الأرشيفملف شهر محرم

الإحياء الحقيقي لعاشوراء

الإحياء الحقيقي لعاشوراء


بسم الله الرحمن الرحيم


 
الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على سيد الانبياء والمرسلين محمد وعلى آله الهداة الميامين..
من أجل أن نتعرف على النمط الأمثل لإحياء عاشوراء نحاول أن نقرأ الأنماط الأخرى في سياق التعاطي مع هذه المناسبة.
وأبرز تلك الأنماط
:
(1) التعاطي المضاد لعاشوراء: في الساحة التاريخية، وفي الساحة المعاصرة تشكّلت صياغات مضادة لعاشوراء تهدف إلى مصادرة كل أشكال التواصل مع قضية كربلاء، ومن أجل التشويش على أهداف عاشوراء، وتمثل هذا الاتجاه المضاد في أنظمة سياسية، وكيانات حاكمة، وقوى إستكبارية، ووجودات معادية، وثقافات منحرفة، وأجهزة إعلامية مضللة.
ولعل أهم دوافع ومبرات هذا الإتجاه المضاد:
• التناقض في الاهداف.
• الخوف من تأثير الثورة الحسينية على جماهير الامة.
• عاشوراء ترهب تلك القوى والكيانات.


(2) التعاطي التحريفي: ويتجه هذا النمط من التعاطي إلى محاولة المصادرة الداخلية لعاشوراء، من دون حاجة إلى التصدّي المضاد المكشوف كما هي الصياغة التي تبنّاها النمط الأول.
وتمثل هذا الإتجاه في إعطاء تفسيرات خاطئة لثورة كربلاء، من هذه التفسيرات:
• ثورة إنطلقت بدافع العامل الإقتصادي.
• ثورة فجرها الصراع الطبقي في المجتمع.
• ثورة حركتها صراعات الحكم.
• ثورة أوجدتها ظروف اجتماعية معينة.
• ثورة عبّرت عن عداء تاريخي بين البيت الهاشمي والبيت الاموي.
وهكذا حاول هذا الاتجاه بكلّ تفسيراته أن يصادر (المضمون العقائدي لثورة الإمام الحسين (ع)) وأن يفرغها من دلالاتها الايمانية والمبدئية، والروحية.
وربما تورطت بعض التفسيرات في الخطأ نتيجة الخلط بين (منطلقات الثورة) و(الظروف الموضوعية للثورة)، ونتيجة الخلط بين “الأهداف” و”المبررات”.


(3) التعاطي الإستهلاكي: وهنا يبرز نمط من التعاطي لا يعادي عاشوراء ولا يحاول أن يصادر أهدافها، كما في النمطين السابقين، وإنمّا هو نمط من التعاطي لم يرتق إلى مستوى الوعي الحقيقي بأهداف عاشوراء، مما أدّى إلى تجميد الكثير من عطاءات هذه المناسبة، وإلى تعطيل دورها الفاعل في صياغة حركة الأجيال، وبناء مكوّنات الأمة، ومن المؤسف جداً أن هذا اللون من التعاطي غير الواعي أصبح يمتلك مساحات واسعة في أوساط الأمة، وفي أوساط جماهير عاشوراء.
ولكي نعطي لهذا النمط وضوحاً أكثر نستعين ببعض التطبيقات والممارسات المتحركة في موسم عاشوراء:
1- التطبير وضرب الظهور بالسلاسل: ممارسات لا تحمل مضموناً عاشورياً أصيلاً، وربما أساءت لأهداف عاشوراء، وأساءت إلى خط الانتماء إلى مدرسة عاشوراء.
2- اللطم على الصدور: عمل مشروع ما دام يمثل تعبيراً عن الحزن والمواساة في ذكرى عاشوراء وأمّا إذا تحوّل هذا العمل إلى ممارسة من العنف والقسوة التي تؤدي إلى الإضرار بالنفس بالدرجة المحرمة شرعاً، أو تحوّل إلى شكل من أشكال الاستعراض الذي لا يعبّر عن الحزن والمواساة، ولا يحمل دلالاته تؤكّد أهداف عاشوراء فهو عمل إستهلاكي فاقد للوعي والأصالة.
3- إستنفار العاطفة في موسم عاشوراء: تعبير أصيل للتعاطي مع ذكرى كربلاء، وإنّ أيّ محاولة لتجميد العاطفة الحسينية هي محاولة تهدف إلى مصادرة حالة التواصل مع قضية الإمام الحسين(ع) وقد جاءت الروايات الصحيحة تؤكد على ثواب الرثاء والبكاء من أجل الإمام الحسين(ع).
ولكن إذا تجمّد التعاطي مع عاشوراء في المساحة العاطفية فقط، وغاب الإنفتاح الواعي على أهداف عاشوراء، ومفاهيم عاشوراء، وقيم عاشوراء، فسوف يتحول هذا التعاطي إلى ممارسة إنفعالية فارغة من المضمون الفكري الكبير، وإن عبّرت عن حالة الأسى والألم والحزن على مصاب الإمام الحسين(ع)، ورغم ما لهذا التعبير من قيمة، وماله من الأجر والثواب، إلاّ أنّ هذه القيمة ترتقي كثيراً، وأنّ هذا الأجر يعظم كثيراً حينما يحتضن العاطفة العاشورية وعي ونضج وإستيعاب أصيل لمضامين الثورة الحسينية وأهداف عاشوراء، ومسئولية مجالس العزاء والذكرى، وإذا لم نعط للعاطفة جرعات كافية من الوعي والبصيرة فإننا نعطّل دور عاشوراء في صياغة وعي الأجيال.


(4) التعاطي الإزدواجي: ويمكن أن نفهم هذا النمط من التعاطي من خلال الأمثلة التالية:
1- التعايش عاطفياً مع عاشوراء، والتناقض عملياً مع أهدافها:
فما أكثر الذين تتصاعد عندهم العاطفة الحسينية في موسم عاشوراء، ولكن كم هم الذين يطبقون عملياً قيم عاشوراء؟
كم هم الذين يصوغون أفكارهم، وعواطفهم، وسلوكهم وفق المنهج الحسيني، ووفق مدرسة عاشوراء؟
كم هم الذين يتحررون في ذكرى عاشوراء من أخلاقيات يزيد بن معاوية، ومن فسقه وفجوره، ومن ظلمه وجوره، ومن كلّ إنحرافاته وفساده؟
من المؤسف أن نقول: أن الكثيرين ممن تتصاعد عندهم العاطفة في عاشوراء لا يملكون القدرة أن يتحرروا من أسر الهوى والمعاصي والذنوب.
2- التعايش فكرياً مع عاشوراء والتناقض عملياً مع أهدافها:
البعض ينفتح فكريا على مدرسة عاشوراء، ويتحدث بوعي عن مفاهيم عاشوراء، ويمتلك الكثير من ثقافة عاشوراء، ولكنه لا يترجم شيئاً من تلك الأفكار والمفاهيم والثقافة والقيم إلى واقع عملي في حياته مما يعبر عن ازدواجية واضحة بين الفكر والسلوك.
3- التعايش ثورياً مع عاشوراء، والتناقض أخلاقياً وروحياً وسلوكياً مع أهدافها:
هناك من يتصاعد عندهم في موسم عاشوراء الحس الثوري والغضب الثوري والروح الثورية إلاّ أنهم لا يملكون (وعي الثورة الحسينية) ولا يملكون (اخلاقية الثورة الحسينية) ، ولا يملكون (التزامات الثورة الحسينية وسلوكياتها).
لا قيمة للحس الثوري، والغضب الثوري، والروحية الثورية إذا غاب (الوعي) وغابت (الأخلاقية) وغاب (الإلتزام).
التعاطي الاصيل (الإحياء الحقيقي لعاشوراء):
في ضوء القراءة السابقة لبعض أنماط التعاطي المرفوضة، يمكن أن نخلص إلى وضع المكوّنات الأساسية لعملية التعاطي الأصيل مع عاشوراء والتي تشكل بدورها إحياء حقيقياً لذكرى كربلاء.
ولا نجد حاجة إلى مزيد من الشرح والإيضاح في تناول هذه المكوّنات، فالقراءة المتقدمة تلقي ضوءً يغنينا عن إعادة الحديث.
ويمكن أن نوجز هذه المكوّنات في العناوين التالية:
1- إمتلاك الرؤية الواعية والبصيرة في إستيعاب مضامين وأهداف وقيم عاشوراء، وامتلاك القدرة في فهم كل القراءات الأخرى الخاطئة والمنحرفة، وبمقدار ما يرتقي مستوى هذه الرؤية، ومستوى هذه القدرة يكون التعاطي والإحياء أكثر عمقاً ونضجاً وأصالة.
2- إمتلاك الدرجة الكبيرة من الصدق والإخلاص والإيمان في التعاطي مع عاشوراء الإمام الحسين (عليه السلام)، فلا يمكن أن يتأصل هذا التعاطي، ويأخذ مساراته الحقيقية مالم تحرّكه مكوّنات الإيمان والصدق والإخلاص، لتتحول الممارسات العاشورية إلى إنطلاقات عبادية تقربنا إلى الله تعالى.
3- إمتلاك المستويات العالية من العاطفة الحسينية، بما تمثله من إنصهار وجداني وذوبان روحي في أجواء الذكرى، وبحجم الزخم العاطفي والوجداني تتوهّج الحرارة في التعاطي مع عاشوراء، مما يعطي للممارسات العاشورية حركيتها وحيويتها وفاعليتها.
4- إمتلاك التجسيد الحقيقي لمعطيات عاشوراء على مستوى الفكر والعاطفة والسلوك، مما يؤسس لانتاج الجيل العاشوري الملتزم بخط الثورة الحسينية في منطلقاتها وأهدافها ومناهجها، وقيمها، وأخلاقياتها، وفي كلّ عناصرها، ومن أبرز هذه العناصر ماتهدف إليه الثورة الحسينية من صنع الحركية الرسالية التي تعطي للإنسان العاشوري دوره الفاعل في الجهاد والدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وفي التضحية والفداء والشهادة.
5- إمتلاك ذهنية قادرة على إنتاج أساليب جديدة في إحياء عاشوراء مما يعطي للذكرى إنفتاحها على كلّ حركة العصر، بما تحمله هذه الحركة من إمتدادات وتغيرّات ومستجدات، والتواؤم مع معطيات العصر لا يعني الإستجابة لكلّ جديد مهما كانت صبغته وهويته، وإنما هو التأصيل لهذه المعطيات من خلال الرؤية الإيمانية ومنظوراتها الفكرية والفقهية والروحية والأخلاقية والعملية مما يشكّل ترشيداً لحركة الواقع وإنطلاقاته.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى