حديث الجمعةشهر ربيع الأول

حديث الجمعة 355: إنتاج الفتن الطائفية – لكي ينجح أي حوار لمعالجة الوضع السياسي المأزوم

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وأفضل الصَّلوات على سيِّد الأنبياء والمرسلين محمَّدٍ وعلى آله الهداة المعصومين، وبعد فمع أكثر من عنوان:


إنتاج الفتن الطائفية:
وجود المذاهب إذا كان تعبيرًا عن (اختلافات اجتهادية) فالمسألة تمثل ظاهرة لا ضير فيها، فمن حق أي إنسان أن يشكِّل انتماءه الديني والمذهبي والثقافي والسياسي وفق ما تتوفر لديه من (قناعات) نعم مطلوب جدًا أن تصاغ هذه القناعات وفق أسس مدروسة، وليس انطلاقا من (عصبيات) و(مزاجات) وأهواء ومصالح ذاتية…


ومشروع أيضا أن تتحرك (الحوارات) بين أصحاب القناعات والانتماءات والاجتهادات، إذا توفرت هذه الحوارات على شروطها العلمية الصحيحة.
أمَّا المرفوض فهو أن تتحول (الانتماءات الدينية والمذهبية والثقافية والسياسية) إلى خلافات وصراعات، وعداوات، ومواجهات، وحروب، وفتن، ودماء.


هذا ما تسعى إليه القوى المعادية لهذه الأمة، وحينما نتحدث عن قوى معادية لا نتحدث فقط عن قوى خارجية تخطط دائمًا لإضعاف المسلمين، والهيمنة على كل مقدراتهم، وثرواتهم، وأمنهم، وسياساتهم، فهذا من أوضح الواضحات.


وإنما نتحدث عن مواقع في داخل مجتمعات المسلمين تمارس أسوء الأدوار في تمزيق وحدة المسلمين، و تأزيم أوضاعهم، وإشعال الفتن والصراعات في داخلهم.


من هذه المواقع أنظمة حكم وسياسة، لا نتهم كل الأنظمة، ولكن من الواضح جدًا أن الكثير من كيانات الحكم في مجتمعات المسلمين تمارس أسوء الأدوار في إنتاج الفتن الدينية والمذهبية والسياسية.


ربما يُقال: وما مصلحة الكيانات في خلق الفتن والصراعات في أوساط شعوبها، أليس الوحدة والتقارب والتآلف بين مكونات الأوطان هو الأصلح لهذه الأنظمة الحاكمة؟


لا شك أن التماسك الداخلي بين مكونات الشعوب هو الأصلح للأوطان، وللشعوب، وللأنظمة الحاكمة نفسها.


إلا أن بعض أنظمة الحكم والسياسة إذا كانت من النوع الذي يمارس الظلم والاستبداد والفساد والتمييز تجد في الصراعات بين مكونات الشعوب ما يحافظ على وجودها، فشعوب تلهيها الصراعات والخلافات لا تجد متسعًا لكي تتصدى لفساد الأنظمة الحاكمة، بخلاف ما إذا توحدت المكونات والأطياف لتشكل قوى تواجه الأوضاع الفاسدة والخاطئة التي تعيشها سياسات الحكم.


من هنا نفهم لماذا تصر بعض الأنظمة الحاكمة على إذكاء الفتن الدينية والمذهبية والطائفية والسياسية مادام في ذلك حماية لبقاء الأنظمة.
ما شهده واقع المسلمين عبر التاريخ من صراعات طائفية ومذهبية أغلبه هو من (إنتاج السياسة الحاكمة) لا نلغي وجود عوامل وقوى أخرى مارست دور الترويج لهذا الإنتاج السياسي كما سنذكر ذلك في سياق هذا الحديث، إلَّا أن العامل الأقوى هو أهواء السياسة الحاكمة.


إذا كان إنتاج الصراعات بين مكوِّنات الأمَّة يحقق لبعض أنظمة الحكم شيئًا من المكاسب، فإنه في الوقت ذاته يشكل إرباكًا لها، واستنزافًا للكثير من قدراتها، فمن الغباء السياسي أن تفرح أنظمة الحكم بتوتر العلاقات بين مكونات شعوبها، وبالمعارك التي تغذيها نزوات المتسلطين والحاكمين.
إن المصالح الحقيقية للشعوب، وللأوطان، ولأنظمة الحكم هي أن تتعاون الجهود لخلق التلاحم والتآلف والتقارب، وأن تتآزر القدرات لمواجهة كل العوامل والأسباب التي تزرع الفتن والخلافات والصراعات.


إذا كان لبعض الأنظمة دورها في خلق الفتن والصراعات فإن (خطاب التكفير والكراهية) له أثره الكبير جدًا في الدفع بهذه الفتن والصراعات.
ويتمثل هذا الخطاب فيما يصدر عن:


1) الإعلام الرسمي أو شبه الرسمي:
الفارق كبير جدًا بين إعلام صالح ونظيف وإعلام فاسد وملوَّث…
النط الأول من الإعلام يبني، ويصلح، ويوحِّد، وينشر المحبة والتسامح…
والنمط الثاني من الإعلام يهدم، ويفسد، ويفرق، ويحرض على الكراهية والتطرُّف…  
فأنظمة الحكم الصالحة من الطبيعي أنها تتبنى إعلاما صالحًا، بعكس الأنظمة الفاسدة فإنها تتبنى إعلامًا فاسدًا، فكم أنتج الإعلام الفاسد من ويلاتٍ على الشعوب، والأوطان، ومن فتن، ومحن، وصراعات، وأزمات.


2) المنابر الدينية:
فكم تلعب دورًا خطيرًا هذه المنابر، فهي قادرة أنْ تنشر المحبة بين الناس، وأن تؤسس للتقارب والتآلف، وأن تدفع في اتجاه الاعتدال والتسامح…
كما هي قادرة حينما تكون منابر متطرفة أن تزرع الكراهية، وأن تؤسس للتباعد والتخالف، وأن تدفع في اتجاه التطرف والتشدد والتعصب، فكم صنعت هذه المنابر المتطرفة التكفيرية من ويلاتٍ، وكوارث مدمرة، وكم أنتجت من حروب ومعارك بين المسلمين، وكم سفكت من أرواحٍ ودماءٍ، وكم هتكت من أعراض، وكم دنَّست من مقدَّسات، وكم خلقت من رعبٍ، وعنفٍ، وتطرفٍ، وإرهاب…
فما أحوج المرحلة إلى منابر دينية صادقة، تحمل رسالة الدين الحق، وهي رسالة الوحدة، والألفة، والمحبة، والتسامح، وليس إلى منابر توظف الدِّين توظيفًا مزورًا، وتتاجر بقيَمِه وأحكامه في مزادات السِّياسة الطائشة، وتستخدم شعاراته من أجل أغراض مشبوهة، وتسوِّق فتاواه لكي تنشر الفساد في الأرض، ولكي تقتل الأخوة والمحبة بين المسلمين، ولكي تستبيح الدماء والأعراض والأموال…


3) المنابر السِّياسية:
وهذه المنابر هي الأخرى تلعب دورًا كبيرًا في إنتاج الوحدة أو الفرقة، وفي صنع المحبة أو الكراهية، وفي الدعوة إلى الأمن والسلم والاستقرار أو الرعب والعنف والإرهاب…
السِّياسة الحقَّة، والبصيرة والنظيفة تنتج منابر حقَّة و بصيرة ونظيفة، والعكس هو العكس.
وهكذا يلتئم خطاب الإعلام، ومنابر الدِّين، ومنابر السِّياسة إمَّا في خط الصلاح والإصلاح أو في خط الفساد والإفساد، وربما تخالفت في هذا الخط أو ذاك.



لكي ينجح أي حوار لمعالجة الوضع السياسي المأزوم:
لكي لا تتكرر التجارب الفاشلة، ولكي لا يتكرَّس اليأس والإحباط يحتاج أي حوار في الشأن السِّياسي، ومن أجل معالجة الأوضاع المأزومة إلى مجموعات مرتكزات:


• المرتكز الأول : الثقة المتبادلة:
فمتى غابت الثقة فالإفلاس والفشل والتعثر هو مصير أي حوار، بل لا يمكن أن يتحرك حوار ما دامت الثقة غائبة، صحيح ليس مطلوبًا لكي ينطلق التواصل والتفاهم أن تقتلع كل الهواجس والشكوك فلا يقتلعها إلَّا المتغيرات الحقيقية على الأرض.
المطلوب أنْ تتشكل نسبة من الثقة تسمح بدرجة من الانفتاح، يهيئ إلى المزيد من الاقتراب، والتواصل…
فلا يشترط في بدء أي حوار توفر الثقة المطلقة ولا يمكن أن يبدأ حوار في ظل غيابٍ مطلقٍ للثقة.


• المرتكز الثاني: الأجواء الملائمة:
فكلّما كانت الأجواء أكثر ملائمة وتهيئًا كان ذلك عاملا مهمًا لنجاح الحوار، وكلّما كانت الأجواء مشحونة بالملبدات والموترات والمشنجات كان ذلك عاملا سلبيًا لحركة الحوار…
ومَنْ المسؤول عن خلق الأجواء الملائمة؟
قد يقال: إن جميع الأطراف مسؤولة عن ذلك هذا صحيح، إلَّا أنَّ الطرف الأقوى والأقدر على إنتاج الأجواء الملائمة هو النظام، كونه يملك كل الأدوات، ويملك كل أسباب التهدئة، فالقبضة الأمنية بيده، والسجون بيده، والمحاكمات بيده، والإعلام بيده…


• المرتكز الثالث : خارطة طريق واضحة:
حوار لا تحكمه خارطةُ طريق واضحة ترتبك مساراتُه وتتيه دروبُه، وتتعثر خطواتُه، وتتعقد لقاءاتُه، وحينما نتحدث عن خارطة طريق واضحة، نتحدث عن الخطوط العامة لحركة الحوار، وليس عن العناوين التفصيلية، فتلك متروكة لمجريات الحوار.
فإذا غابت خارطة الطريق، أو تعددت الرؤى في رسم خطوطها، فمن الطبيعي أنْ يتلكأ الحوار ومن الطبيعي أن يفشل الحوار.


• المرتكز الرابع:الحل السِّياسي الشامل:
حوار لا ينتج حلًا سياسيًا شاملًا قادرًا على إنقاذ البلد من أوضاعه المأزومة هو حوار فاشل، وهو حوار يخلق مزيدًا من التأزيم والتعقيد…


وهنا يأتي دور الشعب ليقول كلمته في منتجات الحوار، فالشعب هو صاحب القرار، ولا يمكن أن يفرض حل لا يرتضيه الشعب أو غالبية الشعب…
صحيح أن القوى السِّياسية المشاركة في الحوار بعضها يعبر عن إرادة الشعب، إلَّا أنَّ هذا لا يسحب من الشعب حقّه في أن يقول كلمته في قبول أو رفض ما ينتج عن الحوار، بل لا يجوز لقوى الحوار أن تتجاوز إرادة الشعب ومصالحه وحقوقه…
في ضوء هذا المرتكز الأخير لا يمكن القبول بحلول ترقيعية، وبإصلاحات جزئية لا تلبي طموحات هذا الشعب، ولا تستجيب لجميع مطالبه المشروعة، وحقوقه العادلة.


وآخرُ دعوانا أن الحمدُ للهِ ربِّ العالمين.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى