حديث الجمعةشهر صفر

حديث الجمعة187:كيف نقرأ الثورة الحسينيّة؟(4) – كلمات سريعة

بسم الله الرّحمن الرّحيم
الحمد لله ربِّ العالمين وأفضل الصّلوات على سيد الأنبياء والمرسلين محمدٍ وعلى آله الطيبين..
السّلام عليكم ورحمة الله وبركاته…


• عودة إلى حديث الثورة الحسينيّة:
أُعيد إلى ذاكرتكم المثال التاريخيّ الذي طرحته في حديثٍ سابق، حينما أمر يزيد أحد خطباء البلاط أن يصعد المنبر ليمارس إعلامًا مضادًا للثورة الحسينيّة… وامتثل الأمر، فتصدّى الإمام عليّ بن الحسين زين العابدين عليه السّلام فصاح به: «ويلك أيّها الخاطب اشتريت مرضاة المخلوق بسخط الخالق فتبوأ مقعدك من النّار».
ثمّ التفت الإمام إلى يزيد وقال له: «يا يزيد ائذن لي أن أصعد هذه الأعواد فأتكلّم بكلماتٍ لله فيهنّ رضًا، ولهؤلاء الجلساء فيهنّ أجرٌ وثواب».
هنا نقف بعض الوقت لنستلهم درسًا مهمًا…
هذا المثال التاريخيّ يضعنا أمام نمطين من الخطاب الدينيّ: خطابٌ يمالئ السلطان وخطابٌ يرضي الرّحمن…
الخطيب الأمويّ نموذجٌ لخطابٍ دينيٍّ ممالئٌ للسلطان [ممالئٌ للسلطان مسايرٌ للسلطان]
والإمام عليّ بن الحسين زين العابدين عليه السّلام نموذجٌ لخطابٍ دينيٍّ يرضي الرّحمن «فأتكلّم بكلماتٍ لله فيهنّ رضا».
هذا هو الفارق الواضح بين النمطين من الخطاب:
خطابٌ يرضي السلطان…
وخطابٌ يرضي الرّحمن….
والنمطان من الخطاب الدينيّ، ليسا نمطين في التاريخ فقط، بل هما نمطان يتكرّران عبر حركة الزّمن…. والواقع المعاصر حافلٌ بشواهد وشواهد لهذين النمطين من الخطاب: خطابٌ يوظّف الدّين توظيفًا يخدم أهداف الحكام، وخطابٌ يوظّف الدّين توظيفًا يخدم أهداف الدّين كما أرادها الله سبحانه.
وكلّما كانت الأمّة تملك درجةً أكبر من الوعي الدينيّ، والبصيرة الإيمانيّة، والرؤية السّياسيّة كانت أقدر على تشخيص هذين النمطين من الخطاب والتمييز بين أصحابهما…
أمّا حينما ينخفض الوعي الدّينيّ، والبصيرة الإيمانيّة والرؤية السّياسيّة عند النّاس فتختلط المعايير، وتشتبه العناوين، وتتيه القدرة على التمييز..
فلا غرابة أن يتحوّل – في نظر بعض النّاس– خطابٌ يمجّد أنظمة السّياسة وإن كانت ظالمة، خطابًا دينيًا، وخطابًا وطنيًا….
ولكي نوضّح المسألة أكثر، للتعرف على الفارق بين هذين النمطين من الخطاب الدينيّ نحاول أن نعالج بعض النقاط:


(1) الحديث هنا ليس عن الخطاب السّياسيّ أو الخطاب الثقافيّ، وإنّما عن الخطاب الذي يسمّى خطابًا دينيًا، وإن كانت قد تتداخل هذه العناوين، حيث أنّ الدّين يتّسع لكلّ مساحات الحياة..
إلّا أنّ ما يعنينا – هنا – الخطاب الذي يحمل الصّبغة الدّينيّة وإن تناول شأنًا سياسيًا أو شأنًا ثقافيًا أو شأنًا اجتماعيًا أو شأنًا اقتصاديًا أو أيّ شأنٍ آخر..


(2) صنّفنا الخطاب الدينيّ – انطلاقًا من المثال التاريخيّ الذي طرحناه – إلى نمطين:


النمط الأول:
الخطاب الدينيّ الذي يمالئ السلطان….
أمّا لماذا يمالئ هذا الخطاب السلطان؟
ربّما لكونه يعتقد بأنّ الدّين يفرض عليه طاعة السلطان..
وربّما لكونه موظفًا عند السلطان…
وربّما لكونه مأسورًا لإغراءات السلطان…
وربّما لكونه يخشى سطوة السلطان…
وربّما.. وربّما…
المهمّ أنّه يلبي رغبة السلطان، وينفذ أوامره ويستجيب لتوجيهاته، ولا يهمّ أن تكون هذه الرغبة، وهذه الأوامر، وهذه التوجيهات مطابقة لأحكام الله تعالى أو مخالفة ما دامت هي رغبة السلطان، وهي أوامر السلطان، وهي توجيهات السلطان….


النمط الثاني:
الخطاب الدينيّ الذي يحاول دائمًا أن يحقّق رضا الرحمن، ويستجيب لنداءات الدّين وأوامره ولا يهمّ بعد ذلك أن يرضى السلطان أو أن يغضب، أن يرضى النّاس أو أن يغضبوا، إذا قال الله، وقال السلطان فالقول قول الله «فلا طاعة لمخلوقٍ في معصية الخالق».


(3) ربّما حاول وعّاظ السلاطين، وعلماء البلاطات أن يزوِّروا أحاديث مكذوبةً على الدّين تحثّ على طاعة السلطان حتى لو انحرف، وحتى لو فسق، وحتى لو ظلم…
لذلك – وفق هذا التزوير – كان الإمام الحسين سبط رسول الله صلّى الله عليه آله خارجًا على السلطان، وحسب فتوى فقيه البلاط: «الحسين خرج عن حدّه فقتل بسيف جدّه».


قد يقال: إنّ الله سبحانه قد أمر بطاعة أولى الأمر حيث قال: «أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ».
وأولو الأمر هم الحكّام والأمراء….


نجيب عن ذلك:
لعلماء المسلمين ثلاثة أراء في تفسير أولى الأمر في هذا النص القرآنيّ:
الرأي الأوّل: أولو الأمر هم الأمراء والحكّام.


الرأي الثّاني: أولو الأمر هم العلماء الذين يُرجَع إليهم في الأحكام..
الرأي الثّالث: أولو الأمر هم الأئمّة الإثنا عشر من أهل البيت، وهذا الرأي الثّالث هو الذي يعتقده الشيعة الإماميّة، ولديهم أدلّة وافرة على ذلك، ليس هنا مجال الحديث عنها…
اكتفي بهذا الحديث الذي أورده المحدّث الحنفيّ الحاكم الحسكانيّ «وهو شيخٌ متقنٌ ذو عنايةٍ تامةٍ بعلم الحديث كما قال الذهبيّ في تذكرته» وذلك في كتابه المشهور (شواهد التنزيل 1: 149) بالإسناد إلى أبي بصير عن أبي جعفر [الإمام الباقر] سأله عن قول الله (أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) قال: نزلت في عليّ بن أبي طالب…


قلت: إنّ النّاس يقولون: فما منعه أن يسمّي عليًا وأهل بيته في كتابه؟
فقال أبو جعفر: قولوا لهم: إنّ الله أنزل على رسوله (ص) الصّلاة ولم يسمّ ثلاثًا ولا أربعًا حتى كان رسول الله صلّى الله عليه وآله هو الذي يفسر ذلك، وأنزل الحجّ فلم ينزل طوفوا سبعًا حتى فسّر ذلك لهم رسول الله صلّى الله عليه وآله..
وأنزل (أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) فنزلت في عليّ والحسن والحسين، وقال رسول الله صلّى الله عليه وآله: «أوصيكم بكتاب الله وأهل بيتي إنّي سألت الله أن لا يفرّق بينهما حتى يوردهما عليَّ الحوض فأعطاني ذلك».


(4) نعود للقول بأنّ الخطاب الدّينيّ الأصيل هو الذي يسعى دائمًا لتحقيق رضا الله سبحانه، فيستمد أوامره، وأحكامه، وضوابطه وقيمه من الدّين نفسه، وليس من المؤسّسات الرسميّة.
ووفق هذه الرؤية كان موقف العلماء المتشدّد من القرار الصّادر عن وزارة العدل والشؤون الإسلاميّة بشأن ضوابط الخطاب الدّينيّ، وجاء بيان العلماء الصّريح بـ «حرمة الالتزام شرعًا بهذا القرار».
فالخطاب الدّينيّ وظيفةٌ شرعيّة، فلا يجوز المساس بها، وإنّ الالتزام بقرار من هذا النّوع هو مساندةٌ لعملٍ غير مشروع…..
وهل يعني هذا أنّ الخطاب الدّينيّ فوق النّظام وفوق القانون؟
وهل يعني هذا أنّ المنابر الدّينيّة لها مطلق الحريّة في أن تطرح ما يحلو لها بلا رقيبٍ ولا حسيب، ولا ضوابط ولا حدود، وإن أدى الأمر إلى العبث بأمن الوطن، وإن أدى الأمر إلى زرع الفتن؟


المسألة ليست كذلك..
فالخطاب الذي يعبث بأمن الوطن ليس خطابًا دينيًا، ويجب تجريمه….
والخطاب الذي يزرع الفتن الطائفيّة والسياسيّة والاجتماعيّة ليس خطابًا دينيًا، ويجب تجريمه..
ثمّ إنّ الخطابات الدينيّة والمنابر الدينيّة ليست فوق النّظام، وليست فوق القانون، ما دام هذا النّظام عادلًا، وما دام هذا القانون منصفًا…
أما إذا كان النّظام جائرًا، والقانون مجحفًا…
وأمّا أن يتفرّد حاكمٌ أو مسؤولٌ بإصدار قراراتٍ كما يحلو له وكما يشاء….
وأمّا أن يغيب دستورٌ تتوافق عليه إرادة أبناء الوطن…
وأمّا أن تكون العمليّة السياسيّة مصابة بالشّلل والكساح….
وأمّا أن تكون الملفات الخطيرة عالقة وجامدة…
وأمّا أن يكون القرار الأمنيّ هو الذي يفرض نفسه على كلّ الأوضاع…
وأمّا تكون الثّقة مهزوزة….
فهل من الحقّ والعدل والإنصاف أن يفرض القرار الرّسميّ نفسه على كلّ الواقع الدّينيّ والسّياسيّ والثقافيّ…..
وحتى في أحسن الفروض، لا يحقّ للمؤسّسة الرسميّة أن تفرض هيمنةً على الخطاب الدّينيّ، كون هذا الخطاب يستمدّ شرعيّته من الكتاب والسّنّة وليس من المؤسّسات الوضعيّة….
وكون هذا الخطاب يستمدّ محدّداتِه، ومكوّناته، وأهدافَه ومسؤولياتِه من الدّين نفسه، وليس من مؤسّسات الحكم وإن كانت عادلة..
والخطاب الدّينيّ – في منطلقاته الشرعيّة وفي مساراته الأصيلة – لا يمكن أن يكون إلّا أداةَ بناءٍ وإصلاح، وداعيةَ وحدةٍ وائتلاف، ومصدرَ خير وعطاء.
ولذلك قال الإمام عليّ بن الحسين زين العابدين عليه السّلام وهو يحدّد بعدين مهمّين للخطاب الدّينيّ:
• «كلماتٌ لله فيهنّ رضًا»
• «ولهؤلاء الجلساء أجرٌ وثواب»
أولئك الذين يقتلون، ويسفكون الدّماء، وينشرون الرّعب باسم الدّين وشعارات الدّين هم كذبة، دجّالون، مشوهون للدّين…
أولئك الذين يؤجّجون الأحقاد الطائفيّة، ويزرعون الفتن العمياء، ويمارسون القذف والسبّ والتشهير ضدّ الأبرياء والصّالحين، الدّين منهم بُراء….
ثمّ ليس كلّ خطابٍ يؤجر مستمعوه…
وليس كلّ خطابٍ يثاب حضّاره…
بل من الخطاب ما يكون الإصغاء إليه إثمٌ وعقاب..
فلينظر الإنسان إلى من يستمع…
ولينظر الإنسان عمّن يأخذ..
فربّ خطابٍ قاد إلى ضلالٍ، وربّ خطابٍ قاد إلى فساد، وربّ خطابٍ أيقظ فتنًا نائمة وربّ خطابٍ أجّج أحقادًا، وربّ خطابٍ أشعل حروبًا، وربّ خطابٍ سفك دماء….
هذا النّمط من الخطاب لا علاقة له بالدّين…
من الجناية على خطاب الدّين أن نحسب عليه كلّ هذا الطيش والعبث……
ولا تحمي الخطاب الدّينيّ في خطّ الأهداف والمبادئ، وفي خطّ المسؤوليّات والالتزامات قراراتٌ وهيمناتٌ رسميّة….
هذه القرارات والهيمنات هي التي تدفع بالخطاب الدّينيّ في اتجاه التوظيف لصالح الأنظمة السّياسيّة، وليس في اتجاه التوظيف لصالح أهداف الدّين..
ما يحمي الخطاب الدّينيّ درجة عالية من البصيرة ودرجة عالية من التقوى، ودرجة عالية من وعي الأمة والتزامها وصلابتها..


كلمات سريعة:
1- مبادرة جمعية الوفاق:
 أطلقت جمعية الوفاق مبادرةً لحلحلة الأوضاع المتأزّمة في البلاد، وإنّنا نثمّن هذه المبادرة، ونتمنى أن تجد تجاوبًا من قبل السلطة، فما عادت الأمور تقبل الإهمال والتسويفات، لقد آن الأوان إلى أن تتحرّك المبادرات الخيّرة انقادًا للبلد من أزماتٍ مرعبة، ولقد آن الأوان أن تصغي السلطة إلى هذه المبادرات الصادقة، وإلى هذه النداءات المخلصة، لا خيار إلّا الحوار الجاد، وإذا سقط هذا الخيار فالويل كلّ الويل لمستقبل هذا الوطن…


2- إطلاق سراح المعتقلين:
 نؤكد ونكرّر المطالبة بإطلاق سراح المعتقلين وعلى رأسهم الأستاذ حسن مشيمع والشيخ المقداد، لتهيئة الأجواء لحوار وطنيّ يدفع باتجاه المعالجة الحقيقيّة لما تشهده البلاد من أزماتٍ خانقة واحتقاناتٍ صعبة، وتوتراتٍ خطيرة…
 فلا مبرّر للإصرّار على هذا النّهج الذي يعتمد خيار المعالجات الأمنيّة المتشدّدة، هذا الخيار لن يزيد الأمور إلّا تعقيدًا وتصعيدًا وتأزيمًا، ولن يقود إلّا إلى مزيدٍ من العناء والعداء والقطيعة…


 3- خطوة سلميّة تحمل مطالب مشروعة:
 أعلن عدد من الأخوة المؤمنين العزم على القيام باعتصام في منزل الأستاذ عبد الوهاب حسين حفظه الله وهي خطوة سلميّة تحمل مطالب مشروعة…
 أملنا أن تعيد السلطة النّظر في مجمل سياساتها، وأن تبدأ مصالحة حقيقيّة مع أبناء شعبها، ومع كلّ القوى المخلصة التي لا تريد لهذا البلد إلّا الأمن والأمان والخير والصّلاح…
 دعاؤنا للأخوة الأعزّاء حفظهم الله تعالى أن يسدّد الله خطواتهم السلميّة، وأن تحقّق هذه الخطوة أهدافها المنشودة بإذن الله…


وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين


استمع للكلمة

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى