الإمام أمير المؤمنين (ع)من وحي الذكريات

الكلمة الإفتتاحية لمؤتمر الغدير بعنوان: أضواء على مناسبة الغدير

بسم الله الرَّحمن الرَّحيم
الحمد الله ربِّ العالمين، وأفضل الصَّلوات على سيِّد الأنبياء والمرسلين، محمَّد وعلى آله الهُداة الميامين.

أضواء على مناسبة الغدير

السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:

* سعادة باللِّقاء
فيسعدني هذا اللَّقاء مع الأحبَّة من أهالي الدُّراز في أوَّل لقاء بعد غياب دام زمنًا لأسباب واضحة كلِّ الوضوح، وكم نتمنى أنْ تكون هذه الانفراجة بداية انفراجات تؤسِّس لمرحلة جديدة، ومرحلة يعيش فيها هذا الوطن كلَّ الأمن، والاستقرار.

* الدُّعاء للوطن
إنَّ قلوبنا على هذا الوطن، وكلُّ دعائنا أنْ نعيش الوطن الآمن كلَّ الأمنِ، والمحبَّة كلَّ المحبَّة، والتِّسامح كلَّ التَّسامح، والتَّآلف كلَّ التَّآلف.
أنْ نعيش هذا الوطن بلا أَزَمَات، بلا توتُّرات، بلا تعقيدات، بلا خِلافات، بلا صِراعات.

بيد السُّلطة أنْ تصنع الكثير في هذا الاتِّجاه.
وبيد الشَّعب أنْ يصنع الكثير كذلك، مع تفاوت كبير في القُدُرَات، والإمكانات، ومتى صَدَقَت النَّوايا، ومتى اتَّفقت الإرادات، ومتى نشطت الهِمم والعزائم يتحقَّق الكثير الكثير من مصالح هذا الوطن، ومن مصالح هذا الشَّعب.

* إنتاج الثِّقة
ومطلوب أوَّلًا: إنتاج الثِّقة، فمتى غابت الثِّقة لا يمكن أنْ تتلاقى الإرادات، ولا يمكن أنْ تتصافى النَّوايا، ولا يمكن تتآزر الهِمم.

* شروط إنتاج الثِّقة
ومن أجل إنتاج الثِّقة:
1- يجب إنهاء كلِّ المكدِّرات.
2- ويجب تهيئة كلِّ المناخات.
3- ويجب تنشيط كلِّ التَّفاهمات.

وانطلاقًا من هذا التَّمهيد أقول: يجب أنْ نعطي لخطاب هذه المناسبات حضورًا حقيقيًّا:
في بناء الوحدة والتآلف.
وفي بناء المحبَّة، والتَّسامح.
وفي بناء التَّحاور والتَّفاهم.
ولا يجوز – إطلاقًا – أنْ يتحوَّل خطاب هذه المناسبات خطابًا يفرِّق، ويمزِّق، ويؤزِّم، ويباعد بين مكوِّنات هذا الشَّعب.

* شروط الخطاب الدِّينيِّ
إنَّ الخطاب الدِّينيَّ لدى هذه الطَّائفة، أو لدى تلك الطَّائفة يجب:
1- أنْ يكون خطابًا، حكيمًا، بصيرًا، واعيًا.
2- وأنْ يكون خطابًا صادقًا كلَّ الصِّدق.
3- وأنْ يكون خطابًا نظيفًا كلَّ النَّظافة.
4- وأنْ يكون خطابًا معتدلًا كلَّ الاعتدال.
5- وأنْ يكون خطابًا متسامحًا كلَّ التَّسامح.
فالخطر كلُّ الخَطر حينما يفتقد الخطاب الحِكمة، والوعي، والبصيرة.
وحينما يفقد الصِّدق.
وحينما يفقد النَّظافة.
وحينما يفقد الاعتدال، والتَّسامح، فيتحوَّل خطابًا متشدِّدا، متعصِّبًا، متطرِّفا.
ويتحوَّل خطاب عنفٍ، وإرهاب!
إنَّ أمَّتنا العربيَّة والإسلاميَّة تعيش مرحلة تعقدَّت فيها الأوضاع، وتوتَّرت العلاقات، فكم هو دور الخطاب الدِّينيِّ، والخطاب الثَّقافيِّ، والخطاب السِّياسيِّ خطير، وخطير جدًّا!

فإمَّا أنْ يكون خطابًا بنَّاء للأوطان والشُّعوب، وإمَّا أنْ يكون خطابًا هدَّاما للأوطان والشُّعوب.

فيجب على حَمَلة الخِطَاب الدِّينيِّ، وحَمَلَة الخطاب الثَّقافيِّ، وحَمَلَة الخطاب السِّياسيِّ أن يملكوا ضميرًا حيًّا، وإخلاصًا صادقًا، وحضورًا فاعِلًا، فالمرحلة الرَّاهنة مملوءة بالتَّحدِّيات، والصُّعوبات، والإشكالات.

* ذِكرى الغدير
أيُّها الأحبَّة، إنَّنا نعيش اللَّيلة ذِكرى الغدير، وهي مناسبة اختلفت فيها رؤى المسلمين، وتعدَّدت مواقفهم.

هنا تطرح إشكاليَّة تقول: إنَّ مقاربة، وإحياء هذه المناسبة يعني استدعاء تاريخٍ من الخِلاف بين المسلمين، فلماذا لا يجمَّد الحديث في القضايا التي تنشِّط الخلافات بين المسلمين، وقضيَّة الغدير واحدة من أهم القضايا التي أنتجت خلافًا، وصراعًا بين المسلمين!
ولنا بعض تعليق على هذه الإشكاليَّة.

هنا مسالة يجب أنْ تكون واضحة كلَّ الوضوح: حينما تختلف الرُّؤى بين المذاهب الإسلاميَّة في:
مسائل عَقيديَّة!
أو مسائل فكريَّة!
أو مسائل فقهيَّة!
أو مسائل تاريخيَّة!
لا يعني هذا بالضَّرورة أنْ تتشكَّل بينهم خلافات، وصراعات!
تتشكَّل هذه الخلافات والصِّراعات حينما يكون التَّعاطي مع قضايا الاختلاف تعاطيًا حطأً.

المشكلة كلُّ المشكلة كيف نتعاطى مع قضايا الاختلاف؟!
ليس منطقيًّا أنْ تلغى قضايا الاختلاف في العقيدة.
في الفقه.
في قضايا التَّاريخ.
في قضايا الثَّقافة.
في قضايا السِّياسة.
في كلِّ قضايا الحياة.
فمن الطَّبيعيِّ أنْ يكون لكلِّ إنسان الحقُّ في أنْ يشكِّل قناعاته الدِّينيَّة، وقناعاته المذهبيَّة، وقناعاته التَّاريخيَّة، وقناعاته الثَّقافيَّة، وقناعاته السِّياسيَّة، هذا ما تفرضه ضرورات العقل، وضرورات الحرِّيَّة.
الخطأ ليس في الاختلاف.
الخطأ كلُّ الخطأ حينما تعالج هذه الاختلافات بطريقة خطأ.
الخطأ كلُّ الخطأ حينما تتحوَّل الاختلافات إلى خلافات، وصراعات، وعداوات.
نعم، رغم الاختلافات الدِّينيَّة، والمذهبيَّة، والثَّقافيَّة، والسِّياسيَّة، فإنَّ هناك مساحات كبيرة جدًّا تشكِّل مساحات اشتراك، وهي أكبر بكثير من مساحات الاختلاف، فمطلوب أنْ نقف على الأرض المشتركة، ثمَّ نتحاور فيما اختلفنا فيه، لا أنْ نحرق الأرض المشتركة ونبقى نتقاذف من بعيد!
الأمر الذي يكرِّس الخلافات، والتَّباينات، والعداوات.

* مقاربة قضيَّة الغدير
بعدما تقدَّم من طرح لا نجد أيَّ حرج في معالجة، ومقاربة قضيَّة الغدير، وإنْ تعدَّدت الرُّؤى، والقناعات حولها بشرط أنْ نعتمد في هذه المعالجة، والمقاربة المنهجَ العلميَّ، واللُّغة الرَّشيدة، وأنْ نحترم قناعات الآخرين مهما اختلفنا معهم، فكلُّنا مسلمون تجمعنا مُشتركات كبيرة، ولا يضرُّ بوحدتنا أنْ نختلف في قضيَّة هنا، أو قضيَّة هناك.

ولا يضرُّنا أنْ نتحاور بالتي هي أحسن بعيدًا عن أيِّ تعصُّب، أو تَقَاذُف، أو إساءة، أو إسقاط.

* سؤال وإجابات ثلاث!
أيُّها الأحبَّة، ونحن نحتفل بذِكرى الغدير أطرح هذا السُّؤال: هل مارس النَّبيُّ (صلَّى الله عليه وآله) دور الإعداد، والتَّأهيل لموقع القيادة بعد رحيله؟
هنالك ثلاث إجابات، ولا رابع لها!

فإذا استطعنا أنْ نبرهن على خطأ إجابتين، تبقى الإجابة الثَّالثة هي الصَّحيحة!

ما هي هذه الإجابات على التَّساؤل المذكور؟
الإجابة الأولى: إنَّه (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) لم يقم بأيِّ دور في اتِّجاه الإعداد، والتَّأهيل لموقع القيادة بعده.

الإجابة الثَّانية: إنَّ النَّبيَّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) مارس دور الإعداد، والتَّأهيل لنخبة من الصَّحابة، وَخَوَّل الأمَّة حقَّ الاختيار، والانتخاب.

الإجابة الثَّالثة: إنَّ النَّبيَّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) قد مارس دور الإعداد، والتَّأهيل لشخص معيَّن، ونصَّ عليه.

هذه إجابات ثلاث، ولا يوجد احتمال رابع، فأيُّ هذه الإجابات هو الصَّحيح؟

واحدة فقط من هذه الإجابات هي الصَّحيحة.

* وقفة مع الخَيَارات الثَّلاثة
وقفة مع الخَيَار الأوَّل
إنَّه (صلَّى عليه وآله وسلَّم) اتَّخذ موقفًا سلبيًّا صامتًا من مستقبل الدَّعوة، والقيادة، وهنا نضع بعض ملاحظاتٍ:

الملاحظة الأولى: إنَّ هذا الخَيار فيه اتِّهام للنَّبيِّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) بأنَّه لا يملك رؤية عن مستقبل الأمَّة، وما يحدث فيها من خلافات، وصراعات، وفتن عمياء.

وهذا غير صحيح جدًّا، فقد أكَّدت الأخبار أنَّه (صلَّى عليه وآله وسلَّم) تحدَّث عن الفتن، وما سوف يحدث بعده من خلافات، وصراعات.

الملاحظة الثَّانية: إنَّ هذا الخَيار يعني أنَّ النَّبيَّ (صلَّى عليه وآله وسلَّم) لا يهمُّه مستقبل الدَّعوة والأمَّة، وهذا أمر باطل!

فالإسلام هو خاتمة الرِّسالات، وهو (صلَّى عليه وآله وسلَّم) يعنيه مستقبل الدَّعوة كما يعنيه حاضرها، وقد أكَّدت الإخبار على اهتمامات النَّبيِّ (صلَّى عليه وآله وسلَّم)، مثل:
قضيَّة الدَّواة والكَتف.
قضيَّة جيش أسامة.
فالخَيار الأوَّل باطل!
وقفة مع الخَيار الثَّاني
إنَّه (صلَّى عليه وآله وسلَّم) خوَّل الصَّحابة أنْ يمارسوا انتخاب القيادة من خلال مبدأ الشُّورى.
ويلاحظ على هذا الخَيَار:

أوَّلًا: لا يوجد أيُّ نصٍّ يدعم هذا الخَيَار!
فلو كان النَّبيُّ (صلَّى عليه وآله وسلَّم) قد مارس هذا الخَيار لكان له وجود واضح في خطابات النَّبيِّ (صلَّى عليه وآله وسلَّم)، وبياناته، ولا يوجد مبرِّر لإخفاء ذلك.

1- كونه يخدم الاتِّجاه الذي تسلم زعامة الأمَّة.
2- وكونه مبدأ جديد يفرض توعية مكثَّفة.
وأمَّا النَّصان القُرآنيَّان الواردان حول الشُّورى:
أ- ﴿… وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ …﴾ (سورة آل عمران: الآية 159).
ب- ﴿… وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ …﴾ (سورة الشُّورى: الآية 38).
فهما نصَّان لا علاقة لهما بموضوع الخِلافة!

ثانيًا: يواجه خَيار الشُّورى إشكال الغموض التَّشريعيِّ
فلو كان النَّبيُّ (صلَّى عليه وآله وسلَّم) قد طرح هذا الخَيار، وأَلزم الأمَّة بتنفيذه لكان من المفروض:
1- أنْ يقوم بتحديد معالمه الواضحة.
2- أنْ يمارس إعدادًا فكريًّا، وروحيًّا، وسياسيًّا؛ للتَّعاطي مع هذا المبدأ.
3- أنْ يهيِّئ نماذج متعدِّدة مؤهَّلة لتولِّي زعامة التَّجربة.
ولا نجد في الرِّوايات المتوافِّرة ما يؤكِّد ذلك.

ثالثًا: إنَّ أطروحة الشُّورى لم تتوفَّر على أيِّ شكل من أشكال التَّطبيق بعد الرَّسول (صلَّى عليه وآله وسلَّم).

وقفة مع الخَيار الثَّالث
إذا كانت القِسْمة العقليَّة قد حصرت الاحتمالات في ثلاثة:
الاحتمال الأوَّل: السَّلبيَّة، والصَّمت.
الاحتمال الثَّاني: التَّفويض للأمَّة الشُّورى.
الاحتمال الثَّالث: النَّصُّ، والتَّعيين.
فإذا سقط الاحتمالان: الأوَّل والثَّاني، بقي الاحتمال الثَّالث هو المتعيِّن، إضافة إلى توفُّر النُّصوص الصَّريحة التي تؤكِّد إمامة عليٍّ (عليه السَّلام)، والأئمَّة من بعده (عليهم السَّلام)!
وهكذا نَخْلص إلى أنَّ النَّبيَّ (صلَّى عليه وآله وسلَّم) قد مارس دور التَّأصيل للمضمون القياديِّ بعده.

النَّصُّ القياديُّ
1- الإعلان المبكِّر.
2- التَّأكيدات المكثَّفة، “الخلفاء من بعدي اثنا عشر”.
3- الإعلان الرَّسميُّ (يوم الغدير)
4- محاولة الثَّوثيق الخطِّي.
الإعلان المبكِّر: حديث الدَّار يوم الإنذار
لمَّا نزل قوله: ﴿وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ﴾ (سورة الشعراء: الآية214)، دعا النَّبيُّ (صلَّى الله وآله وسلم) عشيرته إلى دار عمِّه أبي طالب، وعرض عليهم الإسلام.

وفي آخر حديثه، قال: “…، فأيُّكم يؤازرني على أمري هذا على أنْ يكون أخي، ووصيِّي، وخليفتي فيكم؟

فأحجم القوم عنها غير عليٍّ – وكان أصغرهم – إذ قام، فقال: أنا يا نبيَّ الله، أكون وزيرك عليه.
فأخذ رسول الله برقبته، وقال: إنَّ هذا أخي، ووصيِّي، وخليفتي فيكم، فاسمعوا له، وأطيعوا، …” (المراجعات، الصَّفحة188، السَّيِّد شرف الدِّين).

1- ابن خلدون في تاريخه: “…، فجمع بني عبد المطلب، …، ودعاهم إلى الإسلام، وسمعوا كلامه، وافترقوا” (تاريخ ابن خلدون، ج2، ق2، الصفحة7، ابن خلدون).
2- ابن كثير في (البداية والنِّهاية): “…، فأيُّكم يؤازرني على هذا الأمر على أنْ يكون أخي، وكذا، وكذا، … .
إنَّ هذا أخي، وكذا، وكذا، …” (البداية والنهاية3/53، ابن كثير).

3- محمَّد حسين هيكل في: (حياة محمَّد)
الطَّبعة الأولى 1354 هـ، دوَّن كاملًا (حياة محمَّد، الصَّفحة104، محمَّد حسين هيكل، سنة الطَّبع: 1354 هـ).

الطَّبعات الأخرى: حُذِفت فقرة: أخي، ووصيِّي، وخليفتي (حياة محمَّد، الصَّفحة151، محمَّد حسين هيكل، سنة الطَّبع: 2014 م).

وآخر دعوانا أنْ الحمد لله رب العالمين.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى