الأرشيفملفات أخرى

يوم القدس العالمي: يوم القدس العالمي وإشكاليّة الانتماء الوطني

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربِّ العالمين والصَّلاة والسَّلام على أشرف الخلق أجمعين سيدنا ونبينا وحبيبنا وقائدنا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين..
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته…



لقد أعلن الإمام الخميني رضوان الله تعالى عليه (يوم القدس العالمي) في يوم الجمعة الأخيرة من شهر رمضان المبارك من أجل أن يتضامن المسلمون جميعًا مع قضيّة القدس، فمسؤوليّة المسلمين في جميع أقطار الأرض أن يحتفلوا بهذا اليوم، وأن يُعطوه حضوره الحقيقيّ على المستوى الروحيّ والثقافيّ والاجتماعيّ والسّياسيّ، وربّما تواجهنا ونحن نتحدّث عن يوم القدس العالمي إشكاليّةٌ يُثيرها البعض وهي:


إشكاليّة الانتماء الوطني


ماذا تقول هذه الإشكالية؟
تدّعي هذه الإشكاليّة أنَّ التعاطي مع يوم القدس العالمي يُشكِّل (تنافيًا صريحًا) مع (انتماءاتنا الوطنيّة) لهذا البلد أو ذاك، وتُحاول هذه الإشكاليّة أن تحدّد الوجوه المتعدّدة لهذا التنافي والتي تتمثّل فيما يلي:
– التعاطي مع يوم القدس العالمي يعني (الارتباط بنداء الإمام الخميني) وهو نداءٌ صادرٌ من رمزٍ سياسيٍّ في خارج أرض الوطن.
ومن الطبيعي جدًا أنَّ الارتباط بالرّموز السّياسيّة في خارج الأوطان يُعبّر عن (انسلاخ) الإنسان عن هويّته الوطنيّة، هذه الهويّة التي تفرض أن لا يخضع الإنسان المواطن إلى (توجيهات) يتسلّمها من الخارج، فمن التنافي أن نُحاول الجمع بين ضرورات الانتماء الوطني والالتزام بتوجيهاتٍ سياسيّة واردة إلينا من الخارج، ومن التنافي أن نُحاول الجمع بين (الولاء) للداخل، والارتباط بـ (ولاءاتٍ خارجيّةٍ) سياسيّةٍ أو دينيّة.



– التعاطي مع يوم القدس العالمي يعني الارتباط بالثّورة الإسلاميّة في إيران؛ كون هذا اليوم أصبح يُشكّل عنوانًا واضحًا لهذه الثّورة، فالتواصل معه يُعبّر عن تواصلٍ معها، وما يعني التواصل مع الثّورة الإسلاميّة في إيران؟ إنّه التواصل مع (كيان سياسيّ) خارجي، وهذا التواصل يُشكّل تفريطًا في انتماء الإنسان إلى أرضه وإلى وطنه.



– التعاطي مع يوم القدس العالمي يعني التعاطي مع (مشروعٍ) تمّت صياغته في الخارج، وهذا المشروع له دلالاته السّياسيّة والثقافيّة والاجتماعيّة، وكلّما ترسّخت هذه الدّلالات في وعي الإنسان المواطن وفي وجدانه ومشاعره، وفي ممارساته والتزاماته فإنَّ ذلك يُكرّس حالة (الانفصال) النفسيّ والفكريّ والعمليّ فيما هو (الانتماء) إلى الأرض والى الوطن، فالمشروعات السّياسيّة والثقافيّة المصنوعة في الخارج تصادر الكثير من ولاءات وانتماءات الإنسان إلى وطنه.


ما هي ملاحظاتنا حول هذه الإشكــاليّة بكـــلّ صيــاغتها المتعدّدة؟
الملاحظة الأولى:

الولاء الروحيّ والدينيّ لايتنافى مع الانتماء الوطني، فكلّ النّاس المنتمين إلى أوطانهم، والصّادقين في هذا الانتماء، غالبًا ما يحملون (ولاءاتٍ روحيّة) إلى (الرّموز الدينيّة)، وإن كانت في خارج الأوطان، فربّما كان الولاء لمرجعيّةٍ روحيّةٍ دينيّةٍ في مصر أو في السّعودية أو في الكويت أو في العراق أو في إيران أو في لبنان، المسألة في هذه الحدود لا تُشكّل تفريطًا في انتماء الإنسان إلى وطنه وإلى أرضه.
ومن المصادرة لحريّة الإنسان الدينيّة والثقافيّة أن نسجنه دينيًا وثقافيًا ضمن أسوار هذا البلد أو ذاك.


ثمّ إنّ (الانتماءات الدينيّة والثقافيّة) ليست محكومة بأطرٍ مكانيّة محدّدة، فلا يمكن للقرارات السّياسيّة أن تفرض (حصاراتٍ) حول (الأفكار الدينيّة) أو غير الدينيّة لتمنعها من مغادرة هذه الأرض أو تلك الأرض، كما لا تملك القرارات السّياسيّة القدرة في منع دخول (الأفكار) إلى هذا البلد أو ذاك البلد.


نعم قد تملك السّلطة السّياسيّة القدرة في أن تحاصر (الأفكار) من أن تنتشر هنا وهناك، وذلك في المساحات الظاهريّة العلنيّة للانتشار دون المساحات الخفيّة والسّريّة.


الملاحظة الثانية:
التعاطي السّياسيّ مع الخارج لا يُشكّل – دائمًا – مصادمةً مع (الانتماء الوطني) ربّما شكّل هذا التعاطي تلك المصادمة ولكن ليست دائمًا؛ فما أكثر (الرؤى السّياسيّة) في العالم والتي تفرض نفسها على الإنسان في هذا الوطن أو ذلك، وكما أنّ التعاطي مع (الفكر الدينيّ والثقافيّ) لا يمكن محاصرته بقرارٍ سياسيّ، فكذلك التعاطيّ مع (الفكر السّياسيّ).


متى يكون التعاطي السّياسيّ مع الخارج يُشكّل مصادمةً مع (الانتماء الوطني)؟


حينما يفرض هذا التعاطي على الإنسان أن يتنازل عن (المصالح الوطنيّة) لبلده أو أن يخون هذه المصالح، وبشرط أن تكون هناك صياغةٌ واضحةٌ وحقيقيّةٌ لهذه (المصالح)، لا كما يحلو لبعض (المزايدين) و (المتملّقين) لأنظمة السّياسة أن يصوغوا (مفاهيم وطنيّة) مرتبكة ومُبتَسَرَة تحملها الأهواء والنزوات والتملّقات الكاذبة، وبهدف الاستعداء ضدّ هذه الطّائفة أو تلك.
إنّه من الجناية أن تُتّهم طائفةٌ كبيرةٌ من أبناء هذا البلد، وهم يحملون كلّ الانتماء إلى هذه الأرض التي تشبّعت بقِيَم الدّين ومعطيات العقيدة، وروّوها من عرقهم ودمائهم، وأعطوها صادق حبّهم ومشاعرهم، أن يُتهم هؤلاء، أو يُشكّك في انتمائهم الوطنيّ لمجرّد أنهَّم أكّدوا (ولاءهم الدينيّ والعقيديّ) لبعض رموز الإسلام هنا أو هناك.


أو بعبارةٍ أكثر صراحة: لمجرّد أنَّهم عبّروا عن تعاطفهم مع انتصار الإسلام في إيران، أو انتصار الإيمان في جنوب لبنان..
لو انتصر الإسلام في مصر أو فلسطين أو في أيّ بقعةٍ من الأرض لوجب أن نعبّر عن تعاطفنا أو فرحتنا، وما كان هذا أو ذاك يُشكّل (خيانة) لمصالح الوطن، أو (تفريطًا) في الولاء والانتماء للأرض.


الملاحظة الثالثة:
إنّ يوم القدس العالمي ليس مشروعًا مصبوغًا بالهويّة الإيرانيّة، إنّه (المشروع الإسلاميّ) الكبير الذي أراد له الإمام الخميني رضوان الله عليه أن يكون مشروعًا لكلّ المسلمين، وأراد له أن يكون مشروعًا لا يعترف بالحدود، وأن يُلامس كلّ العقول وكلّ القلوب وكلّ المشاعر في جميع أوطان المسلمين.


جاء في خطاب الإمام الخميني رضوان الله عليه: إنّني أعتبر يومَ القدسِ يومَ الإسلام، ويوم الرسولِ الأكرم  صلى الله عليه وآله، ويوم تعبئة الطّاقات ليخرج المسلمون من العزلةِ المفروضةِ عليهم، ويقفوا بوجه الأجانب بكلّ قوّةٍ ومقدرة.


من هنا يجب أن نفهم لماذا أعلن الإمام الخميني رضوان الله عليه (يوم القدس العالمي) في آخر جمعة من هذا الشّهر المبارك، أعلن ذلك لعدّة أسباب:


السبب الأول: العشر الأواخر من شهر رمضان هي (ليالي القدر) وهي (ليالي القرآن).
وبهذا أراد الإمام الخميني رضوان الله عليه أن يؤصّل العلاقة بين (القدس والقرآن)، فلن تتحرّر القدسُ إلَّا في ظلّ القرآن، ولن ينتصر المسلمون على الصّهاينة الغاصبين وعلى جميع أعداء الدّين إلّا إذا رفعوا (راية القرآن) ورفعوا (شعار القرآن) وخضعوا إلى (قيادة القرآن) والتزموا (مبادئ القرآن) وطبّقوا (مناهج القرآن) في كلّ واقعهم الروحيّ والثقافيّ والأخلاقيّ والاجتماعيّ والاقتصاديّ والتربويّ والسّياسيّ..


مأساة المسلمين – اليوم – أنّهم ابتعدوا عن القرآن، وانفصلوا عن (تعاليم القرآن) و (قِيم القرآن)، ولم يبق من القرآن إلّا (رسمه)، قرآنٌ يُتلى في الإذاعات ومحطّات التلفاز، قرآنٌ يُقرأ في المساجد والمنازل، والفواتح والمناسبات، قُرآنٌ يُدرّس في المدارس والمعاهد والمراكز الدينيّة، قرآنٌ تُقام له دوراتٌ ومسابقاتٌ وفعّاليات، إلّا أنّه قرآنٌ غائبٌ عن كلّ الواقع في حركة الفرد، والأسرة، والمجتمع، وفي حركة الثقافة، والاقتصاد، والسّياسة، والتربيّة.


القرآن في أحكامه، ومبادئه، وقِيَمه، مهجورٌ في مجتمعات المسلمين، ليس على مستوى الأنظمة الحاكمة فقط، بل على مستوى الأفراد والشّعوب أيضًا.
فها هي (محارم القرآن) مستحلّة في أوساط المسلمين: الفساد، الدّعارة، الخمور، اللهو، الرّبا، القمار، المعاملات المحرّمة، الظّلم، الاستبداد، مصادرة الحرّيات، الخيانة، الكذب، الغِيبة، البهتان، التبرّج، التهتّك، انتهاك الحرمات، العلمنة، التغريب، التيه، الضّلال، الانحراف، إلى آخر المشهد المصادِم للقرآن.


عن النبيّ  صلى الله عليه وآله: ما آمنَ بالقرآنِ مَنْ استَحلَّ مَحارِمَه.
عن النبيّ صلى الله عليه وآله : مَنْ قرأَ القرآنَ ولمْ يعملْ بهِ حشَرهُ اللهُ يومَ القيامةِ أعمى.


وقال صلى الله عليه وآله : ربَّ تالٍ للقرآن والقرآن يلعنه.


إذن أراد الإمام الخميني رضوان الله تعالى عليه أن يربط قضيّة القدس، وقضيّة فلسطين بـالقرآن.


قال تعالى: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى


وقال تعالى: وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ * لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآَنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّه.


وبنداءات القرآن، وبِقِيَم القرآن فإذا غاب القرآن وغابت قِيَمه، فالمصير المحتوم لهذه الأمّة هو (الهزيمة) والسّقوط، والضّياع، وهيمنة المشروع المناهض للإسلام:
  هيمنة قوى الاستكبار، وهيمنة القرار الأمريكيّ.
  هيمنة قوانين الكفر.
  هيمنة ثقافات الضّلال والعلمنة والتغريب.
  هيمنة ثقافات التخدير والتمييع والتغريب.
  هيمنة سياسات الظّلم والقهر والمصادرة لكرامة الإنسان.


السبب الثاني: في هذا الشّهر المبارك يتعبَّأ المسلمون إيمانيًّا وعقيديًّا، وروحيًّا وأخلاقيًّا، وفكريًّا وثقافيًّا، و اجتماعيًّا وسياسيًّا، و رساليًّا  وجهاديًّا.
قضيّة القدس في حاجةٍ إلى كلّ هذه الألوان من التعبئات، والتعاطي مع قضيّة القدس في حاجةٍ إلى كلّ هذه الألوان من التعبئات، لهذا أراد الإمام الخمينيت أن يوفّر لهذه القضيّة أكبر قدرٍ من (التعبئة) وخاصّة في هذا العصر الموبوء السيِّئ:
عصر التخدير السّياسيّ.
عصر الزيف الثقافيّ.
عصر الدّجل الإعلاميّ.
عصر العبث الأخلاقيّ.
عصر الخواء الرّوحيّ.
عصر المساومات والمزايدات.
عصر الإفلاس والركود والاستلاب.



السبب الثالث: أراد الإمام الخميني من خلال هذا (الاختيار الهادف) أن تبقى القدس حاضرةً في ذاكرة الأجيال.


ومن المؤسف جدًا أن لا يجد (نداء الإمام الخميني) صداه الحقيقيّ في إعلام الأنظمة العربيّة والإسلاميّة، وأن لا يجد صداه عند مثقّفي العرب والمسلمين، وأن لا يجد صداه عند السّياسيّين، وأن لا يجد صداه عند الأحزاب والحركات والمنظّمات، وأن لا يجد صداه عند العلماء والدّعاة والمبلِّغين.


لماذا هذا (التغييب المتعمّد) ليوم القدس العالمي؟
أولًا: إنّ قضيّة القدس ليست هدفًا إستراتيجيًّا في سياسات الأنظمة، وفي أجندة السّياسيّين والمثقّفين، والقوى والأحزاب، وإنّما هي (ورقةٌ) للمساومة والمزايدة وتضليل الشّعوب.


ثانيًا: إن اعتماد هذا المشروع يعني أن يكون (لخطاب الإمام الخميني) حضوره الثقافيّ والسّياسيّ والرّوحيّ في واقعنا العربي والإسلاميّ، وهذا ما لا تريده (الإرادة الاستكباريّة) وعلى رأسها (الإرادة الأمريكيّة) هذه الإرادة التي أصبحت تُهيمن على سياسات الأنظمة العربيّة والإسلاميّة، وأصبحت هذه السّياسات تعيش (الارتهان الذّليل) للقرار الأمريكيّ.


ثالثًا: إنّ التعاطي مع نداء الإمام الخميني هو (اعترافٌ) بدور الدّين، وبدور قيادات الدّين في صياغة قضايا السّاحة، وفي توجيه حركة الواقع، وهذا أمرٌ لا يمكن أن تقبله الذّهنيّات المأسورة للمشروع المناهض للإسلام، هذا المشروع الذي استطاع أن يُهيمن على كلّ المفاصل الثقافيّة والاقتصاديّة والسّياسيّة في مجتمعات العرب والمسلمين.


وإذا كنا نتحدث عن هذا (الغياب الكبير) لنداء الإمام الخميني حول يوم القدس العالمي، فيجب أن لا ننسى أنّ هذا النداء:
وجد صداه عند أولئك الذين حملوا أرواحهم على أكفّهم وواجهوا بكلّ شموخٍ وعنفوان آلة الحرب الإسرائيليّة المدمّرة.


وجد صداه عند أطفال الحجارة في فلسطين.
وجد صداه عند الاستشهاديّين الذين أحدثوا الرّعب في قلوب الصهاينة.
وجد صداه عند أبطال حزب الله في جنوب لبنان الذين أسقطوا أسطورة الجيش الذي لا يُقهر، والذين غسلوا عار الهزائم العربيّة عبر أكثر من نصف قرن.
وجد صداه عند قطاعات شعبيّة هنا أو هناك، أعطت لهذا اليوم حضوره في العقل والوجدان.


وفي الختام أيّها الأحبّة في الله:
مسؤوليّتنا أن نُحافظ على هذا اليوم في ذاكرة الأجيال.
مسؤوليّتنا الإصرار على إحياء يوم القدس بمختلف الأساليب والفعّاليات: الاحتفالات، المهرجانات، المعارض، المسرحيّات، الأدبيّات، المسيرات.
مسؤوليّتنا التعاطي مع خطاب القدس في كلّ المناسبات وفي كلّ الأوقات.
مسؤوليتنا تشكيل اللجان والهيئات الدائمة باسم يوم القدس.
مسؤوليتنا أن نُعطي ليوم القدس حضوره الرّوحي، والثّقافي، والاجتماعي، والسّياسيّ والجهادي

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى