حديث الجمعةشهر شوال

حديث الجمعة 401: هكذا علَّمنا شهرُ الصيام – ما أحوج الأوطان إلى ثقافة المحبَّة والتسامح

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربِّ العالمين، وأفضل الصلوات على سيِّد الأنبياء والمرسلين محمد وعلى آله الهداة الميامين وبعد فمع أكثر من عنوان:


هكذا علَّمنا شهرُ الصيام:
شهرُ الصيام شهر استثنائي له خصائصه التي لا يشاركه فيها أيُّ شهر آخر، رغم أهمية كل الشهور.
شهر رمضان هو شهر الله.
وهو شهر الصيام والقيام.
وهو شهر الرحمة والمغفرة.
وهو شهر القرآن.


فماذا علَّمنا شهر الصيام؟
(1)  علَّمنا شهر الصيام أن نعيش الطهارة بكلِّ معانيها:
ومن أبرز مظاهر هذه الطهارة « الطهارة الروحية » طهارة النوايا والقلوب «فاسألوا ربَّكم بنياتٍ صادقة وقلوب طاهرة»، ومتى صدقت النوايا وطهرت القلوب تأسَّس الإنسانُ النظيفُ الذي لا ينافقُ، ولا يخادعُ، ولا يتلوَّن، وهلْ مأساةُ الإنسانِ في هذا العصر، وفي كلِّ العصور إلا (التبرقعُ) بالبراقعِ الكاذبةِ والمزيَّفةِ و(التمظهُر) بالمظاهر المزوَّرة والمنافقة، في هذا الزمان أصبح الناسُ كما جاء في الروايات:
• «لبسوا جلودَ الضَّأنِ على قلوب الذئاب، وقلوبهم أنتن من الجيف وأمرُّ من الحنظل».
• «وجوههم جميلة وضمائرهم رديئة، فمن رآهم اعجبوه، ومن خالطهم ظلموه».
• «كلامهم أحلى من العسل وقلوبهم أمرُّ من الحنظل».
ما هكذا أراد لنا شهر الصيام، وما هكذا أرادت لنا قيم العيد.
أراد لنا شهر الصيام، وأرادت لنا قيم العيد أن نعيش نظافة النوايا والضمائر والقلوب
• في الحديث: «من بات وفي قلبه غشٌ لأخيه المؤمن، بات في سخط الله، وأصبح في سخط الله، وإن مات على ذلك مات على غير دين الله».
فإن تخرجنا من مدرسة الصيام، ومن مدرسة العيد، ونحن أنقى نوايا وأطهر قلوبًا، وأنظف ضمائر، فنحن الصائمون حقيقةً، نحن المشمولون بنفحات العيد.
إذا تصافحنا في العيد، وفي كل وقت ليكن تصافحنا هو تصافح القلوب قبل أن تتصافح الأيدي.
فلا قيمة أن تتلاقي الأكف، والقلوب متنافرة ومتدابرة..
• إذا كنَّا نقرأ في الأحاديث أنَّ: «مصافحة المؤمن أفضل من مصافحة الملائكة».
• وإذا كنَّا نقرأ في الأحاديث أنَّه: «ما تصافح إخوان في الله عزَّ وجلَّ إلا تناثرت ذنوبهما حتى يعودان كيوم ولدتهما أمهما».
أيُّ تصافح هذا؟
إنَّه التصافح المعبَّأ بالحبِّ الإيماني الصادق، وليس التصافح المملوء بالنفاق والغش والكراهية.
 
أيُّها الأحبَّة:
إذا التقت ابتساماتُنا ونحن نتبادل التهاني، فلتكنْ ابتسامات صادقة ونظيفة.
• فإذا كنَّا نقرأ في الأحاديث أنَّ «تبسُّم المؤمن في وجه أخيه حسنة».
هذا التبسُّم يحمل قيمة الصَّلاة، والدعاء، والتلاوة، ويحمل قيمة الصيام، وقيمة الحج والعمرة والزيارة.
أيُّ تبسُّمٍ هذا؟
التبسُّم الكاذب المنافق؟
التبسُّم الذي يُخبأ كل أشكالِ العداوة والكراهية والضغينة؟
التبسُّم الذي يخطِّط للتآمر، والطعن والاعتداء؟
التبسُّم العبادة، هو الصادق كلَّ الصدق، هو الطاهر كل الطهر، هو النظيف كل النظافة، ومتى يكون التبسُّم صادقًا وطاهرًا ونظيفًا؟
حينما تصوغه نوايا صادقةٌ، وقلوبٌ طاهرةٌ، وضمائر نظيفة؟
ومتى تكون النوايا صادقةً، والقلوب طاهرةً، والضمائر نظيفةً؟
تكون كذلك حينما تكون منتوجُها (الحبُّ في الله).
• قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله:
«أوثق عرى الإسلام أن تُحبَّ في الله وتبغض في الله».
• وقال صلَّى الله عليه وآله:
«أفضل الأعمال الحبُّ في الله والبغض في الله تعالى».
• وقال صلَّى الله عليه وآله:
«الحبُّ في الله فريضة والبغض في الله فريضة».
• وقال صلَّى الله عليه وآله:
«أفضل الناس بعد النبيين في الدنيا والآخرة المحبون لله، المتحابون فيه».
• وقال رسول الله صلَّى الله عليه وآله:
« المُتَحابّونَ فِي اللهِ عَزَّ وجَلَّ عَلى أعمِدَةٍ مِن ياقوتٍ أحمَرَ فِي الجَنَّةِ ، يُشرِفونَ عَلى أهلِ الجَنَّةِ ، فَإِذَا اطَّلَعَ أحَدُهُم مَلَأَ حُسنُهُ بُيوتَ أهلِ الجَنَّةِ ، فَيَقولُ أهلُ الجَنَّةِ : اُخرُجوا نَنظُرِ المُتَحابّينَ فِي اللهِ عَزَّ وجَلَّ. 
قالَ: فَيَخرُجونَ ويَنظُرونَ إلَيهِم ، أحَدُهُم وَجهُهُ مِثلُ القَمَرِ في لَيلَةِ البَدرِ ، عَلى جِباهِهِم (هؤُلاءِ المُتَحابّونَ فِي اللهِ عَزَّ وجَلَّ) ».
• قال الإمامُ الصَّادقُ عليه السَّلام:
«إنَّ المتحابِّين في اللهِ يومَ القيامةِ على منابِرَ مِن نورٍ، وقدْ أضاءَ نورُ وجوهِهم، ونورُ أجسادِهم، ونورُ منابِرهم كلَّ شيئٍ، حتَّى يُعَرَفُوا به، فيُقال: هؤلاءِ المُتَحابُّونَ في الله».
• قال الإمامُ زين العابدين عليه السَّلام:
«إذا جمع الأوَّلينَ والآخرين نادى منادٍ بحيث يسمعُ النَّاسُ فيقول: أين المتحابُّون في الله؟
فيقوم عُنُقٌ مِن النَّاسِ فيقال لَهُمْ: اذهبوا إلى الجنَّةِ بغير حساب فتستقبلهم الملائكة فيقولون: إلى أين؟
فيقولونَ: إلى الجنَّةِ بغير حساب.
فيقولونَ: أيُّ حزبٍ أنتم مِن النَّاس؟
فيقولونَ: نحنُ المتحابُّون في الله.
فيقولونَ: فأيَّ شيئٍ كانت أعمالكم؟
فيقولون: كُنَّا نُحبُّ في اللهِ ونَبْغضُ في الله.
فيقولون: فنعم أجر العاملين».
 أيُّها الأحبَّة، نخلصُ إلى القول: بأنَّنا إذا استطعنا أن نتخرَّج من مدرسة الصيام، ومن مدرسة العيد ونحن نعيش (التحاببَ في الله) فقد حقَّقنا هدفًا أسمى من أهداف هذه المدرسة الربانية العظيمة.
وسُجِّلنا في قائمة الفائزين الرابحين بجوائز الربِّ الكريم، فيوم العيد هو يوم الجوائز.
• قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله:
«فإذا كانت ليلة الفطر، وهي تسمَّى ليلة الجوائز، أعطى الله العاملين أجرهم بغير حساب، فإذا كانت غداة يوم الفطر بعث الله الملائكة في كلِّ البلاد، فيهبطون إلى الأرض, ويقفون على أفواه السكك، فيقولون: يا اُمَّة محمَّد, اخرجوا إلى ربٍّ كريم، يُعطي الجزيل ويغفر العظيم».
• وفي حديث آخر عنه صلَّى الله عليه وآله:
« إذا كان أوّل يوم من شوّال ، نادى منادٍ: أيُّها المؤمنون أُغدوا إلى جوائزكم ثمّ قال: يا جابر جوائز الله ليست كجوائز هؤلاء الملوك ثمّ قال: هو يوم الجوائز .. ».
فما هي هذه الجوائز الربانية؟
إنَّها عوائد الله على عباده من الرحمة والغفران.
• جاء في الحديث:
«سمي العيد عيدًا لكثرة ما يعود الله فيه على العباد من الرحمة والغفران».
للحديث تتمَّة إن شاء الله تعالى…


 


ما أحوج الأوطان إلى ثقافة المحبَّة والتسامح:
إذا كان شهر الله هو شهر المحبَّة والتسامح  فكم استطاعت أجواء هذا الشهر أن تقتلع الكراهية والشحناء من القلوب والنفوس؟
إذا كان هناك فشلٌ، فليس لأنَّ أجواء هذا الشهر الفضيل عاجزة، وإنَّما استعداداتنا نحن هي العاجزة، وهي المتخلفة، وهي الفاشلة، وكما هو الحال بالنسبة لكلِّ العبادات…


أيُّها الإخوة الكرام..
ما أحوج أوطاننا إلى ثقافة المحبَّة والتسامح، خاصَّة في هذا الزمن حيث انتشرت ثقافة الكراهية والتحريض والتكفير، هذه الثقافة التي انتجت فتنًا عمياء، أزهقت أرواحًا، وسفكت دماءً، وهتكت أعراضًا، ورمَّلت نساءً، ويتَّمت أطفالًا، ودمَّرت أوطانًا ومزَّقت شعوبًا…
هكذا تُنتج الفتنُ العمياءُ عنفًا، وتطرُّفًا، وإرهابًا، ودمارًا، وعبثًا، وفسادًا…
المشكلة حين يصبح الدِّين مزوَّرًا، وعندها نجد من يحتز رؤوس الناس باسم الدِّين.
ونجد من يفخِّخوون، ويفجِّرون، ويقتلون حتى المصلين الراكعين السَّاجدين، كل ذلك باسم الدِّين وطمعًا في الجنَّة، ومعانقةِ الحورِ العين.


هكذا تُمارسُ أسوءُ أشكال العنف والتطرُّف والإرهاب متمترسةً بشعارات الدِّين.
أيُّ دين هذا الذي يملأ الحياةَ فتنًا، ودمارًا، وعنفًا، وتطرفًا وإرهابًا؟ إنَّه ليس دين الله.
وإذا كنَّا نتحدَّث عن ثقافة مزوَّرةٍ أنتجت حروبًا، وصنعت تطرفًا وإرهابًا، فإنَّ هذه الثقافةُ ما كانت لتنمو، وما كانت لتنتج إرهابًا وإرهابيين، وتطرفًا ومتطرفين لولا حواضن مكنَّتْ لها، ووفَّرت لها البيئاتِ الملائمة، والمناخات المناسبة.
فالتصدِّي للتطرُّف والعنف والإرهاب لا يكون إلا بإنهاء أسبابه، وتجفيف كلّ حواضنه.


ومن يتحمَّل مسؤولية ذلك؟
• الجهة الأولى: أنظمةُ الحكم..
فهي تتحمَّل المسؤولية الأكبر، فبيدها (المناهج) و(الإعلام) و(كل المنابر الرسمية) فإذا نقَّت هذه المواقع من ثقافة التكفير، والتحريض، والكراهية، ومن كل منتجات التطرف والإرهاب..
وكذلك إذا كانت سياساتُ الأنظمة الحاكمة عادلةً، ومُنصفةً، ولا تمايز بين مُواطن ومُواطن، ولا بين طائفةٍ وطائفةٍ، ولا بين مكوِّنٍ ومكوِّنٍ..
فإنَّ هذا يؤسِّس لإنتاج المحبَّة والتسامح والتآلف والتقارب، وهذا هو الذي يحاصر ويدمِّرُ كل البيئات والحواضن التي تفرِّخ الإرهاب والإرهابيين والتطرُّف والمتطرفين…
 
• الجهة الثانية: منابر الدِّين والوعظ..
هذه المنابر دورها كبيرٌ وخطيرٌ، فهي تصوغ وعي النَّاس، وتغذيهم بقيم الدِّين، فإذا اعتمدت خطاب المحبَّة والتسامح والألفة والتقارب، وتحرَّرت من لغة الكراهية والتكفير والعصبية والتشدُّد ولم تزوِّر مبادئ الدِّين ولم تتاجر بشعاراته وتصدَّت لكلِّ أشكال التطرُّف.  فإنَّها بذلك تمارس دورها المقدس في تحصين المجتمعات من كل عوامل التمزق ومن كل أسباب العنف والتطرف، ومن كل منتجات الإرهاب…
 
• الجهة الثالثة: رجال الثقافة والسياسة ومؤسَّسات المجتمع..
فإذا مارس خطاب الثقافية والسياسة وإذا مارس خطاب المؤسَّسات الاجتماعية دوره في نشر قيم المحبَّة والتسامح والأخوَّة والتآلف، وفي تكريس قيم الخير والعدل، وفي زرع مبادئ الأمن والأمان، وفي تجذير الغيرة على الأوطان، كان خطابًا صالحًا، نظيفًا قادرًا أن يواجه كل أشكال العنف والتطرف، وأن يتحدَّى كلَّ صنَّاع العبث والإرهاب.
 
• الجهة الرابعة: جماهير الأمَّة..
هذه الجماهير هي المساحة الخصبة التي تحاول قوى التطرُّف أن تنفذ اليها، وأن تستغل الكثير من طيبتها، وجهلها، لتصنع منها أدوات عنف وإرهاب بأساليب خادعة ومضللة.
وبقدر ما تكون الجماهير محصَّنةً بدرجةٍ عالية من الوعي والبصيرة والرشد تكونُ قادرة على إسقاط كلِّ مشروعات الاختراق والعبث التي تحركها جماعات التطرف والتكفير، مستغلة الدِّين أسوء استغلال..
فدور الجماهير مهم جدًا في التصدِّي لعوامل التأزيم والتوتر في داخل المجتمعات، وإذا غاب هذا الدور أصبحت الأرضية مفتوحة لامتدادات التشكل الإرهابي الذي يحاول أن يسرق بعض أبناء هذه الأمَّة في غياب من الوعي والرشد.


فتحصين الأوطان في مواجهة كل أشكال التطرُّف والعنف والإرهاب يعتمد على تلاحم كل الجهود المخلصة، وإذا غاب هذا التلاحم، وغابت هذه الجهود تحول الجميع رعاة عنف وتطرف وصناع إرهاب ، شاءوا أم لم يشاؤوا، علموا أم لم يعلموا..


فما أحوج المرحلة بكل تحدياتها الصعبة والخطيرة إلى معالجة أزمات الأوطان وإنهاء كل أشكال التوترات والاحتقانات والصراعات، والدفع في اتجاه الإصلاحات الحقيقية، وتكثيف التواصل والتفاهم بين كل المواقع الفاعلة، هكذا يمكن مواجهة مخاطر المرحلة وتحدياتها، وعلى رأسها الاستنفار المجنون لمشروعات العنف والتطرف والإرهاب، هذه المشروعات التي باتت تهدِّد كل الأوطان وكل المكونات وكل الطوائف.


وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى