المفاهيم الإسلاميةمحاضرات إسلامية

خطاب الوحدة : الإتجاهات والمواقف – الحوار و ضمانات النجاح

بسم الله الرحمن الرحيم


   الحمد للهِ ربِّ العالمين وأفضلُ الصَّلوات وأزكى التحيات على سيد الأنبياء و المرسلين الحبيب المصطفى محمٍد، وعلى آله الغرِّ الميامين وأصحابه المنتجبين…
السَّلام عليكم – أيُّها الأحبةُ في الله- و رحمةُ اللهِ وبركاتُه..


في البدء أثمِّنُ بكلِّ حبٍّ وتقديرٍ الجهودَ الطيبةَ التي يبذُلُها شيخُنا المبجَّلُ العالمُ الجريئُ الشيخُ راشد المريخي في خدمةِ التواصلِ بينَ العلماءِ، وفي تعميقِ أواصرِ الأُلفةِ بينَ أبناءِ هذا الوطن..
كما أُثمِّنُ كلَّ التثمينِ حضورَ ومشاركةَ أخينا الطيِّبِ العلَّامةِ السيد عليّ الهاشمي، والذي أعرفُهُ منذُ تاريخٍ طويلٍ نموذجًا نظيفًا، يحملُ رسالةَ المحبةِ والتقاربِ والوحدةِ بين المسلمين، وله مساهماتُه العلميّةُ والثقافيّةُ النافعةُ والمفيدة..
أتضرَّعُ إلى الله سبحانه أن يتقبَّلَ هذا الجُهدَ، وأن يُسَدِّدَ هذه المبادرةَ المخلصةَ، لتكونَ منطلقًا لفعَّالياتٍ جادَّةٍ تخدمُ هذا الشعبَ، وتجذِّرُ العلاقاتِ الصادقةَ بين أبناء هذا البلدِ الطيِّب، وتزرعُ على أرضِ هذا الوطنَ كلَّ المحبةِ والأخوةِ والأمنِ والإستقرار.


أيُّها الأخوةُ الأعزاءُ الكرام:
   لقاءٌ يحتضنُ هذا العنوانَ الكبيرَ «آدابَ الحوارِ في ضوءِ مشروعيّةِ تعددِ الرأي» ليس لقاءً ترفيًّا، إعلاميًّا، استهلاكيًّا، خطابيًّا، إستنزافيًّا، فيما يرادُ لهذا العنوانِ الخطيرِ أن يقاربَ «مأزقًا» هو الأصعبُ في حركةِ العلاقاتِ الدينيّةِ والسياسيّةِ والثقافيّةِ والاجتماعيّة.
   ففي زحمةِ التحدِّياتِ الصعبةِ الصعبةِ التي تواجه أمَّتَنا، وتواجه وَحدَتَنا، وتواجه خطابَنا، تأتي القيمةُ الكبيرةُ الكبيرةُ لهذه اللقاءاتِ الجادَّةِ ولهذهِ العناوينِ الهادفةِ إلى معالجةِ إشكالاتِ الواقع الديني والسِّياسي والثقافي والإجتماعي..
   وفي مرحلةٍ أصبحتْ مشروعاتُ التجزءةِ والتشظِّي والشتاتِ بكلِّ صياغاتِها هي «الخَيارُ» الذي تُصِرُّ عليهِ القُوى المعاديةُ لهذهِ الأمةِ، في هذه المرحلةِ يجب أن يكون «خطابُ المحبةِ والتقاربِ والوحدةِ» هو «خيارُنا الكبير» في مواجهةِ خطاباتِ الكراهيّةِ والتباعدِ والفرقة..
أن يكون «الحوارُ الجادُّ الهادفُ» هو «نهجُنا الأصوب» في معالجةِ أزماتِ الواقعِ بكلِّ تنوعاتِه المذهبيّةِ والسياسيّةِ والثقافيّة.
   لا أجدُ الفرصةَ –هنا- تتّسعُ لمقاربة إشكالاتِ التعدّدِ المذهبي، والتعدّد السِّياسي، والتعدّد الثقافي، لذلك أركّزُ الحديثَ حول النمط الأول من أنماط التعدّد «التعدّد المذهبي» وهو الأصعبُ والأخطر في هذه السياقات التعددّيّة..
الإشكاليّة التي تواجهنا هنا:
كيف نوفِّقُ بين «خطابِ الوحدة» و «مشروعيِّةِ التعدّد» ؟

   إنَّ الرؤى المذهبيّةِ والسياسيّةِ والثقافيّةِ المتعددّةِ لا تشكِّل  – دائمًا- مكوّناتِ تناقضٍ وتباينٍ وتنافٍ، إلَّا إذا عاشتْ هذه الرؤى المتعدّدةُ حالاتِ الإنسجانِ والانغلاقِ على الذّاتِ، وحالاتِ النفي المطلقِ للآخر؛ مما يكوِّنُ «الأنا المذهبيَّ المتجمّد» و«الأنا الثقافيَّ المتجمّد»، و«الأنا السِّياسيَّ المتجمد».
«الأنا المذهبيُّ أو الثقافيُّ أو السِّياسيُّ» أمرٌ طبيعيٌّ جدًّا تفرضُه «القناعاتُ المذهبيّةُ والثقافيّةُ والسّياسيّةُ»، إلَّا أنَّ الخطرَ كلَّ الخطرِ حينما يتحوَّلُ هذا «الأنا» إلى «الأنا المتعصب» بما ينتجُهُ هذا «الأنا المتعصب» من توتراتٍ وخلافاتٍ متشنّجةٍ، ومن صراعاتٍ ومواجهاتٍ صعبة، وربّما تعدّى الأمرُ إلى صداماتٍ ومعاركَ داميةٍ، عندما يغيبُ الوعيُ والبصيرةُ، وعندما تنفلتُ العواطفُ والمشاعر..
ولكي نكتشفَ الصورةَ أكثر..
أتناولُ العنوانين التاليين:


خطاب الوحدة: الاتِّجاهات والمواقف.
 الحوار: ضمانات النَّجاح.


خطاب الوحدة، الاتِّجاهات والمواقف:
   تتحركُ في السَّاحةِ الإسلاميّةِ السنّيةِ والشيعيّة مجموعةُ اتجاهاتٍ ومواقفَ من خطاب الوحدة..
أوجزُهَا في الاتجاهاتِ التالية:


الاتجاه الأول:
   الاتجاهُ المتشدّدُ المتعصّبُ الرافضُ لأيّ شكلٍ من أشكالِ التقاربِ بين السنةِ والشيعةِ، بدعوى أنَّ الآخَرَ المذهبيَ هو أساسًا خارج الدائرةِ الإسلاميّةِ، ويتحرّك هذا الموقف لدى متشددين ومتطرفين من السنّة ولدى متشددين ومتطرفين من الشّيعة.
هذا الاتجاه يرفضه كلّ العقلاء من المذهبين..


لماذا؟
أولًا: التطرّف بكلّ أشكاله مرفوض (التطرّف الدينيّ، المذهبيّ، السّياسيّ والثقافيّ) كونُه لا يرتكزُ على أسسٍ قرآنيّةٍ وفقهيّةٍ وعقليّةٍ وموضوعيّة، وإنَّما هو نزعةٌ، منغلقةٌ، مأسورةٌ للتعصّب المفرط في إلغاء الآخر ومصادرته، و إحتكار الحق المطلق.


ثانيًا: هذا الموقفُ المتشدّدُ مذهبيًا أنتج حالاتٍ من التطرّفِ والعنفِ كلّفتْ الواقعَ الإسلاميَّ السنيَّ والشيعيَّ أثمانًا باهضةً من صراعاتٍ ومواجهاتٍ، وصداماتٍ ودماء.


ثالثًا: هذا اللون من التطرّفِ والتشدّدِ تغذّيه  – بلا إشكال- مؤثّراتٌ خارجيةٌ معاديةٌ للإسلامِ والمسلمين، تطبيقًا للقاعدةِ الخبيثةٍ «فرق تَسُد».
يقول لورانس براون:
«يجب أن يبقى العرب والمسلمون متفرّقين، ليبقوا بلا قوة ولا تأثير».
وقال لويس التاسع ملك فرنسا:
«إنّه لا يمكن الإنتصار على المسلمين من خلال حرب، وإنّما يمكن الإنتصار عليهم بواسطة السياسة بإتّباع ما يلي- وذكر مجموعة أمور منها-:
– إشاعة الفرقة بين قادة المسلمين.
– عدم تمكين البلادِ الإسلاميّةِ والعربيّةِ أن يقوم فيها حكم صالح.
– إفساد انظمة الحكم في البلاد الإسلامية بالرشوةِ والفسادِ والنساءِ.
– الحيلولة دون قيام جيش مؤمن بحق وطنه، يضحّي في سبيل مبادئه.
– الحيلولة دون قيام وحدة عربية في المنطقة.
– العمل على قيام دولة غريبة في المنطقة العربية….»


(هذه الوثيقة محفوظة في دائرة الوثائق القوميّة في باريس نقلًا عن جريدة آخر ساعة / العدد: 2106 سنة 1975).


الاتجاه الثاني:
   الاتجاهُ المتحفّظُ جدًا من مسألةِ التقاربِ السنّي الشيعيّ، ليس انطلاقًا من عصبيّةٍ وتشدّدٍ وتطرّفٍ – كما في الاتجاه الأول- وإنّما من فهمٍ خاطئٍ يرى أنّ هذا التقاربَ فيه إلغاءٌ للانتماء المذهبي.
نقول لهؤلاء المتحفّظين الخائفين من السنة والشيعة:
أولًا: إنّ مشروع الوحدةِ والتقاربِ لا يفرضُ أبدًا «التخلّي المذهبي» ولا يفرض إلغاءَ القناعاتِ الخاصةِ، وإنّما هو «تفعيلٌ عمليٌّ للقواسمِ المشتركةِ الكبيرةِ جدًا بين المسلمين» وتجسيدٌ لخطابات القرآن:
• (واعتَصِمُوا بحبلِ اللهِ جميعًا ولا تَفَرَّقُوا، ولا تكونُوا كالذينَ تفرَّقُوا واختَلفُوا من بعدِ ما جاءَهُم البيِّناتُ وأولئك لهم عذابٌ عظيم). آل عمران/ 103
• (ولا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وتذهبَ ريحُكُم).
• (إنَّ هذهِ أمَّتُكم أمَّةً واحدةً وأنا ربُّكم فاعبدون).
• (وإنَّ هذِه أمَّتُكُم أمَّةً واحدةً وأنا ربُّكم فاتقون).


ثانيًا: التنوّع المذهبيُّ والثقافيُّ والسِّياسيُّ لا يشكِّلُ عُقدةً أمامَ مشروعِ التقاربِ والوحدةِ إلّا إذَا تحوّلَ هذا التنوّعُ إلى تعصّبٍ وتشدّدٍ وتطرّفٍ – كما ذكرنا سابقًا- مما ينتجُ حالات الإلغاءِ والمصادرة.
   فالخطابُ العاقلُ المنفتحُ قادرٌ أن يحوّلَ الكثيرَ من نُقَاطِ الاختلافِ في مجالاتِ الفكرِ والفقهِ والسّياسةِ إلى «منتجاتٍ فاعلةٍ» للتقاربِ والتآلفِ، وإلى «صياغاتٍ عمليّةٍ متحرّكةٍ» تغني الواقع الفقهي والثقافي والسّياسي بخياراتٍ متعددة، ما دامت هذه الخياراتُ ترتكزُ على رؤى علميّةٍ مدروسةٍ، وليست نتاجَ قناعاتٍ مرتجلةٍ، وفهمٍ متسرّع، ورؤى مزاجيّة.
 
الاتجاه الثّالث:
   اتجاه محكوم لنزعة متشائمة يائسة (لعقدة اليأس والإحباط والتشاؤم) تشكّلت من خلالِ إخفاقاتٍ متراكمةٍ، وتجاربَ فاشلةٍ جسّدها تاريخُ الجهودِ والمحاولاتِ في مجالاتِ الوحدةِ والتقارب..
فلا جدوى من إضاعة القدرات والأوقات في مشروعات طوبائيّةٍ خياليّةٍ لا يمكن أن تتحقق على أرض الواقع..
ولماذا نرهق أنفسنا بتجارب فاشلةٍ سلفًا؟
ولنا حول هذا الاتجاه بعضَ ملاحظاتٍ:
أولًا: ليس صحيحًا ما يُدّعى من إخفاقِ كلِّ المحاولاتِ وفشلِ كلِّ التجارب..
هذه نماذجُ لتجارب ناجحة:
(1) جماعة التقريب بين المذاهب الإسلاميّة بالقاهرة، والتي تشكّلت في سنة (1368هـ/ 1949م) أي منذ ما يقرب من ستين سنة.
 هذه الجماعة ضمّت علماء من الطراز الأول أمثال: الشيخ محمود شلتوت، الشيخ عبد المجيد سليم، الشيخ محمد أبو زهرة، الشيخ محمد محمد المدني وأخرون من علماء السنة…
 وأمّا من علماء الشيعة الذين انضموا لهذه الجماعة أو دعموها بقوة: الشيخ محمد تقي القمي «الأمين العام لدار التقريب آنذاك»، الشيخ محمد جواد مغنية، السيد عبدالحسين شرف الدين العاملي، الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء، وكان المرجع الديني الكبير السَّيد البروجردي من الداعمين الأقوياء لهذا المشروع، وله مراسلات مع شيخ الأزهر آنذاك..


هذه التجربة المباركة قد حقّقت مكاسبَ كبيرةً في التواصلِ العلمي والفكري والفقهي والاجتماعي، ولا زالت أثارُ تلك المكاسب وبركاتها قائمةً حتى هذا العصر..
اقرأوا المجلة التي كانت تصدر عن دار التقريب والتي سُمّيت (رسالة الإسلام) واستمر صدورها من سنة (1368هـ) حتى سنة (1392هـ)، وبلغ مجموع ما صدر منها ستين عددًا، وهذه المجلة غنيةً جدًا بالأبحاث العلميّة والفكريّة والفقهيّة والقرآنيّة المتخصصة.
   وإذا كان هذا المشروع قد تجمّد، فبفعل أهداف وأغراض سياسيّة خارجة عن إدارة القائمين عليه.


(2) مجمع التقارب بين المذاهب الذي تأسّس في إيران بعد إنتصار الثورة الإسلاميّة، هذه التجربة ناجحة جدًا فقد استطاعت أن تقارب بين العلماء والمفكّرين والمثقّفين من مختلف المذاهب الإسلاميّة… ولا زال هذا المشروع قائمًا وفاعلًا وناجحًا.
(3) جماعة علماء المسلمين في لبنان وهي تجربة شاخصة تؤكّد إمكانيّة التجمّع الإسلاميّ العلمائيّ في مواجهة قضايا العصر وتحدّياته.
(4) الإتحاد العالمي لعلماء المسلمين.


(5)  أذكّركم بتجربة قامت في هذا البلد، وهي ليست تجربة دينيّة، وإن كان قد غذّاها الحسُّ الدينيّ، وساندتها الجماهير الدينيّة…
   في الخمسينات تشكّلت في البحرين «هيئة الإتحاد الوطني» وقد جسّدت تنوعًا مذهبيًا واضحًا استطاع أن يواجه الفتنة الطائفيّة والتي كان يغذّيها – آنذاك- المستشار الإنكليزي بلجريف.
كان على رأس هذا التشكّل عدد من الشخصيات الدينيّة والسياسيّة والاجتماعيّة السنيّة والشيعيّة، ولست هنا في صدد التقويم لهذه الحركة في منطلقاتها وأهدافها ونتائجها وإنّما طرحتها شاهدًا حيًّا على أنّ التنوع المذهبي لا يشكّل عاملًا سلبيًا يهدّد حركة «الاستقطاب والتمركز» حول قضايا الأمة الكبرى.
ثانيًا: ثمّ إنّ فشل ألف تجربةٍ لا يعني فشل الفكرة.
ثالثًا: وإذا كان هناك تاريخٌ من الصراع المذهبي كرّس روح اليأس عند البعض، فإنّ هناك تاريخًا طويلًا من المحبة والتعايش بين السنة والشيعة…
   وتاريخ هذا البلد شاهدٌ على ذلك، بل وحاضر هذا البلد كذلك، لا يشوّش هذا التعايش صيحاتٌ طائفيٌّة متطرّفة لا تمثّل أصالة البلد وتاريخه…. 
   أنا أذكر – أيام الدراسة الابتدائيّة والثانويّة – كنّا نعيش أجواءً من المحبةِ والصفاء والأخوّة سُنّةً وشيعة، لا زلتُ أحمل في ذاكرتي أسماءَ لنماذجَ رائعة جدًا من زملائي السُنّة، وصدّقوني إن قلت لكم: إنَّ كثيرًا من زملاء الدراسةِ الشيعةِ قد غابوا عن ذاكرتي أمّا هؤلاءُ الزملاءُ السُنّة فلم يغيبوا عن ذاكرتي أبدًا وإن اختفت أسماءُ بعضهم…
   فلا مبرر أن يحكمنا اليأس والتشاؤم، مهما اشتدت ضراوة العابثين واللاعبين على وتر الطائفيّة البغيض.
   ويبقى صوت المحبة هو الأقوى، وهذا لا يعني أن نتعامل مع مشروع الوحدة بطريقة حالمة تعتمد التبسيط الساذج الذي لا يضع حسابًا للمعوّقات الحقيقيّة، بل لابد من التعاطي مع هذا المشروع بطريقة واقعيّة تحدِّق في كلِّ ما يتحرك على الأرض، وتخطّط بحكمة وبصيرة، وتلاحق كلّ الإشكالات والمعوّقات.


الاتجاه الرّابع:
– لا من تطرّف.
– ولا من نظرة خاصة.
– ولا من عقدة اليأس والإحباط.
– وإنّما نزوع نفسي نحو الكسل والاسترخاء.
وهو اتجاهٌ مأسورٌ لحالاتِ الكسلِ والاسترخاءِ والتخاذل..
   كثيرون يؤمنون كلَّ الإيمان بضرورة التصدّي لمشروعات الفتنة الطائفيّة، والوقوفِ في وجه خطاباتِ التطرف، إلّا أنّهم لا يتحرّكون ولا يعملون، لأنَّ ذلك يكلِّفهُم عناءً وجهدًا وتعبًا، وصبرًا وثباتًا، وبذلًا وعطاءً وتضحيةً، وهم لا يريدون أن يعطوا كلّ هذا، لأنهم استمرأوا الراحةَ، والدّعةَ، والخمولَ، والكسلَ، والاسترخاء والتخاذل..
ونقول لهؤلاء الكسالى والمسترخين والمتخاذلين:
أولًا: إذا كان أعداءُ ديننا، وأعداء أمتنا، وأعداء وحدتنا قد استنفروا كلّ إمكاناتهم وقدراتهم ومخطّطاتهم من أجل تمزيقنا، وتشتيتنا، وإضعافنا، فهل نملك مبررًا شرعيًّا وعقليًّا يسوّغ لنا الكسل والدعة والراحة والاسترخاء والتخاذل؟
ثانيًا: وأين هي خطابات الجهاد والمجاهدة، والصبر والمصابرة، والعطاء والبذل والتضحية، والدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟
• جاء في كلمة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (كفى بالمرء في دينه فتنة، أن يكثر خطأه، وينقص عمله، وتقلّ حقيقته، جيفة بالليل، بطّال بالنهار، كسول، هلوع، رتوع).


ثالثًا: حينما يتطاير شرر الفتن العمياء لن يستثني نائمًا أو قاعدًا أو كسولًا أو مسترخيًا أو متخاذلا…
ولن يستثني بريئًا أو طفلًا أو امرأةً أو شيخًا..
• {وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً}الأنفال25.
   انظروا حينما استيقظت الفتنة الطائفية في بعض بقاع الارض… كم حرقت أوطانًا، ودمّرت شعوبًا، واربكت أوضاعًا، وأزهقت أرواحًا، وأرعبت نفوسًا، وزعزعت أمنًا واستقرارا…
فماذا ينتظر القاعدون الصامتون المتخاذلون؟


الاتجاه الخامس:
مكّونات هذا الاتجاه: الاعتدال/ الوعي/ التفاؤل/ الحركيّة..
 وهنا يتشكّل الاتجاه الصائب والذي يؤكّد ضرورة العمل على وحدة الأمّة، ومن أجل تماسكها، وقوّتها، وعزّتها، وضرورة التصدّي بكلّ إيمان وصدق لمشروعات الفتنة الطائفيّة التي تدمّر البلاد والعباد، وتهلك الحرث والنسل، وتزرع في الأرض الفساد، وتنسف الأمن والأستقرار، والمحبة والوئام، والوحدة والإلتئام.
ويعتمد هذا الاتجاه منطلقين أساسيين:
• القناعات الشرعيّة.
• الضرورات الموضوعيّة.


والسؤال الصعب الذي يواجه الاتجاه الخامس:
• هل استطاع هذا الاتجاه أن يتحوّل إلى مشروعٍ يتحرك على الأرض؟
أم لا زال خطابًا، وشعارًا، ونظريةً، ومشاعرَ وأمنيات؟
هذا تساؤل مشروع، يفرض علينا أن نمارس قراءةً علميّةً نقديّةً، لنكتشف من خلالها «المستوى العملي» لحركة الخطاب، وما لم نمارس هذه القراءة وبعقل هادئ، ورؤيةٍ بصيرة، وروحٍ موضوعيّةٍ فإنّ الخطاب سيبقى يعيش «الشلل والركود والاختناق»، وسيبقى أسير «الرؤى الحالمة والتراكمات الخاطئة».
وهنا تبرز القيمة الكبيرة «للحوار» من أجلِ معالجة «الإشكالات والمعوّقات» التي تواجه «خطاب الوحدة والتقارب»، وعندما يغيب «الحوار» يتعقّد هذا الخطاب وترتبك حركته، وتحاصره الاشكالات والمعوّقات الفكريّة والنفسيّة والعمليّة..
  
   إلّا أنّ الحوار لكي يكون ناجحًا يجب أن يتوفّر على مجموعة «ضمانات» نذكرها من خلال العنوان التالي…


الحوار وضمانات النجاح:
   قبل أن أتحدث عن الضمانات أقول: بأنّ هناك «أزمة حوار» في الواقع الديني والسياسي والثقافي، وهنا تأتي قيمة الضمانات لتحريك الحوار وتتمثّل ضمانات النجاح في توفّر الشروط التالية:
الشرط الأول: أن يكون هدف الحوار واضحًا:
وإلّا تاهت مسارات الحوار، وتعقّدت الاتجاهات، وتأزّمت الخلافات..
ماذا نريد للحوار؟
أن يعالج مشكلًا دينيًا/ مذهبيًا/ ثقافيًا/ سياسيًا؟
أن يجمّد معتركًا؟
أن يُوجد تسويات؟
أن ينتج موقفًا مشتركًا؟
أن يؤسّس لمشروع وحدة وتقارب؟
  
   المنطلق في أيّ حوار ديني أو ثقافي أو سياسي أن يكون الهدف واضحًا كلّ الوضوح، حتى لا يكون حوارًا تائهًا ضائعًا فاشلًا أو يكون حوار طرشان….


الشرط الثاني:
[ الكفاءة التي تؤهّل المتحاور لعملية الحوار]
إمتلاكُ الكفاءة في موضوع الحوار:
«هَاأَنتُمْ هَؤُلاء حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلمٌ فَلِمَ تُحَآجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ» آل عمران66
لا يصحّ أن تحاور في مسألة طبّية وأنت لا تملك كفاءة الطب…
لا يصحّ أن تحاور في مسألة هندسيّة وأنت لا تملك كفاءة الهندسة..
لا يصحّ أن تحاور في مسألة أدبيّة وأنت لا تملك كفاءة الأدب..
لا يصحّ أن تحاور في مسألة سياسيّة وأنت لا تملك كفاءة السّياسة..
لا يصحّ أن تحاور في مسألة فقهيّة وأنت لا تملك كفاءة الفقه..
نعم لك أن تطرحَ سؤالًا باحثًا عن جواب..
ولك أن تثير إشكالًا يتحرك في ذهنك..
ولك أن تطلب بُرهانًا أو دليلًا ، اذا توقَفت القناعة على البرهان والدليل…
   أمّا أن تدخل في حواراتٍ لا تملك كفاءاتِها، فسوف تكون حواراتٍ عمياء ضائعة، وجدالاتٍ عقيمة، ونقاشات متخبّطة وهنا تثار إشكاليّة حول خطاب علماء الدين، هذه الاشكاليّة تقول: إنّكم – والخطاب لعلماء الدين- تعتبرون خطابكم خطابًا معصومًا لا يجوز نقده أو مناقشته أو محاسبته.
هذا الكلام ليس صحيحًا .. فخطاب علماء الدين ليس معصومًا، ولا مقدّسًا يمتنع نقدهُ أو مناقشته أو محاسبتُه.
   قبل أن استرسل في هذه النقطةِ أنبّه إلى الفرق بين صيغتين:
الصّيغة الأولى: أن نتحدّث عن (خطاب الدين) بمعنى (النصّ القرآني) و(النصّ الصادر عن الرسول صلىّ الله عليه وآله وسلم) يضاف إلى ذالك – وفق الرؤية الشيعية – (النصّ الصادر عن الإمام)..
الخطاب هنا: معصوم ومقدّس لا يصحّ نقدهُ أو مناقشته أو محاسبته.


الصيغة الثانية: أن نتحدث عن (النتاجات الإجتهادية في فهم النص)، فهذه النتاجات غير معصومة و غير مقدّسة، فيصحّ نقدها ومناقشتها ومحاسبتها.
   فخطاب علماء الدين أو خطاب الدينيين أو خطاب الإسلاميين – وفق المصطلحات السائدة – هذا الخطاب مادام نتاج رؤية إجتهادية فهو ليس بمنأى عن النقد والمناقشة والمحاسبة ولا يدّعي أحد من علماء الدين – إطلاقًا- أنّ خطابه وآراءه واجتهاداته فوق النقد والمحاسبة..
ما يقال: أنّ من يتصدى للنقد والمحاسبة يجب أن يتوفر على كفاءة النقد والمحاسبة؟
   فإذا كان النقد يتناول (المستوى العلمي للخطاب) فيفترض في من يمارس هذا النقد أن يكون متوفرًا على (الكفاءة العلمية).
   وإذا كان النقد يتناول (المستوى الثقافي للخطاب) فيفترض في من يمارس هذا النقد أن يكون متوفرًا على (الكفاءة الثقافية).
   وإذا كان النقد يتناول (المستوى السياسي للخطاب) فيفترض في من يمارس هذا النقد أن يكون متوفرًا على (الكفاءة السّياسيّة).
وإذا كان النقد يتناول (المستوى القيادي للخطابة) فيفترض في من يمارس هذا النقد أن يكون متوفّرًا على (الكفاءة القياديّة).
   وإذا كان النقد يتناول (الجانب الموضوعي للخطاب) فيفترض في من يمارس هذا النقد أن يكون متوفرًا على (الكفاءة الموضوعيّة).


الشرط الثالث:
أن يحتكم الحوار إلى مرجعيّة متّفق عليها…
   الحوار الذي لا يحتكم إلى مرجعية متّفق عليها بين الأطراف المتحاورة حوار ينتهي – بالتأكيد- إلى طرق مسدودة، وإلى أبواب مغلقة.
   وحينما نتحدث عن مرجعية الحوار فنعني تلك «المسلّمات» التي يؤمن بها أطراف الحوار، وعندما تغيب هذه «المسلّمات» يتحرك الحوار في مسارات لا تنتهي إلى إتفاق، ولا تنتهي إلى نتائج…
والمسلّمات متعدّدة:
_ مسلّمات عقليّة « القضايا البديهيّة الأوليّة ».
_ مسلّمات دينيّة «يؤمن بها أصحاب الأديان».
_ مسلّمات إسلاميّة «يؤمن بها المسلمون جميعًا».
_ مسلّمات مذهبيّة «يؤمن بها أصحاب المذهب الواحد».
_ مسلّمات وطنيّة «يؤمن بها أصحاب الوطن الواحد».
_ وهكذا…


الشرط الرّابع:
   أن يكون الحوار موضوعيًا لا تحكمه المؤثّرات الذاتيّة والدوافع النفعيّة المصلحيّة الأنانيّة…. أن لا يتمركز الحوار حول ( الذات – الأنا ) وإنّما يجب أن يتمركز حول ( الهدف – الحقيقة ).
لا تحاور من أجل أن تؤكّد ذاتك، وإنّما من أجل أن تؤكّد «الحقيقة = الهدف المتّفق عليه ».
لا تحاور من أجل أن تنتصر، وإنما من أجل أن تنتصر «الحقيقة» [الدينية – الثقافية – السياسية – الاجتماعية].
لا تحاور في القضايا الاستهلاكية على حساب القضايا المصيرية.
لا تحاور من أجل العناوين الصغيرة، وتنسى العناوين الكبيرة…
   حينما تكون ( الذات – الأنا – المصلحة الشخصيّة ) مركز الحوار سوف يكون حوارًا أنانيًا متعصّبًا، ولن ينفتح على الآخر أبدًا…
   وبعبارة أخرى سوف يكون الحوار «شيطانيًا» فأولّ من قال «أنا المتعصّبة» هو «إبليس»..
• {قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ} الأعراف12
وليس دائما تكون «الأنا» متعصّبة…
«فالأنا» التي تنقاد لمعيار الحق والباطل ليست «أنا متعصّبة»، أمّا التي تعتبر نفسها هي معيار الحق والباطل فهي «الأنا المتعصّبة»، لا أتحدث هنا – طبعا- عن «الأنا المعصومة» فهي بلا إشكال «النموذج والمعيار».


الشرط الخامس:
أن تحكم الحوارَ روحُ المحبةِ والصفاء، لا روحُ الحقدِ والعداءِ والكراهيّة..
حاورْ الآخر بقلبٍ مفتوح، لا بقلبٍ مغلوق…
لا تحاور الآخر بروح الكراهية..
   ربما ترفض فكرته، وتخطئ قناعاته، إلّا أنّك تسعى من أجل أن ينفتح على قناعاتك، وأن ينفتح على أفكارك، فالحوار المشحون بالكراهيّة يغلق القلوب والعقول، وإنّك بهذا تَظلمُ الحقيقةَ التي تعتقد أنّك تحملها، وتريد أن تصل إلى الأخرين….
   كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صاحبَ القلب الكبير الذي استطاع أن يستوعب كلّ الناس {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ} آل عمران159
القلوب المتكلّسة لا تستطيع أن تنفتح على الآخرين ولا تملك القدرة في أن تجتذب الآخرين…


الشرط السَّادس:
لا تلغِ الآخرَ وأنت تحاوِرُهُ..
(الآخر الإنساني/ الآخر الديني/ الآخر المذهبي/ الآخر الثقافي/ الآخر السياسي/ الآخر الإجتماعي)..
لا تحاور حوارًا إلغائيًا، ولا تحاور حوارًا تسلطيًا، حتى لو كنت تعتقد أنك تملك كلّ الحقيقة..
في مرحلة الحوار اعترف بالآخر طرفًا في الحوار.
 بهذا الأسلوب:
– تجذب الآخر إلى دائرة الحوار..
– تخفّف من الحساسيّات..
– تفتح الآخر على أفكارك، وتنفتح أنت على أفكار الآخر، هكذا يعلّمنا القرآن…


   حينما كان الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم يحاور المشركين وهم يحملون الضّلال كلّ الضّلال وهو صلّى الله عليه وآله وسلم يحمل الهدى كلَّ الهدى بماذا كان يخاطبهم:
• (وإنَّا أو إيَّاكم لعلى هدىً أو في ظلالٍ مبين).
   لم يتحدث معهم بلغة أنّه على هدى، وأنّهم على ضلال، وإنما وضع نفسه طرفًا معهم في البحث عن الحقيقة، وهو الواثق كلّ الوثوق أنّه يملك الحقيقة.
   إلّا أنّه الحوار الذي يفرض ان تضع الآخر على قدم المساواة معك، وهذا أرقى نموذج للحوار عرفته البشرية، وهذا أرقى بكثير من المقولة المعروفة «رأيي صوابٌ يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأٌ يحتمل الصّواب»، فأين هذا من النموذج القرآني للحوار والذي يضع المتحاورين على قدم المساواة…


الشرط السَّابع:
لا تّتهم دوافع الآخر الذي تحاوره….
   من حقّك أن تحاسب الرأي الآخر، ومن حقّك أن تخطئ الرأي الآخر –استنادًا إلى الدليل والبرهان- ولكن ليس من حقّك أن تتّهم دوافع الآخر، الصّحة والخطأ أمران يخضعان للشّروط الموضوعيّة الميسورة الاكتشاف، أمّا الدوافع الجاثمة في داخل الصّدور، فمن العسير أن تُكتشف بسهولة، إلّا أن تتوفر الأدلّة القاطعة التي لا تترك مجالًا للشّك.
• في الحديث: «ضع أمر أخيك على أحسنه، حتى يأتيك ما يغلبك منه، ولا تظنن بكلمة خرجت من أخيك سوءًا وأنت تجد لها في الخير محملًا».
• وفي حديث آخر: «من عرف من أخيه وثيقة دين، وسداد طريق، فلا يسمعنّ فيه أقاويل الرِّجال».
وهذا لا يعني ان يستغفل المؤمنون في مواجهة حالات «الاختراق» و«الاندساس» التي يخطّط لها أعداء الإسلام وأعداء الأمّة، نعم المطلوب أن تكون «الحسابات والقناعات» قائمة على أساس من الدقة والتأنّي والبحث الموضوعي، لا على أساس من ظنون وشكوك واحتمالات، وإن كانت هذه الشكوك والإحتمالات ربّما تفرض درجةً من التحفّظ والإحتياط حسب خطورة القضايا والأمور.


الشرط الثَّامن:
التأكيد على نقاط الاتّفاق أولًا…
هذا هو منهج القرآن في الحوار:
• {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلَّا اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} آل عمران64
   من أجل أن يتحرك الحوار بعيدًا عن التعقيدات والتشنجات فليبدأ بالتأكيد على نقاط الإتّفاق والإشتراك.
– فحينما يكون الحوار (دينيًا – علمانيًا) فهناك القيم الإنسانية والوطنية المشتركة.
– وحينما يكون الحوار (إسلاميًا – مسيحيًا) فهناك الإيمان بالله والأنبياء والمعاد أمور مشتركة.
– وحينما يكون الحوار (بين المذاهب الاسلاميّة) فهناك الأصول الاسلاميّة، والمسلمات الدينيّة المشتركة.
– وحينما يكون الحوار (في داخل المذهب الواحد) فهناك المساحات المذهبيّة المشتركة.
– وهكذا بالنسبة إلى الحوارات السياسيّة والثقافيّة والاجتماعيّة.


   ما نلاحظه على الحوارات المتحرّكة في السّاحةِ الدينيّةِ والثقافيّةِ والاجتماعيّةِ والسياسيّةِ أنّها حواراتٌ تحاول دائمًا أن تنسف القواسم الموحّدة، وأن تحرق الأرض المشتركة، وتبدأ بنقاط التوتر والخلاف الحادّ، فيتشنّج الحوار، وتتأجج الإنفعالات وتشتعل العداوات، وعندها تضيع الحقيقة في وسط هذا الضجيج، ويفشل الحوار.


الشرط التَّاسع:
أن تكون لغةُ الحوارِ نظيفة…
• {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} النحل125
• {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} العنكبوت46.
• {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} فصلت34.
• {وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ} الأنعام108.
• {وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوًّا مُّبِينًا}الإسراء53.


   لغة السبّ والقذف والتشهير تعبّر عن عجز وإفلاس، كما أنّ هذه اللغة تساهم في تأجيج الخلافات وتشنيج العلاقات، وتحريك الصراعات، وربما أشعلت حروبًا، وسفكت دماء…
ثم إنّها ليست من خُلق الدين.
   إنّ الأساليب العدوانيّة في الشتم والسّب، والإتّهامات غير المدروسة أمرٌ لا يقرّه الإسلام، ويرفضه رفضًا قاطعًا، فمهما كانت درجة الخلاف، فيجب أن تبقى القيم النظيفة هي الحاكمة لهذا الخلاف.
   في حرب صفّين – الحرب التي دارت بين الإمام عليّ ومعاوية- سمع الإمام عليّ قومًا من أهل العراق يسبّون أهل الشام فقال لهم غاضبًا: «إنّي أكره لكم أن تكونوا سبّابين ولكنكم لو وصفتم أعمالهم، وذكرتم حالهم، كان أصوبَ في القول، وأبلغ في الحذر، وقلتم مكان سبّكم إيّاهم: اللهمّ احقن دماءنا ودماءهم، وأصلح ذات بيننا وبينهم، وأهدهم من ضلالتهم، حتى يعرف الحق من جهله، ويرعوي عن الغيّ والعدوان من لهج به». نهج البلاغة الخطبة 206.
إنّ التراشق بالتهم غير المسؤولة وغير الدقيقة، وتبادل السباب والشتائم المنفلتة والمتشنّجة، كلّ ذلك له مردوداته الخطيرة جدًا على واقع المسلمين، ممّا يعطي الفرصة لأعداء الإسلام وأعداء الأمة أن يحققوا مآربهم وأهدافهم في تمزيق وحدة المسلمين.


الشرط العاشر:
أن تكون لغةُ الحوارِ ليّنةً مرنةً شفافةً….
• {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ….}.
• {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَونَ إنَّهُ طَغَى فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا، لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أو يَخْشَى}. طه/ 42-43


المرونة والشفافيّة:
– تُوفِّر الجو الهادئ للحوار والدعوة.
– تُخفِّف من التعقيدات التي تواجه الحوار.
– تَفتحُ القلوبَ والعقول.
أمّا الحدّةُ (القسوة) فلها نتائجها المدمِّرة..
• في الحديث: (الحدّةُ ضربٌ من الجنون، لإنّ صاحبها يندم، فإن لم يندم فجنونه مستحكم).
• وفي حديث عن النّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم: (المؤمن.. ليّنٌ هيّنٌ سمحٌ، له خُلقٌ حسن).
• وفي حديث عن الإمام الباقر عليه السّلام: (إنّ الله عزّ وجلّ رفيقٌ يحبُّ الرِفْقَ، ويعطي على الرِفقِِ ما لا يعطي على العُنْف).


   فما أجمل أن نتعاطى مع الآخر الذي نختلف معه بكلِّ أخلاقيّة وشفافيّة لا بروح الغضب والإنفعال.
• يحدّثنا التاريخ أنّ الحريث (أحد رجال الخوارج) قال لأمير المؤمنين أيام خلافته: لا أئتمّ بك، ولن أشهد معك الصّلاة، ولن أئتمر بأمرك ولن يكون لك عليّ سلطان.. فقال له أمير المؤمنين: لك ذلك مع عطائك كاملًا على شريطة أن لا تعتدي على أحدٍ فإن اعتديت عاقبتك بما تستحق.


وفي ضوء الحديث عن المرونة والشفافيّة تستوقفنا مسألتان مهمتان جدًا:


المسألة الأولى:
   إنّ المرونة والشفافيّة لا تعني مجاملة الباطل والفساد والإنحراف، ومداهنة الأفكار الضالّة والمعادية للدين والأخلاق والقيم.
   حينما يتحدث الدّعاة عن المبادئ الكافرة، والاتّجاهات الضّالة، والأفكار المنحرفة، والأعراف الفاسدة، والقيم الفاسقة…
يقول البعض: أين الشفافيّة التي تدّعونها؟.. هذا فهمٌ خاطئٌ لمعنى الشفافيّة…
ليس من الشفافيّة الإقرار بالأوضاع الفاسدة والسيّئة الخاطئة والمنحرفة والضارة…
   نعم لا يجوز أن أسوق الإتهامات بلا دليلٍ ولا برهانٍ أمّا أن أحاسب الأفكار والمفاهيم الواضحة في إنحرافها عن الإسلام، وأن أحاسب الظواهر الواضحة في فسادها… وأن أحاسب الأعراف الواضحة في خروجها على ثوابت الدين فهذا لا يتنافى مع الشفافيّة…
القرآن ­ وهو كتاب الحوار والشفافيّة ­ نراه مشحونًا بالآيات التي تتحدّث عن الكفر والكافرين والمشركين، والضّلال والضّالين، والنفاق والمنافقين، والفساد والمفسدين، والفسق والفاسقين، والجهل والجاهلين.


المسألة الثَّانية:
كيف نوفّق بين نوعين من الخطاب القرآني:
• {وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ…} النحل125.
• {وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} التوبة73.
لكي نوفق بين هذين النوعين من الخطاب القرآني يجب أن نفرّق بين حالين:
(1) في حال الحوار والدعوة والتبليغ يجب أن يكون الإنسان المسلم (مَرِنًا منفتحًا شفافًا).
• {وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ…} النحل125.
•  {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} سبأ24.
• {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} آل عمران64.
(2) في حال المواجهة والتحدّي والصراع يجب أن يكون الإنسان المسلم (حدّيًا شديدًا صارمًا).
• {أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ} الفتح29.
• {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ…} الكافرون1.
• {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ …} التوبة73


الشرط الحادي عشر:
صراحة مملوءة بالحبِّ والصفاء والأخوّة..
   بمقدار ما نريد للحوار أن يكون صريحًا، نؤكِّد أن تكون الصّراحة مملوءة بالكثير الكثير من الحبِّ والصفاء والأخوّة، لأنَّ الصّراحة التي لا يحكمها قدرٌ كبيرٌ من الحبِّ والصفاء والأخوّة تتحول إلى مصدرِ«عُقدٍ وإثاراتٍ»، وربّما كرّست في داخل النفس مزيدًا من «الحسّاسيّات والتشنجات» التي تضّر بأهداف الحوارات واللقاءات..
   فكما أنّ «المجاملات المفرطة» لها سلبياتها الكبيرة كذلك «الصراحة» غير المؤسّسة على الحبِّ والصفاء والأخوّة لها سلبياتها الخطيرة…
   فمن الضروري أن تتوفر حواراتنا على الصراحة المعبّئة بأصدق مشاعر المحبة والأخوّة.
والمشحونة بأنظف الكلمات، عندها تؤدّي الصّراحة وظيفتها في معالجة الإختلافات الدينيّة والمذهبيّة والسّياسيّة والثقافيّة والاجتماعيّة، وإلّا تحوّلت إلى مصدرٍ من مصادر الإثارة والخلاف والتباعد والتباغض.


الشرط الثاني عشر:
أن يتّفق المتحاورون على شروط الحوار وعلى الإلتزام بها.


أيُّها الأحبة:
وفي ختام هذه الكلمة المتواضعة أقول:
ما أحوجنا إلى خطاب الوحدة والتقارب، وإلى خطاب المحبة والتآلف في مواجهة خطابات التجزءة والتفتيّت، وخطابات الكراهية والبغضاء، وخطابات التشدّد والتطرّف..
ما أحوجنا إلى الخطاب الذي يزرع الثقة المتبادلة في مواجهة خطابات التحريّض والتشكّيك والإتهام ..
ما أسوء الخطاب الذي يدمّر الألفة والمحبة بين أبناء الشعب الواحد، ما أسوء الخطاب الذي يحرق الأخوّة الإيمانيّة والوطنيّة، ما أسوء الخطاب الذي يمارس التّحشيد والتحريض، والظلم والإساءة والإتّهام…
ثم ما أسوء الخطاب الذي يسفك الدماء..
• في الحديث عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: (يعذّب الله اللسان بعذابٍ لا يعذّب به شيئًا من الجوارح، فيقول: أي ربّ عذّبتني بعذابٍ لم تعذّب به شيئًا؟
فيقال له: خرجتْ منك كلمةٌ فبلغت مشارقَ الأرضِ ومغاربها، فسُفِكَ بها الدمُ الحرامُ، وانتُهِبَ بها المالُ الحرامُ، وانتُهِك بها الفرجُ الحرام، وعزّتي وجلالي لأعذِّبنَّك بعذابٍ لا أعذّبُ به شيئًا من الجوارح).


وأكرّر وأؤكّد:
مهمٌ ومهمٌ جدًا أن ينطلق خطاب الوحدة والمحبة قويًا وصادقًا وصريحًا وشفّافًا.
والأهمُ الأهمُ أن يكون هذا الخطاب عمليًّا متحرّكًا على الأرض، لتتحوّل الأقوال إلى الأفعال.. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ، كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} الصف2-3.


وكيف نحرّكُ هذا الخطاب؟
أنا أدعوا إلى انطلاق (فعّاليات عمليّةٍ مشتركةٍ بين السنةِ والشيعة):
• فعّاليات ثقافيّة (ندوات/ محاضرات/ مهرجانات/ مسابقات).
• فعّاليات علميّة (دروس فقهيّة/ قرآنيّة/ أخلاقيّة).
• فعّاليات روحيّة (صلوات/ أدعية…).
• فعّاليات خيريّة (مساعدات/ خدمات/ رعاية ايتام).
• فعّاليات اجتماعيّة (زيارات/ سفرات/ مناسبات الأفراح والأحزان).
• فعّاليات تبليغيّة (برامج دعوة وتبليغ مشتركة).
• فعّاليات سياسيّة (فيما هي الهموم المشتركة/ والمصالح المشتركة).


   ولا نشك أنّ هذه الدّعوة تواجهها مجموعة معوّقات نفسيّة وفكريّة واجتماعيّة وسياسيّة، فيجب التفكير الجادّ في معالجة هذه المعوّقات أو التخفيف من حدّتها، وإن حاولت بعض الجهات على تكريسها.
   إنَّ اللقاءات المتكرّرة بين العلماء والمثقفين والشخصيات الاجتماعيّة والسياسيّة تساهم مساهمة فعّالة في تذويب الجليد، وإزالةِ الحواجزِ، وتقريبِ وجهاتِ النّظر، وتخفيفِ الاحتقانات، وتجذيرِ مكوّناتِ الوحدةِ والتقارب، والضّغط على بُؤر الإثارات والنّزاعات والتشنجات، ومعالجة الأسباب المنتجة للطائفيّة في خطّها السّلبي المتطرّف…. ونتمنى أن تُدرس هذه الأسباب دراسة علميّة موضوعيّة من قبل العلماء والمفكرين والمثقفين والسّياسيين، من أجل أن نؤسّس لمشروع توحيديّ قادرٍ على أن يتجاوز كلّ المعوقات والعقبات. 


وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى