حديث الجمعةشهر جمادى الأولى

حديث الجمعة 243: وهكذا تستمر محنةُ شعبنا في البحرين

بسم الله الرحمن الرحيم


الحمد لله ربِّ العالمين وأفضل الصلوات على سيّد الأنبياء والمرسلين محمدٍ وعلى آله الهداة الميامين.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.


وهكذا تستمر محنةُ شعبنا في البحرين


جراحاتٌ نازفة، قوافل شهداء، صرخات يتامى، آهاتُ أرامل ، دموع ثكالى، مداهمات منازل، ملاحقات، اعتقالات…
لماذا كلّ هذا؟
ألأَنّ هذا الشعب طالب بحقوقه، بالعدالة، بالكرامة؟
ألم يعبِّر هؤلاء النّاس في أصعب المنعطفات التي مرّ بها هذا الوطن عن حبّهم وولائهم لهذه الأرض؟ فهل يكون جزاؤهم هذا البطش والقتل وهذا الاستنفار والتجييش؟
﴿حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾ (آل عمران/173)


أيّها الأحبّة الأطايب:
وفي زحمة الأحداث المتلاحقة التي يمّر بها هذا البلد الجريح، نجد أنفسنا في حاجةٍ إلى قراءةٍ مستمرةٍ للأوضاعِ، نحاولُ من خلالها أن نرصد تطوّراتِ المشهد السيّاسي بكلّ تداعياته وتعقيداته…


وهذه بعضُ نقاطٍ في سياق هذه القراءة:
النقطة الأولى:
ما كان خيارُ البطشِ والفتكِ وسفكِ الدماءِ خيارًا صائبًا، هذا الخيارُ كان خطأ فاحشًا.
ربّما يُقال: إنّ النظامَ قد اضطر لهذا الخيار..
هذا وهمٌ كبير، أوقع السلطة في منزلقٍ صعب..
لقد حشّدَ إعلامُ النظامِ لهذا الخيار..
وحشّد الخطابُ الموالي للنظامِ لهذا الخيار…
هذه خطيئةٌ سوف يُحاسبُ عليها كلّ الذين أنتجوها، وحشّدوا لها، ودفعوا في اتجاهها.
مع بداياتِ الأحداثِ كان بالإمكان احتواءُ الموقف، إلاّ أنّ ردّة الفعل الرسمي اتّسمت بالعُنفِ المُفرط، ممّا دفعت في اتجاه التصعيد والتأزيم…
وحدَث هدوء.. وجاءت دعوةُ الحوارِ، وما كانت دعوةً مرفوضةً، وقد قدّمت القوى السيّاسية ورقةً تحملُ خارطةَ طريقٍ لهذا الحوارِ، ليكون حوارًا منتجًا وقادرًا على أن ينقذ البلد من مأزقِهِ الصعب…
وجاءَ الردُّ الرسمي مبهمًا في حاجةٍ إلى مزيدٍ من الوضوح، وطالبت القوى السيّاسية بدرجةٍ أكبر من الوضوح والشفافية ليبدأ الحوار…
وإذا بنا نُفَاجأ بتصعيدٍ غير مسبوقٍ، وببطشٍ غير مُبّررٍ، وبتحشيد جيوشٍ، ومعدّاتِ حرب..


لماذا كلُّ هذا؟
لمواجهةِ شعبٍ أعزل صرخ يطالبُ بحقوقه؟!
ربّما حدثت بعضُ انفعالاتٍ في الشارع، وربّما صرخت بعضُ شعاراتٍ أزعجت النظام، وربّما اندفعت بعض حراكاتٍ هنا أو هناك أقلقت السلطة، إلاّ أنّ كلّ هذا لا يبّرر أبدًا قرارَ البطشِ، والفتكِ، والتصعيد، والتحشيد…
لقد ضجَّ العالم شاجبًا هذا الاستخدام المُفرط للقوة، ولا زالت الأصوات ترتفع مطالبةً بإيقافِ العنفِ ضدّ الشعب، وبالاستجابة لمطالبه العادلةِ.
أما آن الأوان أن يُعيد النظام حساباته، فما عاد خيار العنف والقتل والبطش هو الخيار القادر على أن يعالج الأوضاع، وإن طال الزمن.
ربّما يقع البطش على الأجساد، إلاّ أنّ الإرادات لا سلطانَ للبطش عليها، ما نصرُّ عليه في هذه المرحلةِ أن يتوقّف هذا النزفُ للدماء، وأن يتوقّف هذا التحشيد، فما لم يتوقّف خيار العسكرة، والتجييش، وسفك الدماء، ونشر الرعب، وممارسات التخريب التي طالت مساجد وحسينيات، فالبلد يتحرك في اتجاه منزلقٍ خطير خطير جدًا…


النقطة الثانية:
إنّ المحنة التي يمرُّ بها شعبنا في هذه المرحلة الصعبة، تفرضُ علينا مزيدًا من الصبر والمصابرة والاحتساب، والثقة بالله تعالى، والتوكّل عليه..
﴿وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَإِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ (الأنفال/49)
﴿وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ﴾ (الطلاق/3)
﴿الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾ (النحل/42)


وحينما نصرُّ أن نصبر ونصابر فهذا يعني:
1- أن تبقى مطالبنا العادلة قائمة، ما دمنا واثقين أنّها مطالب مشروعة، ولا يجوز أبدًا التنازل عن هذه المطالب، وإن كلّفنا ذلك ثمنًا باهضًا، إنّ المطالبة بنظامٍ سياسيٍ عادل، يوفّر للشعب حرّيته، وكرامته، وجميع حقوقه، ويمنحه حقّ المشاركة في الحكم وِفق ما تفرضه دساتير الدول المتحضّرة، الحديثة، هذه المطالبة لا تشكّل جناية تواجَه بالقمع والبطش والقتل، وإنّما هي ممارسة مشروعة تقرّها كلّ القوانين.


2- أن تبقى وسائلنا في المطالبة سلميّة…
فمنذ أن انطلقت الحركة المطلبيّة، كان الخيار السلمي هو شعارها، ورغم القسوة التي وُوجهت به هذه الحركة، ما جنحت للعنف والصدام، وماذا يملكُ الناسُ غير قبضات الأيدي، وصرخات الحناجر، إلاّ إذا كانت هذه وسائل عنفٍ وإرهاب في نظر الأنظمة السّياسية الحاكمة..
قلنا ولا زلنا نقول أنّنا مع الوسائل السلميّة، إلاّ أنّ النظام أصبح يضيق بأيّ أسلوبٍ مهما كان سلميًا وحضاريًا، فالمسيرات، والاعتصامات، والتجمّعات، والندوات محظورة، غير أنّه لا زال أمام الناسِ الكثير من الخيارات السلميّة..
ربّما سمعنا، ولا زلنا نسمع من يقول: إنّ بعضًا من الممارسات التي تحرّكت كانت غير سلميّة كإغلاق الشوارع، وتعطيل بعض المواقع الحيويّة، والتواجد في مناطق التوتّر والاحتكاك…


بغضِّ النظر عن صحّة أو خطأ هذا الكلام، فمن الواضح أنّه كان لنا موقف من بعض الممارسات، وأعلنّا ذلك صريحًا، فلا معنى أن يتّخذ النظام مبرِّرًا لضرب كلّ الفعّاليات السلميّة، والتي تُشكّل الخيار الأوسع في الشارع المطالب بالحقوق، أو مبرّرًا لإعلان أحكام الطوارئ أو لاستدعاء جيوشٍ من خارج الوطن، الأمر الذي أنتج مزيدًا من التعقيد والتأزيم والاحتقان، مهما صفّق المصفّقون لنصر موهوم، ولحسمٍ فاشل، أيُّ نصرٍ هذا الذي أحدث جرحًا عميقًا في كلّ قلب، وأيّ حسمٍ هذا الذي قتل الثقة في كلّ النفوس، وأوجد شرخًا كبيرًا سوف يعقّد المشهد أكثر وأكثر…


النقطة الثالثة:
من أخطر ما تواجهه البحرين في هذه المرحلة من تاريخها هذا الإنتاج للمشروع الطائفي، والذي بدأ يترّسم حالات عنفٍ وتطرّفٍ، منذرةً بمآلاتٍ مدمّرةٍ لن تترك أخضر ولا يابس إلاّ وأحرقته، إذا أصرّ مصنِّعو هذا المشروع على الاستمرار في تسويقه، واللعب بأوراقه.
ربّما يُقال بأنّ الحراك السّياسي المطالب بالحقوق هو الذي هيّأ الأجواء لإنتاج المشروع الطائفي، فتداعيات الموقف السيّاسي الشعبي دفعت في اتجاه توتّرات، واحتقانات، وصدامات ذات صبغةٍ طائفيّة ومذهبيّة، كما حدث في المدارس المختلطة وفي المناطق المختلطة…
هذا القول ليس صحيحًا، والهدف منه الإساءة للحراك السيّاسي الشعبي، والتعتيم على الجهات الحقيقيّة التي تحرّك أوراق اللعبة الطائفيّة، هذه الجهات التي أرادت أن تواجه الحراك السيّاسي المطالب بالحقوق من خلالِ إلهاءِ السّاحةِ بصراعاتٍ طائفيةٍ، واحتراباتٍ مذهبيّة، وهذا ما تمارسه الكثير من الأنظمة السّياسية الحاكمة في البلدان التي تضمّ مكوّنات طائفيّة ومذهبيةّ وقوميّة متنوّعة، وذلك حينما تفشل في مواجهة الحراكات الشعبيّة الرافضة لسياساتها…
وإذا كانت بعضُ مكوّنات شعبنا في البحرين ترى أنّ أيّ استهدافٍ لسياسات النظام الحاكم هو استهداف لها فهذا خطأ فاحش، وفهمٌ ملتبسٌ، ورأيٌ واهمٌ…


أتساءل:
حينما ترتفع أصواتٌ تُطالب بالإصلاح السّياسي، بالدستور، بالبرلمان كامل الصلاحيات، بالحكومة المنتخبة، بالدوائر الانتخابيّة العادلة… هل يشكّلُ هذا استهدافًا لمكوّن من مكوّنات هذا الشعب؟
حينما ترتفعُ أصواتٌ تحارب الظلمَ، الفسادَ، العبثَ بأموال الشعب، التمييزَ، البطالةَ، القهر، الحرمان…
هل يُشكّلُ هذا استهدافًا لمكوّنٍ من مكوّنات هذا الشعب؟
لماذا هذا الخلط للأوراق، من أجل الإساءة لمطالب الشعب العادلة، ومن أجل إرباك الحراك السّياسي النظيف، ومن أجل الدفع في اتجاه المعترك الطائفي..؟


النقطة الرابعة:
كيف تعاطى الإعلام مع حركة شعبنا؟
سوف أترك لكم أن تقولوا كلمتكم حول إعلامنا المحلّي… فأنتم تُتابعون هذا الإعلام، وأنتم تُعايشون ما يتحرّك على الأرض…
فكم هي صدقيّةُ هذا الإعلام؟
وكم هي حياديّتُه؟
وكم هي نزاهتُه؟
هل هو إعلامٌ ينقل الصورة، والمشهد، والحراك بلا تحريف، ولا تزوير؟
هل هو إعلامٌ لا يقلب الأبيضَ أسود، والأسود أبيض؟
هل هو إعلامٌ ينظر بعينٍ بصيرةٍ أم بعينٍ حولاء؟
هل هو إعلامٌ يملك ضمير المهنة أم تحكمه مزاجيّة الهوى؟
هل هو إعلام محبّةٍ وأُلفةٍ ووحدةٍ، أم هو إعلامُ فتنةٍ وحشدٍ وشحنٍ وتحريض؟
تلك أسئلة أترك إجاباتها لكم؟
إلاّ أنّي أقول:
مطلوب أن يكون الإعلام نزيهًا، صادقًا، حياديًّا، ينقل الصورة بعيدًا عن التزوير والتشويه والتحريف، وبعيدًا عن كلّ الإملاءات، إلاّ إملاءات الحقّ والضمير والإنصاف.
وإمّا إذا تحدّثنا عن الإعلام الخارجي، فأغلب الدول العربيّة مارست إعلامًا انتقائيًا فاضحًا، فحينما تفجّر الوضع في تونس ومصر، ثمّ في ليبيا واليمن وقف هذا الإعلام إلى جانب الشعوب… وما إن وصلت النوبة إلى البحرين تغيّرت كلُّ الحسابات، وانقلبت المعادلة، فانحاز الإعلام إلى النظام محكومًا بدوافع سياسيّة وطائفيّة، وهكذا الكثير من إعلام العالم، نستثني بعض إعلامٍ كان منصفًا مع قضيّة شعبنا، ولولا هذا البعض من الإعلام لأطبق التآمر على أحداث هذا البلد، ولاختفت الكثير من شواهد الفتك والبطش، وضاعت الحقائق، فكلّ التقدير والاحترام لمواقع الإعلام التي وقفت مع قضيّة هذا الشعب.


النقطة الخامسة:
إلى أين تتجّه الأوضاع في هذا البلد؟
لا أظنُّ أنّ أحدًا ممّن ينتمي إلى هذا الوطن يريد للأوضاع أن تتجّه نحو مزيدٍ من التأزّم، والتوتّر، والاحتقان، والتصعيد…
إلاّ أن إيقاعات المشهد السياسيّ تضعنا أمام مجموعة احتمالات:


الاحتمال الأول:
أن يصرّ النظامُ على اعتماد الخيار الأمني في أقسى أداوته ووسائله من بطشٍ وفتكٍ، وقتل، وملاحقاتٍ واعتقالاتٍ واستنفاراتٍ عسكريّةٍ غير مسبوقةٍ…
أتمنّى أن لا يكون هذا الاحتمال هو خيار النظام، فما عادت خيارات العسكرة والاستنفارات الأمنيّة التي تعتمد القتل والفتك قادرة أن تسكت صرخاتِ الشعوب، وأن تنقذ الأوطان من مآزقها السّياسية.


الاحتمال الثاني:
أن يحدث هدوءٌ واستقرار، وتعود الأمورُ كما كانت قبل هذا التفجّر والاستنفار، ولكن بلا تغييرٍ ولا تعديل ولا إصلاح…
نتمنّى أن يحدثَ الهدوءُ والاستقرار، وتزول كلّ مظاهر التفجّر والاستنفار، إلاّ أنّ الأوضاع سوف تبقى مرشّحةً للانفجار في أيِّ وقتٍ ما لم يحصل تغيير وتعديل وإصلاح، يتجّه إلى إزالة أسباب التأزّم والتوتّر والانفجار… إنّ الإصرار على بقاء الحال على ما كان يعني أن يبقى المأزق السّياسي وتبقى عوامل الاحتقان والغليان…


الاحتمال الثالث:
أن يُمارس النظام بعض إصلاحاتٍ سياسيّة لا تستجيب إلى ضرورات المرحلة، ولا تعبّر عن شيئٍ من طموحات الشعب، ممّا يُبقي الأوضاع مفتوحةً على خياراتِ التأزيم والانفجار، إنّ الترميمات والترقيعات السّياسية لا تقوى على معالجة ما تمرّ به البلاد من مآزق حادّة وصعبة، قادت إلى مآلاتٍ خطيرة، فبعد هذا النزف من الدماء هل يصحّ أن نلوّح للناس بشيئٍ من الفُتات السّياسي، وببعض تعديلاتٍ لا تعبّر عن إرادةٍ جديّةٍ في الإصلاح، ولا تملك القدرة على التخفيف من معاناةِ هذا الشعب، خاصّة بعدما حدث ما حدث ممّا سبب جروحًا عميقة في القلوب يصعبُ اندمالها، وسبّب اغتيالاً كاملاً للثقة…


الاحتمال الرابع:
أن تتجّه الإرادةُ الجديّةُ إلى إصلاحاتٍ سياسيّةٍ حقيقيّةٍ، ترتقي إلى مستوى الاستجابةِ إلى إرادةِ الشعب وطموحاتِه وتطلّعاتِه، في عصرٍ لم تعد خياراتُ الأنظمةِ قادرةً أن تُسقِطَ إراداتِ الشعوبِ، بعد أن انكسر حاجزُ الخوف، إنّ إصرارَ الأنظمةِ الحاكمةِ على تجاهل المتغيّراتِ بما أنتجته من معادلاتٍ جديدة، يضع هذه الأنظمة أمام امتحاناتٍ صعبةٍ لن تخرج منها ناجحةً، مهما تمظهرت بمظاهر النصر والقهر والغلبة، أيّ نصرٍ هذا حينما تخسر الأنظمة حبَّ الناس، وما عاد القهر معيارًا للنصر، ما دامت إراداتُ الشعوب لم تقهر، وما دام الإصرار على المبادئ لم يُهزم…
فمطلوبٌ من أنظمة الحكم أن تتصالح تصالحًا حقيقيًا مع شعوبها، لأنّ الزمن زمن الشعوب…


وفي ختام حديثي، هذه كلمةُ شكرٍ وثناءٍ وتقديرٍ وإكبار موجّهةً إلى كلِّ الذين وقفوا مع شعبنا في محنتِه، في معاناتِه، في صبرِه، في صمودِه، في إصرارِه على المطالبةِ بحقوقِه العادِلة…
إنّنا نثمّن بكلّ فخرٍ واعتزازٍ هذه المواقفَ النبيلةَ الشريفةَ التي انطلقت مِن إحساسٍ صادقٍ بمظلوميّةِ هذا الشعب الأعزل إلاّ من إيمانه بقضيّته…
فشكرنا ودعاؤنا لكلّ الذين أنصفونا، وساندونا، ووقفوا معنا، وحملوا مظلوميّتنا…


وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين…


للاستماع للكلمة

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى