حديث الجمعةشهر شعبان

حديث الجمعة 432: النَّاسُ في تعاطيهم مع هذا الشهر الفضيل على ثلاثةِ أصناف – ظواهر في حاجة إلى ترشيد – الحكمِ على الأمينِ العام لجمعية الوفاقِ (1)

بسم الله الرَّحمن الرَّحيم
الحمد للهِ ربِّ العالمين وأفضلُ الصَّلواتِ على سيِّد الأنبياءِ والمرسلين محمَّدٍ وعلى آلِهِ الهداةِ الميامين، وبعد فنحن على أعتاب الشهر الفضيل، نسأله تعالى أنْ يُبلِّغَنا صِيَامَهُ وقيامَهُ وأداءَ بعضٍ مِن حقوقِهِ، وبهذه المناسبة أتناول هذه الكلمات:

الكلمةُ الأولى:
النَّاسُ في تعاطيهم مع هذا الشهر الفضيل على ثلاثةِ أصناف:
(الصِّنفُ الأول) الأشقياءُ:
وهم المحرومُونَ من عطاءاتِ وفيوضاتِ هذا الشهر العظيم.
•في الخطبة الرمضانية للنبيِّ (صلَّى الله عليه وآلِهِ وسلَّم) نقرأ هذا المقطع:
«فإنَّ الشَّقيَ مَنْ حُرِمَ غُفرانَ اللهِ في هذا الشَّهرِ العظيم».
فما أسوءَ الإنسانَ يُدْرِكُ هذا الشَّهرَ شهرَ الرحمةِ والبركةِ والمغفرةِ والرِّضوانِ والفيضِ والعطاءِ ولا يكونُ مُوفَّقًا لشيئٍ مِن عطاءاتِهِ، فأيُّ حُرْمانٍ وأيُّ خسرانٍ هذا، وأيُّ شقاء؟
•في كلمةٍ له (صلَّى الله عليه وآلِهِ وسلَّم):
«مَنْ أدركَ شهر رمضانَ ولم يُغفْر له فلا غفر الله له، ومن أدرك أبويه ولم يُغفْر له فلا غفر الله له، ومَنْ ذُكرتُ عنده ولم يُصلِّ عليَّ فلا غفر الله له».

(الصِّنفُ الثاني) المغبُونُونَ:
وهم الَّذينَ يُضيِّعونَ الكثيرَ مِنْ فُرَصِ هذا الشهرِ الفضيل في تحصيل الأرباح الأخروية ويكتفون بالقَليلِ القليلِ تكاسُلاً وانشغالًا بما لا يعُودُ عليهم بالأجر والثواب.
•في الكلمةِ لأمير المؤمنين (عليه السَّلام):
«التقصيرُ في حُسْنِ العملِ إذا وثقت بالثواب عليه غُبنٌ».
وهل هناك أوثق بالثواب على عملٍ في شهر الله الفضيل؟

نقرأ هذه المقاطع من خطبة النبيِّ (صلَّى الله عليه وآلِهِ):
•«مَنْ فطَّر منكم صائمًا مؤمنًا في هذا الشهر كان له بذلك عند اللهِ عِتقُ نسمةٍ ومغفرةٌ لما مضى مِن ذنوبه.
فقيل: يا رسول الله وليس كُلُّنا يقدر على ذلك.
فقال (صلَّى الله عليه وآلِهِ): اتقوا النَّار ولو بشقِّ تمرة، اتقوا النَّار ولو بشربة ماءٍ».
•«مَنْ تطوَّع فيه بصلاةٍ كتب الله له براءة من النَّار».
•«مَنْ حسَّنَ منكم في هذا الشهر خُلَقَه كان له جواز على الصَّلاة يوم تزل فيه الأقدام»
•«مَنْ أكثر فيه مِن الصَّلاة عليَّ ثقَّل الله ميزانَه يوم الحساب».
•«مَنْ تلا فيه آية مِن القرآن كان له مثل أجر مَنْ ختم القرآن في غيره من الشهور».
فكم هو مغبونٌ مغبونٌ مَنْ يُقصِّر في اكتساب هذه العطاءات الرَّبانية الكبيرة جدًّا مقابل جهد ضئيل ضئيل، «المغبون مَنْ شُغل بالدُّنيا، وفاته حظُّهُ من الآخرة» كما عن أمير المؤمنين (عليه السَّلام).
فحظوظ الآخرة في هذا الشهر كبيرة، فلا تشغلنا الدُّنيا عنها فنكون من المغبونين وبعدها الندامة كلّ الندامة والحسرة كلّ الحسرة.

(الصِّنفُ الثَّالث) الفائزون الرَّابحونَ:
وهؤلاءِ على درجاتٍ، فهنيئًا للمتنافسين على هذه الدَّرجات، بما لها من مقاماتٍ عالية ورفيعة في يوم الجزاء ﴿إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * عَلَى الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ * تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ * يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ * خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ * وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ * عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ﴾ [المطففين/22-28]
– الأبرار: الصَّالحون المطيعون لله.
– نعيم: أعدَّ الله لهم كلَّ ألوان النعمة واللذائذ.
– الأرائك: جمع أريكة وهي السَّرير، وفي آية أخرى يقول تعالى في وصف أثاث الجنَّة: ﴿فِيهَا سُرُرٌ مَّرْفُوعَةٌ * وَأَكْوَابٌ مَّوْضُوعَةٌ * وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ * وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ﴾ [الغاشية/13-16]
(النمارق: الوسائد، مصفوفة: مهيئة، الزَّرابيُّ: البسط التي تفرش على الأرض، مبثوثة: كثيرة ومنتشرة في كلِّ موضع).
– ينظرون: إلى ما أعطوا من النعيم والكرامة.
وقيل: ينظرون إلى عدّوهم حين يُعذبون.
– نضرة النعيم: بما يُرى في وجوههم من النور والحسن والبياض والبهجة.
– رحيق مختوم: وهو الشراب الخالص المصفَّى الذي لا غش فيه ولا كدر، وهو مصون لا يمسّه أحد ولا يفتح إلَّا عند الشرب، والختم من المسك ممَّا يعطي لهذا الشراب عطرًا ينعش الروح.
•في الحديث: «مَنْ صام للهِ في يوم صائفٍ سقاه الله على الظمأ من الرحيق المختوم».
•وفي وصية النبيِّ (صلَّى الله عليه وآلِهِ وسلَّم): «ومَنْ ترك الخمر لله سقاه الله من الرحيق المختوم».
– ومزاجُهُ من تسنيم: ويمزج ذلك الشراب بماء من عين في الجنة تسمى (تسنيم) وهو أشرف شراب في الجنَّة.

أيُّها الأحبَّة: إنَّ شهر الله هو شهر التنافس على درجات القرب من الله تعالى، فالبدار البدار قبل فوات الأوان، أنفاسكم في هذا الشهر تسبيح، وعملكم فيه مقبول، ودعاؤكم فيه مستجاب…

الكلمة الثانية:
ظواهر في حاجة إلى ترشيد:
الظاهرة الأولى: الإسراف في الأكل والشرب
إنَّ موائد هذا الشهر الغنيَّة بألوان الأطعمة وبما لذَّ من المأكولات والمشروباتِ تفتح شهية الكثيرين، إلى حدِّ (النَّهم)، فلا يملكون القدرة على ضبط أنفسهم، والاعتدال في أكلهم وشربهم فيتحوَّلون إلى (مسرفين) مأسورين إلى نداءات البطن.
•قال تعالى في سورة الأعراف: ﴿وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾ [الأعراف/31]
الإسراف: تجاوز الاعتدال.
وقد حذَّرتْ الروايات من كثرة الأكل:
•عنه (صلَّى الله عليه وآلِهِ وسلَّم): «لا تُميتُوا قلوبكم بكثرة الطعام والشّراب، فإنّ القلب يموت كالزّرع إذا كثر عليه الماء».
•وعنه (صلَّى الله عليه وآلِهِ وسلَّم): «إيّاكم والبطنة، فإنّها مفسدة للبدن، ومورثة للسقم، ومكسلة عن العبادة»
•وعنه (صلَّى الله عليه وآلِهِ وسلَّم): «ليس شيئٌ أبغض إلى الله من بطنٍ ملآن».
•وجاء عن المسيح (عليه السَّلام): «يا بني إسرائيل لا تكثروا الأكل، فإنَّ من أكثر الأكل أكثر النوم، ومن أكثر النَّوم أقلَّ الصَّلاة، ومَنْ أقلَّ الصَّلاة كُتِبَ من الغافلين».
•وعن أمير المؤمنين (عليه السَّلام): «إيَّاكم والبطنة فإنَّها مقساة للقلب، مكسلة عن الصَّلاة، مفسدة للجسد».
•وجاء عن لقمان الحكيم: «إذا امتلأت المعدة نامت الفكرة، وخرست الحكمة، وتراخت الأعضاء عن العبادة»

الظاهرة الثانية: التبذير في الموائد الرمضانية
•قال تعالى في سورة الإسراء: ﴿وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا﴾ [الإسراء/26-27]
التبذير: هو هدرُ المال في غير موضعه، أو صرفه بطريقة غير مسؤولةٍ، وفائضة عن الحاجة، ممَّا يجعل الفائض تالفًا لا يستفاد منه.
•يُروى أنَّ النبيَّ (صلَّى الله عليه وآلِهِ وسلَّم) مرَّ بسعدٍ وهو يتوضأ فقال: «ما هذا السَّرف يا سعد؟».
قال سعد: أفي الوضوء سَرَفٌ؟
قال (صلَّى الله عليه وآلِهِ وسلَّم): «نعم وإنْ كنت على نهرٍ جارٍ».
•وفي رواية عن الإمام الصَّادق (عليه السَّلام) أنَّه دعا برطب (لضيوفه) فأقبل بعضُهم يرمي بالنوى، فقال (عليه السَّلام): «لا تفعلْ إنَّ هذا من التبذير، وإنَّ الله لا يحبُّ الفساد».
فما يلاحظ في الموائد الرَّمضانية لدى البعض أنَّ فائضًا من الطعام يكون مصيره إلى القمامة، وفي هذا استنزاف للمال، وهدرٌ له في غير حاجة، نعم لو كان هذا الفائض يذهب إلى الفقراء والمحتاجين، ما كان إسرافًا وتبذيرًا.

الظاهرة الثالثة: التفريط في الأوقات
ومن مظاهر التفريط:
1-الإسراف في النوم:
البعض بذريعة أنَّه صائم يسرف إسرافًا ملحوظًا في النوم، لا شكَّ أنَّ هناك مقدارًا من النوم يُشكل حاجة، فإذا تجاوز هذا المقدار كان إسرافًا في النوم.
•في الحديث عن النبيِّ (صلَّى الله عليه وآلِهِ وسلَّم): «إيَّاكم وكثرة النوم فإنَّ كثرة النوم يدع صاحبه فقيرًا يوم القيامة».
•عن الإمام الباقر (عليه السَّلام) أنَّ موسى (عليه السَّلام) قال سائلاً ربَّه: «أيّ عبادك أبغض إليك؟»
قال: «جيفةٌ بالليل بطَّال بالنَّهار».
•وعن الإمام الكاظم (عليه السَّلام): «إنَّ الله جلَّ وعزَّ يبغض العبدَ النّوام الفارغ».
•وعن الإمام الصَّادق (عليه السَّلام): «كثرة النَّوم مذهبة للدِّين والدُّنيا».

رُبَّ قائل: أليس النبيّ (صلَّى الله عليه وآلِهِ) يقول: «ونومكم فيه عبادة».
هذا صحيح ما لم يكن في هذا النوم إسرافٌ وتفريط بما هو أهمّ، كالتفريط بصلاة الليل، والتهجد في الأسحار، أمَّا إذا أدَّى النوم إلى التفريط بفريضة الصبح فالأمر أسوء.

2-السَّهرات في ليالي شهر رمضان:
ويمكن تصنيف السَّهرات الرمضانية إلى:
‌أ-السَّهرات المحرَّمة: حفلات الغناء والطرب واللهو المحرم، جلسات القمار والألعاب المحرمة، مجالس البهتان والغيبة والوقيعة بالمؤمنين والإضرار بالناس، ومجالس أهل البدع.
•عن أمير المؤمنين (عليه السَّلام): «مجالسُ اللهو تُفسِدُ الإيمان».
•وعنه (عليه السَّلام): «مجالسة أهلِ اللهو ينسي القرآن، ويحضر الشيطان».
•وعنه (عليه السَّلام): «لا تفنِ عمرك في الملاهي فتخرج من الدُّنيا بلا أمل».
•عنه (صلَّى الله عليه وآلِهِ وسلَّم): «مَنْ ردَّ عن أخيه غيبة سمعها في مجلس ردَّ الله عزَّ وجلَّ عنه ألف باب من الشرِّ في الدُّنيا والآخرة، فإنْ لم يردّ الله عزّ وجلّ عنه ألف باب من الشرّ في الدّنيا والآخرة، فإنْ لم يردّ عنه وأعجبه كان عليه كوزر مَنْ اغتاب».
•وعنه (صلَّى الله عليه وآلِهِ وسلَّم): «مَنْ أتى ذا بدعةٍ فَوقَّره فقد سعى في هدم الإسلام».

‌ب-السَّهرات الاستهلاكية التي تقتل الوقت بلا عطاء ولا فائدة.
الوقت يحمل كلَّ القيمة فحذارِ حذارِ من التفريط به وإضاعته، فهو جزءٌ من عمرك أيُّها الإنسان.
•عن النبيِّ (صلَّى الله عليه وآلِهِ وسلَّم): «اغتنم خمسًا قبل خمس: شبابكَ قبل هرمِكَ، وصحَتكَ قبلَ سقمِكَ، وغناكَ قبل فقرك، وفراغَكَ قبلَ شُغلِكَ، وحياتَكَ قبل موتك».
•وعن أمير المؤمنين (عليه السَّلام): «إنَّما أنت عدد أيام، فكلّ يومٍ يمضي عليك، يمضي ببعضك».
•وعنه (عليه السَّلام): «مَنْ شغل نفسه بما لا يجب ضيع من أمره ما يجب».
•وعنه (عليه السَّلام): «لو اعتبرت فيما أضعت من ماضي عمرك لحفظت ما بقي».
‌ج-السَّهرات المشروعة الهادفة:
(مجالس العلم والمعرفة، مجالس الأنشطة الدينية، مجالس القرآن والذكر، التهجُّد بالأسحار)
هذه سهراتٌ عبادية مباركة، في شهر مبارك (أيامه أفضل الأيام، ولياليه أفضل الليالي، وساعاته أفضل الساعات)، فأكثروا فيه من الذكر والعبادة والطاعات…
•قال النبيُّ (صلَّى الله عليه وآلِهِ وسلَّم): «نزل جبرئيل إليَّ وقال لي: يا محمد! ربُّك يقرئك السَّلام، ويقول لك: كلّ ساعةٍ تذكرني فيها فهي لك عندي مذَّخرة، وكلّ ساعةٍ لا تذكرني فيها، فهي منك ضائعة».

الكلمة الأخيرة:

بكلِّ أسفٍ تلقينا نبأَ تغليظِ الحكمِ على الأمينِ العام لجمعية الوفاقِ سماحة الشيخ علي سلمان، الأمر الَّذي يُشكِّلُ تصعيدًا ما كُنَّا نتمنَّاهُ في مرحلةٍ ازدحمتْ بتعقيداتٍ سياسيةٍ وأمنيةٍ مُقلقةٍ، تتَّجه بأوضاع المنطقةِ إلى مآلاتٍ بالغةِ الصُّعوبةِ، فكان المطلوبُ أن تكونَ الخطواتُ متحركةً نحو التخفيف من التأزماتِ والتوتراتِ والاحتقانات، لا أنْ تدفع في اتجاه المزيد منها.
إنَّ شخصًا في حجم الشيخ علي سلمان بكلِّ رصيدِهِ الشَّعبي، وتأريخِهِ السِّياسي السِّلمي، ومواقفِهِ المعتدلةِ، وكما أكَّدتْ ذلك منظماتٌ دوليةٌ، وكما هي شهاداتُ كلِّ المُنصفين من العاملين في الحقل السِّياسي والحقوقي، إنَّ شخصًا هذا وزنُهُ وثِقلُهُ وتأريخُهُ، وأمثَالَهُ من الرموزِ السِّياسية والوطنية ليس صحيحًا أنْ يكون موقُعُهم خلف القضبان، مهما كانت الذَّرائعُ والمبرِّراتُ، الصَّحيح أنْ يكونَ موقعُهمْ في السَّاحةِ ليمارسُوا دورَهُمْ بكلِّ حريةٍ في خدمةِ أهدافِ الوطنِ الكبرى، وفي الدِّفاعِ عن قضاياه العادلةِ، وفي حمايةِ وحدةِ هذا الشعب بكلِّ طوائفِه ومذاهبِهِ ومكوِّناتِهِ، وفي تحصينِ هذا البلدِ من كلِّ أشكال التوتر والتأزم والانفلات.
إنَّ استمرار بقاء الشيخ علي سلمان في السِّجن وكذلك استمرار الرموز الدينية والسِّياسية هو استمرار لبقاء الأزمة، التي نتطلع جميعًا أنْ يكون لها نهاية، من خلال مُعالجاتٍ جَادَّةٍ تحقق الإصلاح والمصالحة، وليس مِن خلال خيارات تكرِّس الأوضاع المأزومة، وتقتل كلَّ أملٍ في الانفراج.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى