حديث الجمعةشهر ربيع الأول

حديث الجمعة 36: الأَحوَال الشَّخْصِيَّة وصَيْحات التَّقْنين الوَضعيّ ج4

حديث الجمعة 36 | 27 ربيع الأول 1424 ه | 29 مايو 2003 م | المكان: مسجد الإمام الصادق (ع) | القفول - البحرين

الحمد للّه ربّ العالمين والصَّلاة والسَّلام على سيدنا ونبينا وحبيبنا وقائدنا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين،
السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

أيّها الأحبة: أتابع معكم الحديث في قضية الأحوال الشخصية، وقد يسأل البعض: لماذا هذا الإستغراق في هذه القضية على حساب قضايا أخرى هامة في الساحة؟ وهل تتصدّر هذه المسألة قائمة الأولويات؟ ثمَّ ألم يُشبَع الحديث في هذا الموضوع فلماذا هذا الزخم من الأحاديث والكلمات والمحاضرات وقد أصبحت الفكرة واضحة؟
إنّنا نعتقد أنَّ المسألة تملك الكثير الكثير من الأهمية، وتملك الكثير الكثير من الخطورة، مما يفرض المزيد من القول، والمزيد من التوضيح،  والمزيد من التصدّي، وإنّ المسؤولية الشرعية لا تسمح لنا بالصمت والاسترخاء في مسألة بهذا المستوى من الأهمية والخطورة تمسّ الأعراض والأنساب، وإنّه ليؤسفنا أن نسمع كلماتٍ تقال هنا أو هناك، كلماتٍ مرتجلة وغير مسئولة تتهم موقفنا بأنّه ينطلق من حسابات ذاتية شخصانية، أومن خلفيات طائفية، أو من إعتبارات سياسية، أو من فهم ساذج لم يستوعب ضرورات المرحلة أو من محاولات تستهدف إرباك مسيرة الإصلاح…. و… و… إلى آخر المقولات الظالمة الجائرة التي يسّوق لها هؤلاء بقصد متعمد للإساءة إلى موقف العلماء وموقف الإسلاميين الواعين المخلصين، وقد تعبّر بعض هذه المقولات عن جهل أصحابها إنّ أحسنا الظن.

أيهّا الأحبة:
إننــّا في هذا الموقف ننطلق من رؤية أصيلة ومن فهم مدروس، ومن تكليف شرعي لا نجد أنفسنا معذورين في التخلي عنه، هذا منطلقنا، فليقل الآخرون ما يشاءون، وليجذّفوا ما حلى لهم التجذيف، وليتهموا إنْ خانهم الإنصاف، والغريب أنّهم يتشنجون لكلمةٍ قالها عالم تعبّر عن قناعةٍ إيمانية صادقة، وتعبّر عن موقف مبدئي أصيل، ثمّ هم يطلقون الكلمات مشحونة بالشتائم والإساءات.

لنتجاوز هذا فلن يثنينا كل ما يقال عن ممارسة مسئوليتنا الشرعية في التصدّي لكل ما نعتقد أنّه يشكل خطراً على الدين، وعلى أحكام الشريعة.
ورغم هذا الوضوح في الموقف، فلا زال البعض من المؤمنين يشكّك، ولا زال البعض متردداً في التوقيع على العريضة الشعبية، ومن حقنا أن نتساءل وأن نستغرب ألا يكفي قرابة المائتين من علماء وأساتذة وطلاب الحوزة يوقّعون على عريضة؟! وفيهم أسماء كبيرة ومعروفة ألا يكفي ذلك في تحديد الوظيفة وفي تحديد التكليف؟ ألا يكفي ذلك في خلق الإطمئنان وفي خلق القناعة؟! وعلى كلّ حال فإنَّ هذا التشكيك، وهذا التردد لا يشكّلان ظاهرة كبيرة تبعث على الخوف والقلق مادام الإتجاه العام لدى جماهيرنا المؤمنة هو الإستجابة والتفاعل،  كما يعبّر عن ذلك الإقبال الكبير على التوقيعات، وإننّا نثمّن ونبارك هذا الحس الإيماني النابض، وهذه الحرارة المبدئية الصادقة، وهذا الوعي الإسلامي الأصيل.

أيهّا الأحبة:
إستمراراً لمناقشة الأفكار التي أثارها المؤتمر الصحفي الذي عقدته لجنة الأحوال الشخصية-كما تسمي نفسها-وذلك في الإسبوع الماضي، نتابع هذه الوقفات:
الوقفة الثانية:
أعلنت اللجنة المذكورة أنّها بصدد رفع خطاب موجه إلى ملك البلاد للمطالبة بإصدار قانون الأحوال الشخصية،  وقالت اللجنة أنّها «ستجمع التواقيع لهذا الخطاب من الجمعيات السّياسية والنسائية والمواطنين» وسيرافق هذه الخطوات «حملة توعية شاملة تمتد للمآتم والمراكز الدينية»
ونضع هنا مجموعة ملاحظات:
الملاحظة الأولى:
إنّ هذا الكلام يعبّر عن حالة من الإستنفار لدى هؤلاء في إتجاه الدفاع عن موقفهم، ويعبّر عن عزم وتصميم لإختراق المواقع الدينية، كونهم يعلمون أنَّ هذه المواقع هي مراكز التأثير في الجماهير المؤمنة، وهذا الكلام يفرض علينا أن نستنفر كلّ إمكاناتنا ووسائلنا في التصدّي للمشروع، وفي المواجهة الواعية وفي الرفض الهادف، وإنَّ أيّ صمتٍ أو إسترخاءٍ أو تنازلٍ  سوف يحملّنا جميعاً وعلى كلّ المستويات أخطر مسئولية أمام الله سبحانه، وأمام إسلامنا وديننا وقيمنا، وأمام حاضرنا ومستقبلنا، إنّ الأخرين لا ترضيهم هذه اللغة، ويروّن أنّ توظيف اللغة الدينية في توجيه الجماهير فيما هي قضايا السّياسة، وفيما هي قضايا الثقافة وفيما هي قضايا الإجتماع أمر لا مبرر له.

ونحن لا نستكثر على هؤلاء أن يزعجهم هذا اللون من الخطاب، فهم أساساً لا يؤمنون بحق الدين أن يتدخل في شئون السّياسة وفي شؤون الثقافة وفي شؤون الإقتصاد وفي كل شئون الحياة الاجتماعية ويريدون للدين أن يتجمد في شؤون العبادة، ولكنهّم غاب عنهم أننا نفهم العبادة عنواناً كبيراً يمتد إلى دنيا السّياسة، وإلى دنيا الثقافة، وإلى دنيا الإقتصاد وإلى كل مواقع الحياة.
وإذا كنا لا نستكثر على هؤلاء هذا الموقف، كونهم لا يؤمنون بالدين، وبوظيفة الدين.

إلاّ أننّا نستكثر على أولئك الذين يزعمون لأنفسهم أنّهم يملكون خطاب الدين، وإذا اللغة هي اللغة، ماذا يريد أن يقول حافظ الشيخ؟
أنا لا أريد هنا أن أتناول خطاباته التي ما فتأت تزرع الفتنة المذهبية والفتنة الطائفية، وفتأت تؤجج الأحقاد والضغائن والعداوات والصراعات، وكأنّه معني بهذه المهمة تماماً.

هذا الموضوع لنا معه وقفات أخرى في حديث آخر وما يهمنا هنا، حديث له نشر قبل أيام،  وقد وضع نفسه واعظاً وموّجهاً ومرشداً لمشايخ الدين، وما أسوء هذا الزمان الذي يتحول فيه مشايخ الدين إلى تلامذة صغار في مدرسة حافظ الشيخ، وإن عشت أراك الدهر عجباً.
ماذا يريد حافظ الشيخ – الأستاذ الموجّه لأئمة المساجد – ماذا يريد لهؤلاء الأئمة والمشايخ؟
إنّه يقول: أنّ هؤلاء الشيوخ الأفاضل مقامهم مقام دين وعبادة وإرشاد، لا مقام سياسة وقوانين وضعية اقتضتها التحولات المعاصرة في المجتمع وضرورتها التنموية البشرية.

هكذا يعلّمنا حافظ الشيخ أن نكون شيوخاً محنــّـطين ومجمّدين ومشلولين، نترهب في المساجد كما يترهبن الكهان في الأديرة والصوامع، فمقامنا مقام دين ولكنه دين مشلول لا حراك له ولا حياة، لأنّه محظور عليه أن يتحرك في مساحات تغطي القسم الأكبر في حياة الإنسان.
ومقامنا مقام عبادة ولكنها العبادة الكسيحة، التي لا تقول: لا للمنكر السّياسي، ولا تقول لا للمنكر الثقافي، ولا تقول لا للمنكر الإجتماعي لأن هذا يؤدي-حسب مدرسة حافظ الشيخ-إلى تلوث العبادة الروحانية، فتفقد العبادة صفاءها وتفقد العبادة سموها الروحي والإيماني والنوراني.
كم يفرح الحكّام والساسة والمتسلطون أن تتحول شعوبهم بأكملها إلى عبّاد ونــّساك ولكن من هذا الطراز.

وكم تفرح أمريكا أن يتحول كل العرب والمسلمين حكاماً وشعوباً إلى عبّاد من هذا الطراز، فالعبادة من هذا الطراز لن تشكل إرهاباً في المنظور الأمريكي، ولن تشكّل عنفاً في حسابات بوش، ولن تشكّل قلقاً لأنظمة الحكم والسّياسة.

وكم هي مهمة كبيرة يمارسها هؤلاء الكتــّاب في خدمة هذه الأهداف.
ومقامنا مقام إرشاد، ولكنـّه إرشاد محظور عليه أن يتجاوز الخطوط الحمراء، ومن الذي وضع هذه الخطوط الحمراء؟ أمريكا، قوى الإستكبار، أنظمة الحكم، تيارات التغريب والعلمنة، قوى الجهل والتخلف، وهكذا يصبح الإرشاد محاصراً بخطوط حمراء مكثفة ومشدّدة، فماذا بقى لنا من الدين والعبادة والإرشاد؟!

الملاحظة الثانية: الدور الكبير الذي تتحمله المراكز الدينية.
إنّ المساجد والمآتم والمراكز الدينية منطلقات لتأصيل خط الله في الأرض، ومنطلقات لإنتاج حالة الإنتماء إلى مبادىء الإسلام، وقيم الدين، وأهداف الرسالة الربانية، ومنطلقات لصياغة إنسان العقيدة والمبدأ، ولصياغة حركة الحياة وفق منهج السماء.
ومنطلقات تصدّي ومواجهة لكلّ التيارات التي تشكّل خطراً على الدين والرسالة.
ومنطلقات توعية وإرشاد وتوجيه لكل مسارات الواقع الإيماني والروحي والأخلاقي والثقافي والإجتماعي والسّياسي حسب ما يريد الله سبحانه وحسب ما يريد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وحسب ما يريد أئمة الهدى من أهل البيت (عليهم أفضل الصلوات وأزكى التحيات).
هذه أهداف المساجد والمآتم والمراكز الدينية، فمسئوليتنا أن نحافظ على هذه الأهداف، وإن أيّ توظيف لهذه المواقع بما يتنافى مع هذه الأهداف هو انحراف خطير لا يسعنا السكوت عليه، ووظيفتنا التصدّي له.
قد يقال: إنّكم بهذا تصادرون الرأي الآخر، والدين لا يصادر الرأي الآخر. المسألة ليست مصادرة للرأي الآخر، الرأي الآخر له مواقعه التي ينطلق منها، ونحن نؤمن بالحوار مع الآخر، ولكن لمواقعنا الدينية أهدافها المقدسة التي لا يجوز المساس بها.
أترون أنّه من الجائز أن نمكّن إنساناً يدعو إلى عبادة الشيطان أن يمارس دعوته من خلال محراب العبادة لله سبحانه، هذا مجرد مثال ولا أريد أن أتهم أحداً، ولا يجوز لي أن أتهم أحداً بلا دليل ولا برهان، ولكنه مثال نسوقه ونسوق أمثلة أخرى لتوضيح أساس المبدأ.
أترون أنه من الجائز أن نمكّن إنساناً يدعو إلى المنكر والباطل أن يمارس دعوته من خلال المسجد والمأتم؟
أترون أنه من الجائز أن نمكّن إنساناً يدعو إلى الضلال – الضلال العقيدي، الضلال الثقافي، الضلال الأخلاقي، الضلال الإجتماعي، الضلال السياسي – أن يمارس ذلك من خلال المسجد والمآتم؟
التطبيقات في حاجة إلى دراسة واعية بصيرة.
الملاحظة الثالثة:
وحسب تصريح البيان الصادر عن لجنة الأحوال الشخصية – كما هي التسمية المطروحة -أنّهم سيقومون بجمع توقيعات المواطنين لدعم مشروعهم، أنـّـنا ليس من حقنا أن نمنع أحداً أن يحرّك أيّ عريضة بين الجماهير لاستقطاب الدعم والتأييد في قضية يؤمن بها، إلاَّ أنـّـنا من حقنا أن نمارس توعية الجماهير في إتجاه الأهداف التي نؤمن بها، كما يمارس الآخرون حقهم في توعية الناس في إتجاه الأهداف التي يؤمنون بها.
ومن الغريب أن هؤلاء يعتمدون كل المواقع لخطاب الناس، يعتمدون الصحافة، وسائل الإعلام، الجمعيات، مراكز الثقافة من أجل ما يسمونه بالتوعية الشاملة، ثم يعترضون علينا أن نعتمد المساجد والمنابر من أجل توعية الناس في خط الأهداف التي نؤمن بها؟!
وإنطلاقاً من حقنا في التوعية والإرشاد ننبه أبناء هذا الشعب رجالاً ونساءً أن يكونوا في أقصى درجات الوعي والحذر كي لا يقعوا في إستدراجات خطيرة – حسب ما نعتقد – وهذه الإستدراجات تعتمد عناوين مقبولة جداً عند الناس: الدفاع عن حقوق المرأة، تنظيم شئون الأسرة، إصلاح وضع القضاء، هذه عناوين نحن لا نرفضها، وندافع عنها بقوة، إلا أنـّـنا نختلف مع هؤلاء في الآليات المعتمدة لتحقيق هذه الأهداف،
إنـّـنا نعتبر تمكين البرلمان من التدخل في التشريع لقضايانا الدينية التي لا زالت خارج الهيمنة المدنية أمر له خطورته الكبيرة جداً إن عاجلاً أو آجلاً على هذه المساحة التي تضم زواجنا وطلاقنا وأنسابنا ووصايانا ومواريثنا.
ولذلك فإننا نعتبر التوقيع على أيّ عريضة تطالب بهذا التمكين مساهمة في عمل غير مشروع فقهياً – حسب وجهة نظرنا الدينية – ونترك للآخرين وجهة نظرهم، فقد يرونه عملاً واجباً، وقد يرونه عملاً وطنياً. هذه وجهة نظرهم يتحملون مسئوليتها، غير أنّ مسئوليتنا الشرعية تحتم علينا أن نقول لأبناء شعبنا أنّ المطالبة بتمكين البرلمان من إقتحام هذا الشأن أمر يتنافى تماماً مع القناعات الفقهية الملزمة لنا شرعاً، وإنّ الغالبية من أبناء هذا الشعب ليست على استعداد أن تتجاوز هذه القناعات الفقهية ثقة منها برموزها وعلمائها الذين أعطتهم كل الحب والولاء.
ونحن لا نرى في هذا الموقف ما يسيء إلى خطوات الإصلاح السّياسي، والنهج الديمقراطي، والذي هو شعار هذه المرحلة.
ومن المؤسف أن بعض اللاعبين بالكلمات، والمتاجرين بالشعارات، أثاروها ضجة مفتعلة ورائها ما ورائها، تعالى الضجيج والبكاء والعويل، فخطوات الإصلاح السّياسي أصبحت مهددة، والنهج الديمقراطي أصبح مهدداً، ومشروعات التغيير أصبحت مهددة.
لماذا؟ لأنَّ علماء الدين قالوا«لا لسرقة الأحوال الشخصية» و«لا لهيمنة المؤسسة الوضعية على أحكام الشريعة».
إننّا نسأل هؤلاء الذين أثاروا الصخب والضجيج في الصحف والمنتديات والمؤتمرات، يتباكون الإصلاح السّياسي، والنهج الديمقراطي، والثوابت الدستورية لأنَّ علماء الدين أعلنوا رفضهم أن يتدخل البرلمان في شأن الأحوال الشخصية.
٭ نسأل هؤلاء: هل أن المشروع السّياسي الذي تندبونه قد استكمل مكوّناته؟
٭ هل ترسمت خطواته الصحيحة؟
٭ هل انتهت إشكالاته؟
٭ وهل أنَّ النهج الديمقراطي الذي تتباكونه قد تأسست صياغاته؟
٭ وهل تشكّلت معالمه؟
٭ وهل تحركت تفعيلاته؟
فلماذا لا ترتفع أصواتكم قوية جريئة في التصدّي للتهديدات الحقيقية التي تواجه المشروع السّياسي؟، والتهديدات الحقيقية التي تواجه النهج الديمقراطي؟
أم أنَّ المسألة هنا لها حساباتها الخاصة؟
قد أدركنا الوقت، نواصل حديثنا – إن شاء الله – في اللقاء القادم.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى