ على سيِّدِ الأنبياءِ والمرسلينَ محمَّدٍ، وعلى آلِهِ الهُدَاةِ الميامين وبعد:

فقد قال الله تعالى في: (سورة الأحزاب: الآية 39): ﴿الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللهَ وَكَفَى بِاللهِ حَسِيبًا﴾.

نستوحي من هذا النَّصِّ القرآنيِّ أربعةَ عناوين تحمل أهميَّةً كبيرة:
1- مسؤوليَّة الخِطابِ الدِّينيِّ.
2- المعيارُ الذي يعتمدُه الخِطابُ الدِّينيُّ.
3- مَوقِفُ الخِطابِ الدِّينيِّ مِن المعوِّقاتِ.
4- الخطابُ الدِّينيُّ وقراءةُ الواقعِ الموضوعيِّ.

نحاول أنْ نلقي ضوءًا على هذه العناوين.

العنوَانُ الأَوَّلُ: مسؤوليَّةُ الخِطابِ الدِّينيِّ
أوجز النَّصُّ المتقدِّمُ مسؤوليَّةَ الأنبياء، حيث قال: ﴿الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللهِ …﴾، ورسالاتُ الله تعالى هي التي تنظِّم كلَّ مساراتِ الحياة والإنسان، بكلٍّ ما يفرضُه هذا التَّنظيم من أحكام وتشريعات.

هذه هي مسؤوليَّة الأنبياء (عليهم السَّلام) – حسب هذا النَّصِّ -.
ومسؤوليَّةُ الخِطابِ الدِّينيِّ في كلِّ عصرٍ هي امتدادٌ لمسؤوليَّةِ الأنبياء (عليهم السَّلام).
وحينما يتخلَّى الخطابُ الدِّينيُّ عن هذه المسؤوليَّة بكلِّ مساحاتِها، فقد تخلَّى عن انتمائه إلى خطِّ الأنبياء (عليهم السَّلام)، هذا الانتماء الذي يفرض على الخطابِ الدِّينيِّ حضورَهُ، حيث الحاجة إلى رأي الدِّين.

وهكذا تتَّسع مسؤوليَّاتُ الخِطابِ الدِّينيِّ باتِّساعِ مساحاتِ هذا الدِّين – أعني الإسلام -.
فيظلم الخطابَ الدِّينيَّ مَنْ يسجن مسؤوليَّاتِه في مساحاتٍ ضيِّقةٍ، ويحاصرُهُ في مواقعَ محدودةٍ؛ لتبقى مساحات ومواقعُ كبيرةٌ وكثيرةٌ في منأى عن خطاب الدِّين، بذرائع أنتجتها مخيلاتُ الشَّيطانِ، ومكائدُهُ!

ألم يُحدِّثْناَ القرآنُ الكريم عن الشَّيطان حينما تمرَّد عن السُّجود لآدم (عليه السَّلام)، وطٌرِد من رحمة الله سبحانه؟
ماذا قرَّر الشَّيطان؟
اتَّخذ قرارَهُ الخطير في أنْ يُمارسَ دور الغواية، والإضلال لبني آدم، فقال: ﴿فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ﴾ (سورة الأعراف: الآية16-17).

انظروا في عصرنا الحاضر ها هو الشَّيطانُ يقتحم كلَّ مواقعِ الحياةِ، ويمارسُ الغوايةَ، والإضلال معتمِدًا أحدثَ الوسائل والأدواتِ!

ولم تكن مجتمعاتُ المسلمينَ استثناءً، فقد أضحت بيئاتٍ خِصبةً لعبث الشَّيطانِ في كلِّ المواقعِ الثَّقافيَّةِ، والأخلاقيَّةِ، والاجتماعيَّةِ، والتَّربويَّةِ، والاقتصاديَّةِ، والسِّياسيَّة، والإعلاميَّة.
وبقدر ما هيمنت مشروعات الشَّيطان على هذه المواقع، فقد عملتْ جاهدة على إقصاءِ الدِّين، ومحاصرة خطابه، حتَّى أنَّ مهندسي هذا الإقصاء، وهذه المحاصرة مارسوا التَّضليل؛ ليعطوا هذا العمل صبغة شرعيَّة، فوظَّفوا لذلك رجالَ فقهٍ، ومواقِعَ فتوى، ومنابر دين!

إنَّ من أهم مسؤوليَّات الخطاب الدِّينيِّ في هذا العصر التَّصدِّي لمشروعاتِ الإقصاءِ المتحرِّكة في كلِّ المواقع؛ لكي يمارس الخطابُ دوره في حماية الإنسان والحياة، وحماية الأوطانِ والبلدانِ من كلِّ أشكالِ العبث، والفساد، والتَّمزُّق، والانهيار، والفتن، والصِّراعات.

العنوانُ الثَّاني: المعيارُ الذّي يعتمدُهُ الخِطابُ الدِّينيُّ
هذا المعيار هو (رضا الله تعالى، والخشيةُ منه) أنْ يقول الخِطابُ الدِّينيُّ كلمتَه، أو أنْ لا يقولَها معيارُهُ في ذلك هو: (رضا الله تعالى، والخشية منه).

وليس أنْ ترضى الأنظمةُ، أو لا ترضى.
وليس أنْ يرضى الشَّارع، أو لا يرضى.
وليس أنْ ترضى الأحزابُ والمنظَّماتُ، أو لا ترضى.

وليس أنْ يرضى العالم، أو لا يرضى الخطابُ الدِّينيُّ الحقَّ معياره فقط وفقط هو (رضا الله تعالى، والخشية منه).

ولتغضب الأنظمةُ كلُّ الأنظمةِ.
وليغضب الشَّارع كلُّ الشَّارع.
ولتغضب الأحزاب كلُّ الأحزاب.
ولتغضب المنظَّماتُ كلُّ المنظَّمات.
وليغضب العالمُ كلُّ العالم.

هذا لا يعني أنَّ الخطاب الدِّينيَّ لا يعبأ بكلِّ المؤثِّراتِ الموضوعيَّةِ المتحرِّكةِ في الواقع.
الأمرُ ليس كذلك – كما سنعرض لذلك في العنوان الرَّابع -.

وهنا نؤكِّد أنَّ تطبيقاتِ هذا المعيار في حاجةٍ إلى (امتلاك رؤية شرعيَّة بصيرة)، وإلى (قراءة موضوعيَّة صائبة)، وإلَّا انزلقتْ مساراتُ الخطابِ الدِّينيِّ، وانحرفت أهدافُهُ، وارتبكتْ معطياتُه، وتحوَّل خطابًا متنافيًا مع أهدافِ الدِّين وغاياتِهِ، كما هو شأن خطابِ جماعات التَّكفير، والتَّطرُّف، والإرهاب، فهذا خِطابٌ مجانبٌ للدِّينِ كلَّ المجانبة، ومناقض لأهداف الشَّرع كلَّ المناقضة.

العنوانُ الثَّالثُ: مَوقفُ الخطابِ الدِّينيِّ مِنْ المُعوِّقات
﴿… وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللهَ وَكَفَى بِاللهِ حَسِيبًا﴾ (سورة الأعراف: الآية17).
مِن الطَّبيعيِّ أنْ تواجهَ الخطابَ الدِّينيَّ (معوِّقاتٌ كثيرةٌ وكبيرةٌ)، فهل يسقط الخطاب أمام هذه المعوِّقات؟

المطلوبُ أنْ لا يسقط، وإلَّا فَقَدَ ارتباطَهُ الصَّادقَ بالله سبحانه، وكان يخشى غير الله تعالى، وفَقَدَ انتماءَهُ الحقيقيَّ إلى الدِّين.
مَنْ يخشى الله (عزَّ وجلَّ)، ويستشعر رقابتَهُ واطلاعَهُ على كلِّ أتعابِهِ، وعناءاتِه، وعذاباتِه لا تُسْقِطُه التَّحدِّياتُ، ولا تهزمُهُ المعوِّقاتُ، ولا تُضعفُهُ التَّضحياتُ.
في هذا العصرِ تواجه الخِطاب الدِّينيَّ ألوانٌ متعدِّدةٌ، ومتطوِّرةٌ مِن المعوِّقات.

نذكرُ هنا بإيجازٍ بعضَ هذه المعوِّقات:
1- الحربُ الإعلاميَّة
فالكثير من وسائل الإعلام في هذا العصر موظَّفة؛ لمحاربة الخطاب الدِّينيِّ.
ولا أتحدَّث هنا عن إعلام الدُّول التي لا تؤمن بالإسلام، بل عن إعلامٍ في أوطانِنِا العربيَّة والإسلاميَّة، فإنَّ موقف بعضِ هذا الإعلام من الخِطاب الدِّينيِّ موقفًا سيِّئًا، وظالمًا، وقاسيًا، ومشوَّهًا، وملتبسًا.
وقد مارسَ هذا الإعلامُ إسقاط كلِّ التَّلوُّثات التي يحملها خطابُ التَّكفير والتَّطرُّف على كلِّ خطابٍ دينيٍّ.
وهذا ما حاول مهندسو هذا الإعلام أنْ يكرِّسُوه في وعي الجماهير؛ لكي يقترن خطاب كلِّ الدِّينيِّين، والإسلاميِّين بالتَّطرُّف والإرهاب.
إنَّ هذا الخلط هو خَلَطٌ متعمَّدٌ، يؤسِّسُ له حاقدون على الدِّينِ وأتباعِه، أو جهلةٌ اختلطت لديهم الرُّؤية، وارتبكتْ عندهم المفاهيم.

2- لغة المساوماتِ والإغراءاتِ
هذه اللُّغة أخطر من لغةِ الحرب الإعلاميَّة.
فالمواجهات ربَّما قوَّتْ الخطابَ وصلَّبْتهُ، وثبَّتَتْهُ.
إلَّا أنَّ لغةَ المساوماتِ والإغراءات قد تنجز ما عجزتْ عنه لغةُ الإعلام.
فالبعضُ يَسقُطونَ أمامَ إغراءاتِ المال.
والبعضُ يَسْقُطونَ أمامَ إغراءاتِ المنصب.
والبعضُ يَسْقُطونَ أمامَ إغراءاتِ الشُّهرة.
والبعضُ يَسْقُطونَ أمامَ إغراءاتِ الشَّهوة.
وما أكثر أدواتِ المساومة والإغراء في هذا الزَّمان.
وما أكثر الضُّعفاء الذين ينهارون أمام هذه المساوماتِ والإغراءات.
ويبقى الخطابُ الصَّادقُ الواثق بالله تعالى أقوى من كلِّ حروب الإعلام، وأكبر من كلِّ المساوماتِ والإغراءات.

3- أسلوبُ القوَّةِ والمواجهة
حينما تفشل حربُ الإعلام، وحينما تسقط لغة المساومات والإغراءات، فيتم اللُّجوء إلى (خَيَار القوَّة، والمواجهة)؛ فيحاصر الخِطاب، وتوضع له (مكبِّلاتٌ ثقيلةٌ)، وتمارس ضدَّه (إجراءاتٌ صعبة)، وربَّما تعرض أصحابه إلى (ملاحقاتٍ، واعتقالاتٍ، ومحاكمات).
ومع كلِّ هذه الإجراءات الثَّقيلة التي تواجه الخطاب في الكثير من أوطانِ المسلمين، فإنَّ الخطابَ المحصَّنَ إيمانيًّا، وروحيًّا، وثقافيًّا يتحدَّى كلَّ تلك الإجراءاتِ، معتمدًا كلَّ الأدواتِ المشروعةِ والرَّشيدةِ، دونَ أنْ يسقط في منزلقاتِ التَّطرُّف والعنف، لما في ذلك من مآلات تشعل الفتن والصِّراعات، وتدمِّر الأوطان والبلدان.
العنوانُ الرَّابع: الخِطابُ الدِّينيُّ وقراءة الواقع الموضوعيِّ
الخطابُ الدِّينيُّ مطلوبٌ منه أنْ يقرأ الواقع بكلِّ حيثيَّاتِهِ الموضوعيَّةِ قراءةً بصيرةً، رشيدةً، واعيةً.

•مِن أجلِ اكتشاف هذا الواقع.
•ومِن أجل التَّعرُّف على حجم التَّحدِّيات.
•ومِن أجلِ محاسبةِ الإمكاناتِ، ومراجعةِ الخَيَاراتِ.
•ومِن أجل توظيفِ القُدرات، وترشيد الخطوات.

وإذا غابتْ هذه القراءةُ كان الخطاب مرتجلًا، ضعيفًا، مهزومًا، منفعِلًا، منفلِتًا، مرتبِكًا، فاشلًا.
وحينما نتحدَّث عن واقعيَّة الخِطابِ لا يعني أنْ يستسلم الخطاب لهذا الواقع، وأنْ يسقط في قبضته بكلِّ مساوئِهِ، وأخطائِهِ، وانحرافاتِهِ، وتجاوزاتِه، وانتكاساته، وضلالاته.
هذا يُسمَّى سقوطًا، انسحاقًا، انهزامًا، فشلًا، خنوعًا، عبوديَّةً.

معنى واقعيَّة الخطاب
ما أعنيهِ بواقعيَّةِ الخطابِ أنْ يعتمد الخطاب (الأدوات) التي تملك قدرة التَّحرُّك في الواقع؛ من أجلِ إصلاحِ هذا الواقعِ، وتصحيح مساراتِهِ، وتغيير أوضاعه الفاسدة.
يجب أنْ لا يفهم من هذا الكلام أنَّنا نغفلُ (عنصر الغَيْب، والمَدَد الإلهيَّ) وهو العاملُ الحاسمُ في إنتاج النَّصرِ، وتحقيق الأهداف.

إلَّا أنَّ اعتماد (الغَيْب، والمَدَد الإلهيَّ) يفرض ممارسة كلِّ (الأدوات الطَّبيعيَّة) القادرة على معالجة أوضاع الواقع سواء أكان واقعًا دينيًّا، أم ثقافيًّا، أم اجتماعيًّا، أم سياسيًّا.

بشرط أنْ تكون هذه الممارسة مشدودةً إلى الله سبحانه، واثقةً بمددهِ، مطمئنة إلى تأييده.
إضافة إلى اعتماد الحكمة، والرُّشد، والبصيرة.

وهكذا يكون الخطابُ واقعيًّا، ولا يضرُّه أنْ يكون الواقع الذي يتحرَّك فيه الخطاب مُثْقلًا بالتَّحدِّياتِ، والصُّعوباتِ، والإرهاقاتِ، والإشكالاتِ، والصَّدَماتِ، والإخَفَاقاتِ، والانتكاساتِ.
كلمة أخيرة: الخمس فريضة شرعيَّة

إنَّ فريضة الخمس تخضع فقهيًّا لما يحدِّدُه شرعُ الله تعالى، فيما هي المصادر، وفيما هي المصارف، ويُمارس الخمس دورَهُ الكبير – وبحسب ما تتَّسع له إمكاناته – في تخفيف معاناة الفقراء، والبؤساء،ِ والمحرومين، وفي كلِّ ما يخدم الوطن من حلالات خيريَّةٍ، واجتماعيَّة، وثقافيَّة، وتربويَّة، وإنسانيَّة.

وهذا ما يمارسه كلُّ الوكلاءِ الشَّرعيِّين الذين يملكون أعلى درجاتِ النَّزاهةِ والنَّظافة، وليسوا من المتسلِّطين على أموال الله تعالى، وما كانوا خَوَنَةً ولا سُرَّاقًا، وكلُّ تاريخهم يشهد بذلك.

وليسُوا في حاجةٍ إلى أيَّة وصايا من مؤسَّساتٍ ومنظَّماتٍ، وإنْ كانوا لا يستكثرون أنْ يسمعوا أيَّ رأي فيما هي التَّشخيصات الموضوعيَّة ما لم يكن ذلك تدخُّلًا في مساراتِ الأحكامِ الشَّرعيَّة، وفي الخصوصيَّاتِ المذهبيَّة، لأنَّ فريضة الخمس شأن شرعيٌّ ومذهبيٌّ لا يسمح باقتحامه فيما هو المسار الفقهيُّ والمذهبيُّ، وأنَّ أية محاولات اقتحام لهذه المساحة سوف يكون لها تداعياتٌ في غايةِ الخطورة على أوضاع الوطن، وعلى اللُّحْمَة الوطنيَّة.

فالطَّائفة يجب أنْ تملك حقَّها في أنْ تمارسَ شأنًا عباديًّا مذهبيًّا بعيدًا عن أيَّة ضغوطاتٍ، وإملاءاتٍ، وتدخُّلاتٍ، وإنَّ مسؤوليَّة القائمين على شؤون الخمس بحسب التَّكليف الشَّرعيِّ أنْ يصونوا كلَّ مسارات هذا المال؛ ليكون في خدمة هذا الوطن، وأبناء هذا الوطن، ولن يتحوَّل في يوم من الأيَّام أداةَ عبث وفساد.

والحمدُ لله ربِّ العالمين.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى