حديث الجمعةشهر جمادى الأولى

حديث الجمعة 198: متابعة الحديث حول آخر توقيع صادر عن الإمام المهديّ (ع) – ما أحوجنا إلى خطاب المحبّة والتآلف

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين وأفضل الصلوات على سيد الأنبياء والمرسلين محمدٍ وعلى آله الطيبين الطاهرين..


لا زلنا مع التوقيع الصادر عن الإمام المهديّ عليه السلام، والذي أعلن فيه انتهاء الغيبة الصغرى وبدء الغيبة الكبرى، وذلك في سنة 329هـ، السنة التي مات فيها السفير الرابع علي بن محمد السمري، وهكذا انتهت النيابة الخاصة [السفارة] فلا يدّعيها إلاّ مفترٍ كذّاب حسب ما جاء في التوقيع حيث يقول الإمام عليه السلام: «فقد وقعت الغيبة التامّة فلا ظهور إلاّ بعد إذن الله تعالى ذكره بعد طول الأمد وقسوة القلوب وامتلاء الأرض جورًا وسيأتي شيعتي من يدّعي المشاهدة ألا فمن ادّعى المشاهدة قبل خروج السفياني والصّيحة فهو كذّاب مفترٍ ولا حول ولا قوة إلاّ بالله العلي العظيم».
هذا المقطع من التوقيع الشريف يتناول مجموعة نقاط مهمّة جدًا، يجب أن يستوعبها أتباع مدرسة الأئمّة من أهل البيت عليهم السلام، والقائلين بإمامة الإمام المهديّ عليه السلام (الثاني عشر من أئمّة أهل البيت عليهم السلام)
هذه النقاط المهمّة هي:
(1) انتهاء الغيبة الصغرى وبدء الغيبة الكبرى – كما ذكرنا قبل قليل- وبهذا تنتقل الشيعة إلى مرحلةٍ أكثر تعقيدًا وأكثر صعوبة..


لقد مرّ الشيعة في علاقتهم بأئمّتهم عليهم السلام بثلاث مراحل:


المرحلة الأولى: مرحلة حضور ووجود الإمام بينهم، يتواصلون معه، ويتشرّفون بلقائه والاستفادة من علومه وتوجيهاته…
وفي هذه المرحلة عاش الأئمّة حالتين:
الحالة الأولى:
ولم تتوفّر إلاّ للإمام أمير المؤمنين عليه السلام في فترةٍ تاريخيّةٍ محدودة، هذه الحالة التصدّي للسلطة والحكم وتسلّم الخلافة..
الحالة الثانية:
وقد عاشها جميع الأئمّة عليهم السلام، وهي حالة الإقصاء عن موقع السلطة والحكم والخلافة.
عقيدتنا أنّ الأئمة من أهل البيت عليهم السلام لهم ثلاث صلاحيات:
أ‌- صلاحية الإمامة السّياسية بعد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم..
ب‌-  صلاحية الإمامة الفكريّة والفقهيّة
ج- صلاحية الإمامة الروحيّة والاجتماعيّة…
فالصلاحية الأولى لم يتمكن الأئمّة من ممارستها، باستثناء الإمام أمير المؤمنين في مدّة زمنيّة محدّدة…
والصلاحية الثانية مارسها الأئمّة عليهم السلام، وإن كان النظام الحاكم قد صادر هذه الصلاحية وأوجد لها بدائل فيبقى الأئمة يشكلون مرجعية فكرية وفقهية لأتباع مدرستهم..
والصلاحية الثالثة احتفظ بها الأئمّة من أهل البيت، رغم محاولات الأنظمة مصادرتها بقي الأئمة قدوة روحيّة متميّزة لكلّ المسلمين، وبقي الأئمّة نماذج لا تضاهى عند الناس جميعًا…
نقرأ في التاريخ هذه الحادثة التي تؤكد الموقع الروحي والاجتماعي الذي يحظى به الأئمّة في نفوس المسلمين، حينما حج هشام بن عبد الملك وطاف وأراد أن يستلم الحجر الأسود فلم يقدر على استلامه من الزحام، فنصب له منبر فجلس عليه ينتظر، ثم أقبل الإمام علي بن الحسين زين العابدين عليه السلام فأخذ يطوف، فكان إذا بلغ موضع الحجر انفرجت الجماهير وتنحى الناس حتى يستلمه لعظم معرفتهم بقدره ومكانته على اختلاف بلدانهم وانشعاباتهم…
فأثار ذلك استغراب حاشية هشام بن عبد الملك، فتوجهوا له بالسؤال عن هذا الشخص الذي حظي بكلّ هذا التقدير بما لا يحظى به هشام فتجاهل هشام وقال لا أعرفه….
وهنا سجل الفرزدق الشاعر المشهور موقفه الجريء من خلال قصيدته المعروفة
هذا الذي تعرف البطحاء وطأته
   والبيت يعرفه والحلّ والحرم
إلى آخر القصيدة..


المرحلة الثانية:
مرحلة غياب الإمام غيابًا ليس تامًا كما حدث للإمام المهديّ عليه السلام أثناء الغيبة الصغرى والتي استمرت ما يقرب من سبعين سنة….
وكانت العلاقة بين الإمام وشيعته تتمّ بواسطة سفراء خاصين معينين من قبل الإمام نفسه، فمن خلال هؤلاء السفراء والنواب المعينين تصدر الأوامر والتوجيهات والإجابات عن الاستفتاءات والتساؤلات، وفي هذه المرحلة حدثت دعاوى كاذبة للسفارة والنيابة ولكنّها باءت بالفشل وافتضح أصحابها شرّ افتضاح، فالقاعدة الشيعيّة كانت محصّنة كلّ التحصين، وتملك كفاءاتٍ علميّة كبيرة ومتميّزة، فما كان من السهل اختراقها وخداعها…..
من الظرائف في هذا المقام….
إنّ الحسين بن منصور الحلاج أحد الذين أدعو النيابة كذبًا وزورًا، فأراد الله تعالى أن يفضحه ويخزيه… فكتب أي الحلاج إلى أبي سهل النوبختي «من شيوخ الشيعة المعروفين وكان عالمًا كبيرًا جليلاً» كتب إليه يذكر له مزاعمه في السفارة…….
فكتب له أبو سهل – ما مضمونه- أنّي على استعداد أن أصدّق دعواك، ولكنّي أطلب منك شيئًا واحدًا وهو أنّي متورط بكثرة الشيب في رأسي وقد أعجزني استعمال الخضاب، وافتضحت مع نسائي..
فيا صاحب الدلائل والبراهين اجعل لحيتي سوداء فإنّي طوع يديك وقائلٌ بقولك….. وعندها افتضح الحلاج، وصيره أبو سهل النوبختي أضحوكة وأحدوثة على ألسن النّاس…
وهكذا يفتضح دائمًا أصحاب الدعاوى الكاذبة.


ما أحوجنا إلى خطاب المحبّة والتآلف:
 في مرحلةٍ شديدة الحساسيّات، كثيرة التعقيدات، مشحونةٍ بالإثارات، مملوءةٍ بالتجاذبات والخلافات، مأسورةٍ للأهواء والشهوات، محكومةٍ لخططٍ ومؤامرات، غارقةٍ في ألاعيب الأنظمة والسياسات….
في مرحلةٍ هذه سمتها وملامحها البارزة الواضحة كم هي الحاجة كبيرة وكبيرة إلى خطاب المحبّة والتقارب والتآلف، عسى أن يداوي بعض جراحات هذا الواقع المأزوم، وعسى أن يخفّف شيئًا من عناءات هذه المرحلة وآلامها، وعسى أن يهدّئ من نزف وشره العداوات والمخاصمات.
في مرحلةٍ هذه سمتها وملامحها البارزة الواضحة كم هي الحاجة كبيرة وكبيرة إلى خطاب المحبّة والتقارب، حتى تتهيّأ الأجواء النفسية والذهنية والروحية والاجتماعية والسّياسية لانطلاقاتٍ ومبادراتٍ مخلصةٍ صادقةٍ جادّةٍ هادفةٍ في اتجاه معالجة كلّ الأوضاع الضاغطة والتي لا تستثني أحدًا، وفي اتجاه تحديد المواقف الصائبة القادرة على تجاوز الأزمات، والوصول إلى الأهداف والمطالب والغايات….
وحينما نتحدث عن خطاب المحبّة والتآلف والتقارب لا نعني المداهنة والمجاملة والمساومة على حساب القيم والمبادئ التي يؤمن بها الإنسان، ولا على حساب الثوابت والقناعات الشرعيّة التي تحكم الخيارات……
وإنّما نعني أنّ لغة الخطاب المملوءة بالمحبّة والرغبة الصادقة في التآلف والتقارب هي القادرة أن تفتح القلوب والنفوس والعقول، لتتجاذب وتتعاون للوصول لما هو الأصلح والأنفع والأصوب فيما هي القرارات والمواقف والخيارات، وفيما هي الأهداف المشتركة، والمطالب الموحّدة.
ثمّ إنّ خطاب المحبّة والتآلف والتقارب، هو الذي يفوّت على المتصيّدين في المياه العكرة أغراضهم في تمزيق الوحدة بين الأخوة أصحاب الهمّ الواحد، والمنطلق الواحد، والهدف الواحد، والمشروع الواحد….
هناك من يطمع إلى تضخيم الخلافات وتهويل الاختلافات…
لا نشكّ في وجود خلافاتٍ واختلافات، طالت مواقع دينيّة وسياسية واجتماعية وثقافية وكان لها انعكاسات ضارة ومربكة ومقلقة إلاّ أن يصوّر الأمر وكأنّه معارك ضارية وحروب طاحنة تكاد تحرق السّاحة….
هذا ما تحاول أن ترسمه بعض الكتابات والتي تتظاهر بأنّها مشفقة على أوضاع الساحة وأوضاع الناس….
إنّنا نثمّن أيّ كلمة مخلصة صادقة تعبّر عن قلقها وإشفاقها على أوضاع السّاحة وأوضاع النّاس بسبب الخلافات والاختلافات وهذه حالة صحيّة ومطلوبة، وندعو إلى أن تتحرك وتمارس دورها في الضغط على حالات التشاحن والتباعد والتباغض، بشرط أن تكون هذه الكلمة واعية وبصيرة حتى لا تفسد أكثر ممّا تصلح…
نعم نحن نثمّن هذه الكلمات المشفقة الصادقة المخلصة البصيرة…..
ولكن هناك من يتحدّث عن الخلافات والاختلافات وخاصّة بين العلماء بهدف التهويل لحاجةٍ في نفس يعقوب، حتى يسقط قيمة العلماء والرموز الدينيّة والسّياسيّة في نظر النّاس……
قد تكون بعض الخلافات أو الاختلافات غير مبرّرة إطلاقًا، وربّما تسيء إلى أطراف الخلاف أو الاختلاف، وتضرّ جدًا بوحدة الساحة، ولكن هناك من الاختلافات ما يكون طبيعيًا، إلاّ أنّ الإشكالية هنا، أنّ هذه الاختلافات ربّما تدار بأساليب خاطئة….
لا مشكلة في الاختلاف الديني والمذهبي والثقافي والسّياسي إذا كان لا يضر بالمساحة التي يجب أن يتوحد فيها الموقف الديني أو المذهبي أو الثقافي أو السّياسي، هنا يجب أن يتجمّد الاختلاف، لأنّ قاعدة التزاحم الشرعيّة تقول بوجوب تقديم الأهمّ على المهم..
حقّ الاختلاف مهمّ ومكفول شرعًا وقانونًا ولا يجوز مصادرة هذا الحق…
ولكن حينما يتحوّل هذا الاختلاف إلى أداة لتمزيق وحدة الأمّة أو وحدة الشعب أو وحدة الجماعة، فإنّ هذه الوحدة أهمّ من حق الاختلاف…


فالاختلاف له صورتان:
الصورة الأولى:
اختلاف يهدّد وحدة الموقف المطلوب شرعًا…. وهنا يجب أن يتجمّد هذا الاختلاف….
وحينما أقول يتجمّد لا يعني أن يلغي الإنسان قناعاته الدينيّة أو المذهبيّة أو الثقافيّة أو السّياسية، وإنّما يجب أن لا يتحرك بطريقةٍ تضرّ بموقف الوحدة المطلوب شرعًا…
كم تتصورون أنّ الشيعة في العراق في ظلّ الحكم العثماني كانوا مظلومين أشدّ ألوان الظلم، وكانوا محرومين من كلّ الحقوق وكانوا يختلفون مع العثمانيين مذهبيًا، ولكن لمّا قررت بريطانيا غزو العراق ومواجهة العثمانيين أصدر فقهاء الشيعة في العراق فتاوى طلبوا فيها من الشيعة القادرين على الجهاد أن ينضموا إلى الجيش العثماني في مواجهة الانجليز…
فالكلام بأنّ الاختلاف حقّ مشروع بشكلٍ مطلق مسألة ليست صحيحة وفق المنظور الشرعي بل والسّياسي أيضًا.


الصورة الثانية:
الاختلاف الذي لا يهدّد وحدة الموقف المطلوب شرعًا….
هنا لا يجوز مصادرة هذا الحق…
نعم المطلوب:
أولاً: أن تكون القناعات مؤسّسة وفق أدوات مشروعة وموضوعيّة، وليس وفق أهواء وعصبيات دينية أو مذهبية أو ثقافية أو سياسية….. القناعات المحكومة لهذه الأهواء والعصبيات مرفوضة شرعًا وعقلاً….
ثانيًا: أن تدار الاختلافات بأساليب مشروعة ومدروسة وبصيرة… لكي لا تتحوّل هذه الاختلافات إلى مصدر فتنة وعداوة وصراع، وربّما تقود إلى الاقتتال والاحتراب وسفك الدماء وهتك الأعراض….
وهنا يفترض في أطراف الاختلاف الديني أو المذهبي أو الثقافي أو السّياسي أن يتوفّروا على «أدب الاختلاف» و«ثقافة الاختلاف» والتي حدّدها قرآننا العظيم ونبينا الكريم صلّى الله عليه وآله، وأئمّتنا الأطهار عليهم السلام، وديننا المعطاء وإسلامنا الكبير…. ربّما أتناول في حديث آخر هذه الآداب وهذه الثقافة..


 



 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى