حديث الجمعةشهر جمادى الأولى

حديث الجمعة 423: الزَّهراءُ القدوةُ في العِفَّةِ والسِّتر (2) – من كلمة لأمير المؤمنين(ع) في وصف أحوال الأمم السابقة

بسم الله الرحمن الرّحيم
الحمد لله ربِّ العالمين وأفضلُ الصَّلواتِ على سيِّد الأنبياءِ والمرسلين محمَّدٍ وعلى آلِهِ الهداةِ الميامين، وبعد فمع أكثر من عنوان:

الزَّهراءُ القُدْوةُ في العِفَّة والسِّتر (2):
تقدَّم القولُ أنَّ المرأةَ المسلمةَ في عصرِنا الحاضرِ تُواجِهُ مجموعةَ تحدِّياتٍ صعبةٍ تستهدفُ (هُويَّتَها الإيمانيةَ وعِفَّتَها وسترها) من هذه التحدِّيات: تحدياتٌ في داخلِ الأسرةِ وتحدِّياتُ الأعرافِ الفاسدة.

وأشارتْ الكلمةُ إلى مثالٍ لهذه الأعرافِ المنحرفةِ وهو (ظاهرةُ التبرُّج) وكيف أصبحت هذه الظاهرة نمطًا سلوكيًا لدى عددٍ من نساءِ المسلمين.
في النهي عن التبرُّجِ نقرأُ قولَ الله تعالى في سورة الأحزاب الآية 33:
﴿وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى﴾.

الخطابُ هُنا وإنْ كانَ لنساءِ النبيِّ (صلَّى الله عليه وآله) إلَّا أنَّه لا يختصُّ بهنَّ، بل هو عام لكلِّ المسلماتِ في كلِّ الأزمان، وإن كان في نساءِ النبيِّ (صلَّى الله عليه وآله) آكدُ وأشدُّ، كما إذا قيل: (أنتَ عالمٌ فلا تكذب) فهذا لا يعني أنَّ غير العالم يجوز له أنْ يكذب، وإنَّما النهي في العالم آكد وأشدُّ، وكما إذا قيل: (أنت حاكم فلا تظلم) فهذا لا يعني أنَّ غير الحاكم يجوز له أنْ يظلم، وإنَّما النهي في الحاكم آكد وأشدُّ.

الآيةُ المتقدمةُ تنهى عن التبرُّج، وتعبِّر عنه بتبرّجِ الجاهلية الأولى.
– فما معنى التبرُّج؟
– وماذا تعني الآية بتبرُّج الجاهلية الأولى؟

ما معنى التبرُّج؟
التبرُّج أنْ تُظهرَ المرأةُ مَفَاتنَ جَسَدِها بطريقةٍ مثيرة، أو أنْ تتزيَ بزيٍّ يحملُ الإثارة وتحريك الغرائز والشهوات…

والتبرُّج المحرَّم ما يكون لغير الزَّوج، أمَّا تبرُّجُ المرأة لزوجها فهو من أفضلِ ما تمارسه الزوجة
• في الحديث:
«جهاد المرأة حسن التبعُّل».

• وفي حديث آخر:
«خير نسائكم التي إذا خلت من زوجها خلَعْت له درع الحياء…».

• وفي حديث ثالث:
«لا غنى بالزوجة فيما بينها وبين زوجها عن ثلاث خصال وهنَّ:
– صيانةُ نفسها عن كلِّ دَنَسٍ حتَّى يطمئن قلبُه إلى الثِّقة بها في حال المحبوب والمكروه.
– وحياطتُهُ ليكون ذلك عاطفًا عليها عند ذلَّةٍ تكون منها.
– وإظهارُ العُشقِ له بالخِلابةِ [بالقول الطيب الجذَّاب] والهيئةِ الحسنةِ لها في عينه [أنْ تعتني بهيئتها ومظهرها وأنْ تتزين لزوجها]».

بمعنى أنْ تكون دائمًا في حالٍ تبعث في نفس الزوجِ الراحةَ والسَّعادةَ والاطمئنان، تبتسم له دائمًا ولا تقطب في وجهه، ولا تريئه في منظرها ما ينفِّره… وتحاول أنْ تمسح كلَّ همومِهِ وآلامِهِ.

• جاء رجلٌ إلى النبيِّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) فقال: إنَّ لي زوجةً إذا دخلتُ البيتَ تلقتني وإذا خرجتُ ودَّعتني، وإذا رأتني مهمومًا قالت: ما يهمُّكَ، إنْ كنت مهتمًا لرزقِكِ فقد تكفَّلَ به غيرُك، وإنْ كنت مهتمًا لآخرتك فزادكَ الله همًّا..

فقال له النبيُّ (صلَّى الله عليه وآلِهِ وسلَّم):
«إنَّ للهِ عمَّالًا وهذه من عمَّالِهِ، لها أجر نصفُ شهيد»
هذه هي الزوجة الخيِّرة التي لا تتبرَّج إلَّا لزوجها.
وأمَّا المرأة التي تتبرَّج لغير بعلِها فهي من شرار النساء.

• في الحديث قال رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) قال:
«ألا أخبركم بشرار نسائكم…. – إلى أنْ قال- المتبرجة إذا غاب عنها زوجها».

وأمَّا ماذا تعني الآية المتقدِّمة بتبرُّجِ الجاهليةِ الأولى؟
فقد وقع جدلٌ لدى المفسرين فيما هي الجاهلية الأولى؟
ويتَّجه عددٌ من المفسرين إلى أنَّها الجاهلية التي سبقت الإسلام، وهذا الرأي هو الأقرب.
كيف كانت المرأة تتبرَّج في هذه الجاهلية؟
كانت تخرج إلى مجتمعات الرجال ونواديهم بكلِّ زينتها…
وقيل: كان النساء يُلقين خمرهنَّ عن رؤوسهنَّ بحيث كان يظهر جزءٌ من صدورهنَّ ونحورهنَّ وقلائدهنَّ وأقراطهنَّ…
وقيل: كُنَّ يتبخترنَ ويتكبَّرنَ في المشي…
هذا هو تبرُّجُ الجاهلية الأولى، وفي وصفِ تلك الجاهلية بالأولى دلالةٌ صريحةٌ بأنَّ هناك جاهلياتٍ لاحقةً، الأمرُ الَّذي تأكَّد، فعصرُنا الحاضرُ يشهدُ أسوءَ أشكالِ الجاهليات…
فإذا كانت جاهليةُ العربِ الأولى شهدتْ غاراتٍ وحروبًا، ومعاركَ لأسبابٍ تافهةٍ جدًّا، وحَصَدتْ أرواحًا، وسفكتْ دماءً، وهتكتْ أعراضًا، واتلفتْ أموالًا، وأرعبتْ نفوسًا، فإنَّ جاهليةَ هذا العصرِ، عصرِ البشريةِ الحاضر، فإنَّ السِّمةَ التي تميِّزها هي (الحروب)، وأيُّ حروبٍ؟ إنَّها حروبٌ تتصاغر أمامَها كلُّ حُروبِ الجاهلية الأولى، حروبٌ ذَهَب ضحيَّتها ملايين البشر، وحُشِّدت لها أحدثُ الأسلحةِ الفتَّاكة، والتي تدِّمر البشرَ والحجَر، وكلَّ شيئ على الأرض.
وإذا أضفنا إلى ذلك ما تمارسُهُ عصاباتُ الإرهابِ من عَبَثٍ بالدِّماءِ والأرواحِ والأَعراضِ والأموالِ…
وأمَّا ما تمارسه أنظمةُ السِّياسةِ من استنزافاتٍ كبيرة لدماء وأرواح النَّاسِ فحدِّث عنه ولا حَرَج…
هذا هو واقعُ جاهليةِ عصرنا هذا، حيث أصبح (الرُّعبُ والخوفُ) سمةَ هذا العصر، وأصبحت (الفتن) تلاحق الإنسان في كلِّ مكان.
جاء في أخبار آخر الزمان:
• عن النبيِّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم):
«إنَّ بين يدي السَّاعةِ لهرجًا.
قلنا: وما الهرج؟
قال (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): القتل».

• وعنه (صلَّى الله عليه وآلِهِ وسلَّم):
«لا تقوم السَّاعةُ… حتى تظهر الفتن ويكثر الهرج.
قالوا: وما الهرج؟
قال (صلَّى الله عليه وآلِهِ وسلَّم): القتل القتل».

• وعنه (صلَّى الله عليه وآلِهِ وسلَّم):
«ستكون من بعدي فتن… يكون فيها حرب وهرب، ثمَّ بعدها فتنٌ أشدُّ منها، ثمَّ تكون فتنةٌ كلّما قيل: انقطعتْ تمادتْ، حتى لا يبقى بيتٌ إلَّا دخلته، ولا مسلمٌ إلَّا صكَّتْهُ، حتَّى يخرج رجل من عترتي».

• وجاء في تأويل قوله تعالى: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾ [البقرة: 155]
عن الإمام الصَّادق (عليه السَّلام):
– «﴿بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفِ﴾: من الملوك والحكام.
– ﴿وَالْجُوعِ﴾: غلاء الأسعار.
– ﴿وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ﴾: فساد التجارات وقلة الفضل فيها.
– ﴿وَالأنفُسِ﴾: موت ذريع.
– ﴿وَالثَّمَرَاتِ﴾: قلَّة ريع ما يزرع، وقلَّة بركة الثِّمار.
– ﴿وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾: عند ذلك يخرج القائم (عليه السَّلام)».

• وفي حديثٍ عن النبيِّ (صلَّى الله عليه وآلِهِ وسلَّم) يتحدث عن آخر الزمان:
«إذا صارت الدُّنيا هَرَجًا ومَرجًا، وتظاهرتْ الفتن، وتقطَّعت السُّبل، وأغار بعضهم على بعض…».
إذن (الفتن والرُعبُ والقتل) هي سمةُ جاهليةِ هذا العصر…
وأمَّا الحديثُ عن (الفسادِ والتبرُّجِ والدَّعارة) في جاهليةِ العصر فيأتي في لقاء قادمٍ إنْ شاء الله تعالى.

كلماتٌ لأمير المؤمنين (عليه السَّلام):
• جاء في إحدى خطب أمير المؤمنين (عليه السَّلام) أنَّه قال:
«فاعتبرُوا بما أصابَ الأممَ المُسْتكبرينَ قبلكم من بأسِ اللهِ وصولاتِه ووقائعِهِ ومَثُلاتِه [يعني عقوباتِه]».

ما أحوج واقعنا الرَّاهن إلى هذا التوجيه، فلو اتَّعظَ السَّاسةُ والقادةُ وزعماءُ السِّياسةِ ومواقعُ الدِّين، وأصحابُ الفكر، وكلَّ المتصدِّين لشؤونِ النَّاسِ، لو اتَّعظوا بما حدث لغيرهم من عقوباتٍ إلهيةٍ، ومن نتائجَ مُفجعةٍ، ومصائرَ مُرعبةٍ، لكانت الأوضاعُ غير الأوضاع، والمآلاتُ غير المآلات، ولانصلحت شؤونُ المجتمعاتِ والشعوب، ولانتهتْ الأزمات التي كلَّفتْ الأوطانَ أثمانًا باهظةً وشاقةً ومكلفةً.

إنَّ السُّنن الإلهية ثابتةٌ لا تتغيَّر إلَّا أنَّ البشرَ لا يقرأون هذه السُّنَنَ، ولو قرأوها واستوعبوها جيِّدًا لما تكرَّرتْ الأخطاءُ والإخفاقاتُ والتجاوزاتُ والأزماتُ السِّياسيةُ والأمنيةُ والاجتماعيةُ والاقتصادية…

• قال الله تعالى:
﴿وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلًا وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلًا﴾ [فاطر: 43].
الأمم الماضية التي تمرَّدتْ على منهج الله، ومارست السَّيئات، وارتكبتْ الموبقات، واعتدتْ، وظلمتْ، وأفسدتْ في الأرض… ماذا كانَ مصيرُها، ومآلها؟
حلَّ بها العذابُ والدَّمارُ، وهذه سنَّة الله في الأرض لا تبدّل ولا تحوّل لها… فكما جرتْ للسَّابقين تجري لمن يأتي بعدهم…

ومهما تمترسَتْ الأممُ والكياناتُ الحاكمةُ بأعتى القِوى والتحصيناتِ، فلا يمكنْ أنْ تفلتَ من هيمنةِ السُّننِ الإلهيةِ، فإرادةُ اللهِ لا إرادةَ فوقَها، وقُدرةُ اللهِ لا قدرة فوقها ﴿وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعْجِزَهُ مِن شَيْئٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ﴾[فاطر: 44].
فالكلمةُ لأمير المؤمنين (عليه السَّلام) تؤكِّد (قيمة الاعتبار بما جرى للأمم السَّابقة المستكبرة وما أصابها من بأسِ اللهِ وصولاتِهِ وعقوباتِه).

• وفي كلمةٍ أخرى لأمير المؤمنين (عليه السَّلام) قالت:
«وإنَّ لكم في القرونِ السَّالفةِ لعبرةٌ، أينَ العمالقةُ وأبناء العمالقةِ؟ أينَ الفراعنةُ وأبناءُ الفراعنة؟ أين أصحابُ مدائن الرَّسّ الذين قتلوا النبيِّين، وأطفأوا سُنَن المُرسلين، وأحَيَوُا سُنَنَ الجبَّارين»
وتتابعُ الخطبةَ لأمير المؤمنين (عليه السَّلام) وهي تَصفُ أحوالَ الأممِ السَّالفةِ حيث أصابها (الشَتَاتُ والخلافُ والتمزُّقُ) وكان مآلها إلى الدَّمارِ والانهيار والزَّوالِ.

وفي خمسِ كلماتٍ أوجزتْ الخطبةُ ما أصابَ تلكَ الأُمَم:
•«وقعت الفُرقةُ».
•«وتشتَّتْ الأُلفةُ».
•«واختلفتْ الكلمةُ والأفئدةُ».
•«وتشعَّبُوا مختلفين».
•«وتفرَّقُوا متحاربين [أو متحازبين]».
وبعد أن حَدَثَ كلُّ هذا «خلع اللهُ عنهم لباسَ كرامتِهِ، وسَلَبَهُم غَضَارةَ نعمتِهِ».

والسؤال الذّي يُطرح هنا:
هل يمكن أنْ نُسقط هذه الكلماتِ الخمسَ الصَّادرة عن أميرِ المؤمنين (عليه السَّلام) على واقعِ المسلمين في زمانِهم الراهن؟

الجواب:
يمكنُ بكلِّ تأكيدٍ أنْ نُسقطَ هذه الكلمات على واقع المسلمين الحاضر، فهي منطبقةٌ كلَّ الانطباقِ على هذا الواقع…
ومن الطبيعي أنْ تكونَ المآلات هي نفس المآلاتُ التي حدثت للأمم السَّالفة، والنتائج هي النتائج.

فالتنازع والخلافُ والتَّشتُّتُ والتحارب هي المنتجاتُ الخطيرةُ للضعفِ والانهيار، والانكسارُ والانهزام، ولكلِّ المآلاتِ المدمِّرة، والنتائج المرعبة.

في الحديث القادم إن شاء الله تعالى نحاول أنْ نمارس إسقاطًا لكلماتِ أمير المؤمنين (عليه السَّلام) على واقع المسلمين في العصر الحاضر.

وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى