الإمام الحسين الشهيد (ع)من وحي الذكريات

كلمة العلَّامة الغريفي بذكرى مواليد أبطال كربلاء (عليهم السَّلام): إحياء المناسبات الدِّينيَّة

هذه الكلمة للعلَّامة السَّيِّد عبد الله الغريفي، بمناسبة الاحتفال بذكرى مواليد أبطال كربلاء (عليهم السَّلام)، وقد تمَّ بثُّها عبر البثِّ الافتراضي في يوم الخميس (ليلة الجمعة)، بتاريخ: (4 شعبان 1442 هـ – الموافق 18 مارس 2021 م)، وقد تمَّ تفريغها من تسجيل مرئيٍّ، وتنسيقها بما يتناسب وعرضها مكتوبةً للقارئ الكريم.

إحياء المناسبات الدِّينيَّة

أعوذ بالله السَّميع العليم من الشَّيطان الغويِّ الرَّجيم.
بسم الله الرَّحمن الرَّحيم.
الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، وأفضلُ الصَّلوات على سيِّدِ الأنبياء والمرسلين سيِّدنا، ونبيِّنا، وحبيبنا، وقائدنا محمَّدٍ، وعلى آلِهِ الهداة الميامين الطَّيِّبين الطَّاهرين.
السَّلام عليكم أيُّها الأحبَّة جميعًا ورحمة الله وبركاته.

شعبان شهر المناسبات

وبعد، ففي شهر شعبان نلتقي بمجموعة مناسبات دينيَّة، ففي:
1-الثَّالث من شعبان نلتقي بمولد السِّبط الحسين (عليه السَّلام).
2-الرَّابع من شعبان نلتقي بمولد أبي الفضل العبَّاس بن عليٍّ (عليه السَّلام).
3-الخامس من شعبان نلتقي بمولد الإمام زين العابدين (عليه السَّلام).
4-الحادي عشر من شعبان نلتقي بمولد علي الأكبر بن الحسين (عليه السَّلام).
5-الخامس عشر من شعبان نلتقي بمولد الحجَّة المهدي المنتظر (أرواحنا فداه).
هذه مجموعة من المناسبات يحفل بها هذا الشَّهر العظيم، شهر شعبان، شهر رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم).

مرتكزات إحياء المناسبات الدِّينيَّة

إنَّ إحياء هذه المناسبات الدِّينيَّة يعتمد على ثلاثة مرتكزات متكاملة، وغياب أيِّ مرتكز يحدث خللًا في عمليَّة الإحياء للمناسبات الدِّينيَّة.
وهذه المرتكزات هي:
المرتكز الأوَّل: المرتكز الوجدانيُّ.
المرتكز الثَّاني: المرتكز الثَّقافيُّ.
المرتكز الثَّالث: المرتكز العمليُّ.
هذه ثلاثة مرتكزات يعتمدها إحياء المناسبات الدِّينيَّة.
غياب المرتكز الوجدانيِّ يحدث فتورًا وجفافًا في مسألة الإحياء للمناسبات.
وغياب المرتكز الثَّقافيِّ يفقد الإحياء الوعي، والبصيرة.
وغياب المرتكز العملي يُعطِّل حركة الإحياء، وفاعليَّته.
ربَّما توافر الإحياء على كلِّ المرتكزات، وربَّما فقد كلَّ المرتكزات، وربَّما توافر على البعض وفقد الآخر.
ربَّما يتوافر الإحياء على كلِّ المرتكزات وهو النَّموذج، وهو المثال.
وربما يفقد الإحياء كلَّ هل المرتكزات وهو إحياء فاشل!
وربَّما يفقد بعض هذه المرتكزات، فهو إحياء ناقص!
إذن، دعونا نلقي ضوءًا على هذه المرتكزات الثَّلاثة التي هي مرتكزات الإحياء لكلِّ المناسبات الدِّينيَّة، سواء كانت مناسبات فرح، أم مناسبات حزن.

المرتكز الأوَّل: المرتكز الوِجدَانيُّ
الارتباط بمفاهيم الدِّين يجب أنْ يكون مصبوغًا بصبغة شعوريَّة وجدانيَّة، وإلَّا كان ارتباطًا جافًّا، وفاترًا.
علاقتي بالدِّين ليست فقط علاقة فكريَّة ثقافيَّة عقليَّة، لا بدَّ أنْ يكون فيها جنبة وجدانيَّة، وشعورًا، ونبضًا روحيًّا.
أوضِّح الفكرة من خلال بعض الأمثلة:
المثال الأوَّل: الارتباط بالعبادة
هل هو حالة فكريَّة ثقافيَّة بحتة؟، لا.
أ-الصَّلاة
الارتباط بالصَّلاة يجب أنْ يتوافر على الجنبة الوجدانيَّة.
لذلك نحن نرى: (ضرورة الخشوع في الصَّلاة وهو حالة وجدانيَّة)، وليس حالة فكريَّة، وليس حالة عقليَّة، وليس حالة ثقافيَّة، بل الخشوع حالة وجدانيَّة.
إذن، هذا شرط أساس في الصَّلاة، فالصَّلاة بلا خشوع لا قيمة لها.
إذن، هنا نلاحظ أنَّ الصَّلاة تحتاج إلى جنبة وجدانيَّة.
•﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ﴾ (سورة المؤمنون: الآية 1- 2).

ب- الذِّكر، والدُّعاء
الذِّكر: وهو نمط آخر من العبادة.
الذِّكر والدُّعاء، هو ليس مجرَّد خطاب وحديث مع الله تعالى وطلب، لا بدَّ أنْ ينطلق من حالة شعوريَّة وجدانيَّة روحانيَّة.
لاحظوا أنَّ الآيات، والرِّوايات، تؤكِّد على الجَنبة الوجدانيَّة في التَّعاطي مع العبادة.
•قال تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ …﴾ (سورة الأنفال: الآية 2).
الوجل حالة وجدانيَّة، ليس حالة فكريَّة، وليس حالة ثقافيَّة، بل حالة وجدانية شعورية.
•وقال تعالى: ﴿… أَلَا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾ (سورة الرَّعد: الآية 28).
إذن، هنا اطمئنان، والاطمئنان حالة وجدانيَّة.
•وقال تعالى: ﴿وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً …﴾ (سورة الأعراف: الآية 205).
•وقال تعالى: ﴿… يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا …﴾ (سورة السَّجدة: الآية 16).
•قال أمير المؤمنين الإمام عليٌّ (عليه السَّلام): «الذِّكر نور العقول، وحياة النُّفوس، وجلاء الصُّدور» (الرَّيشهري: ميزان الحكمة ٢/١١٣).
•ممَّا أوحى الله تعالى إلى موسى (عليه السَّلام): «يا موسى، كن إذا دعوتني خائفًا مشفِقًا وَجِلًا، وعفِّر وجهك في التُّراب، واسجد لي بمكارم بدنك، واقنت بين يدي في القيام، وناجني حيث تناجيني بخشية من قلب وجل، …» (الرَّيشهري: ميزان الحكمة ٢/٢١).

ج- تلاوة القرآن الكريم
التِّلاوة عبادة تحتاج إلى حالة وجدانيَّة.
•قال تعالى: ﴿… تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللهِ …﴾ (سورة الزُّمر: الآية 23).
الاقشعرار حالة وجدانيَّة.
إذن، التَّعاطي مع العبادة يحتاج إلى جنبة وجدانيَّة.

المثال الثَّاني: التَّعاطي مع التَّقوى
التَّقوى مفهوم إيمانيٌّ إسلاميٌّ دينيٌّ.
هل التَّقوى هي مجرَّد التزام جافٌّ جامد، يعني انضباط؟
صحيح التَّقوى انضباط والتزام، لكنَّ الإسلام يريد لهذا الانضباط ألَّا يأخذ بعده القانونيُّ البحت، افعل أو لا تفعل، هذا أيضًا قانونيٌّ بحت، وإنَّما الإسلام يريد ارتباطي بالتَّقوى مشحون ومصبوغ بجوانب وجدانيَّة، مصبوغ بحبِّ الله تعالى، ومصبوغ بالحياء من الله تعالى، ومصبوغ بالخوف والرَّجاء، هذه أبعاد وجدانيَّة، الحبُّ حالة وجدانيَّة، فأنا أطيع لكن انطلاقًا من حبِّ الله سبحانه، وانطلاقًا من الحياء من الله (عزَّ وجلَّ)، وانطلاقًا من الخوف، وانطلاقًا من الرَّجاء.
إذن، لاحظوا جانب الطَّاعة في التَّقوى ليس حالة قانونيَّة بحتة فاقدة للنَّبض والحرارة، بل فيها حرارة، وفيها نبض.
إذن، الإسلام يريد للتَّقوى أنْ تنصبغ بصبغة روحانيَّة، وبصبغة وجدانيَّة، وبصبغة شعوريَّة.
التَّقوى يصنعها:
أ- حبُّ الله تعالى.
ب- الحياء من الله تعالى.
ج- الخوف، والرَّجاء.
•قال أمير المؤمنين (عليه السَّلام): «استشعروا التَّقوى شعارًا باطنًا» (المجلسي: بحار الأنوار ٧٥/٤١، ح 16).

•وقال (عليه السَّلام): «أوصيكم بتقوى الله، …، وأَشْعِرُوهَا قُلُوبَكُمْ» (نهج البلاغة: خطب الإمام علي (عليه السَّلام)، ص ٢٨٤).

المثال الثَّالث: الأخلاق
الأخلاق ليست منظومة أوامر ونواهي فقط، الأخلاق يجب أنْ تنصبغ بالصِّبغة الوجدانيَّة الرَّوحانيَّة.
حينما نبتسم للنَّاس هل تبتسم قلوبنا؟
الابتسامة حالة خلقيَّة، لكن هل الابتسامة هي ابتسامة فم، أم ابتسامة قلب؟
الإسلام يريد الابتسامة مصبوغة بالجانب القلبيِّ الوجدانيِّ الشُّعوريِّ، وليس فقط ممارسة خارجيَّة فيها جفاف.
أبتسمُ لكن ابتسامة جافَّة، جامدة، خاوية من النَّبض، خاوية من المشاعر الدَّاخليَّة، هذه ليست الابتسامة التي يريدها الدِّين، لأنَّه يريد أخلاقًا لكن مصبوغة بوجدان.
حينما نبتسم مطلوب أنْ تبتسم القلوب.
حينما نصافح النَّاس هل تصافحهم أرواحنا؟
حينما نصافح النَّاس مطلوب أنْ تصافح الأرواح، وإلَّا قد تتصافح الأيدي والأرواح متنافرة.
أيُّ قيمة لتصافح أيدي إذا كانت القلوب متنافرة؟، وإذا كانت الأرواح متنافرة؟
إذن، الإسلام لا يريد الحالة السُّلوكيَّة الجافَّة، بل المشحونة بنبض، وبعاطفة، وبوجدان.
هل عواطفنا مع النَّاس عواطف ربَّانيَّة؟
هل نعيش الشَّفافية، والانفتاح؟
هل تحمل قلوبنا الحبَّ الصَّادق؟
أم أنَّ الكلام أحلى من العسل، والقلوب أمرُّ من الحنظل؟!
الخلاصة: إنَّ الدِّينَ وقِيمه يرتكز على البعد الوجدانيِّ الدَّاخليِّ، ومن خلاله تتشكَّل المسارات الظَّاهريَّة.
فحينما نحتفل بالمناسبات الدِّينيَّة مطلوب أوَّلًا أنْ نمركز هذه المناسبات في وجداننا، وفي قلوبنا، لا بمعنى الفرح السَّاذج البسيط، وإنَّما هو (العشق الحقيقيُّ) الذين ينطلق من عشق الدِّين، وعشق رموز الدِّين.
ومن الوسائل لإنتاج الانصهار الوجدانيِّ مع المناسبات الدِّينيَّة:
1- تركيز الإيمان بالمناسبات.
2- تركيز الولاء للمناسبات الدِّينيَّة.
3- تركيز القيمة العباديَّة للمناسبات (الثَّواب).
4- اعتماد اللُّغة الوجدانيَّة (الشِّعر/ المدائح/ الرِّثاء) هذه كلُّها حالات وجدانيَّة.

وهنا أنبِّه إلى مسألة في غاية الأهمِّية، وهي الحذر كلُّ الحذر من اعتماد أساليب غير مشروعة في إحياء المناسبات الدِّينيَّة، أو أساليب تتنافى مع قداسة هذه المناسبات كاستعمال الألحان المحرَّمة، أو أساليب اللَّهو الباطل.
ربَّما يُطرح هذا السُّؤال: هل يجوز استعمال التَّصفيق في الاحتفالات الدِّينيَّة؟
التَّصفيق في حدِّ ذاته ليس عملًا محرَّمًا كما يُفتي بعض الفقهاء، إلَّا أنَّ هذا العمل يتنافى مع قداسة بعض الأماكن كالمساجد والحسينيَّات، وربَّما يتنافى مع قداسة المناسبات الدِّينيَّة، فلنعتمد (الصَّلوات على محمَّد وآل محمَّد صلَّى الله عليه وآله)، في هذه المناسبات.
وممَّا يؤسف له جدًّا أنَّ بعض الاحتفالات الدِّينيَّة قد فقدت قُدسيَّتَها، وتحوَّلت مجالس طرب ورقص، وهذا عبث خطير بهذه المناسبات، فالفرح لا يعني (الانفلات)، ولا يعني التَّجاوز على الضَّوابط الشَّرعيَّة، فالهدف الأساس لإحياء المناسبات الدِّينيَّة هو تعميق العلاقة بالدِّين وقِيم الدِّين، وتعميق العلاقة مع رموز الدِّين، ولا شكَّ أنَّ هذه الممارسات غير المشروعة تدمِّر العلاقة مع الدِّين، وقيمه، ورموزه.

المرتكز الثَّاني: المرتكز الثَّقافيُّ

(تركيز الأفكار، والمفاهيم التي تحملها المناسبات الدِّينيَّة).
في المرتكز الأوَّل كان الخطاب موجَّه إلى الوجدان والمشاعر، وهنا الخطاب موجَّه إلى العقل والفكر.
وهذا المرتكز الثَّاني له قيمته الكبرى:
أوَّلًا: إنتاج وعي الارتباط بالمناسبات الدِّينيَّة.
ثانيًا: إنتاج قوَّة الارتباط بالمناسبات الدِّينيَّة.
ثالثًا: إنتاج فاعليَّة الارتباط بالمناسبات الدِّينيَّة.
فإذا تمازجت الصِّيغتان (الوجدانيَّة، والعقليَّة) حدث:
1- التَّزاوج بين العقل والوجدان (الوعي، وحرارة الارتباط).
2- تمازج الصِّيغتان يقوِّى الحوافز (حوافز العقل، وحوافز الوجدان).
وبقدر ما تقوى هذه الحوافز يقوى الارتباط بالمناسبات الدِّينيَّة.
وبقدر ما تضعف هذه الحوافز يضعف الارتباط بالمناسبات الدِّينيَّة.
3- تتحرَّك المعطيات العمليَّة بدرجة أكبر.
الوعي له دوره في تنشيط الحَراك العمليِّ.
التَّفاعل الوجدانيُّ له دوره في تنشيط الحَراك العمليِّ.
إذن يوجد ارتباط وجدانيٌّ بالمناسبات، ويوجد ارتباط ثقافيٌّ عقليٌّ.

المرتكز الثَّالث – وهو الأهم -: المرتكز العمليُّ

بقدر ما للمرتكز الوجدانيِّ من قيمة كبرى، وبقدر ما للمرتكز الثَّقافيِّ من قيمة كبرى، فإنَّ القيمة الأساس للمرتكز العمليِّ
فهدف التَّنشيط الوجدانيِّ هو الدَّفع نحو الممارسة.
وهدف التَّركيز الثَّقافيُّ هو تحصين الممارسة.
لا قيمة للفوارن الوجدانيِّ إذا بقي مجرَّد عواطف، ومشاعر، وأحاسيس إذا لم تترجم إلى سلوك، وممارسة.
ولا قيمة للأفكار والمفاهيم إذا لم تتحوَّل إلى أعمال، وأفعال.
نعم، غياب البعد الوجدانيِّ يعطي للممارسة جفافًا، وفتورًا.
وغياب البعد الثَّقافيِّ يُفقد الممارسة الوعي، والبصيرة.
هنا تكون الضَّرورة أنْ نزاوج في إحيائنا للمناسبات الدِّينيَّة بين (الوجدان)، و(العقل)، و(الممارسة).

أحيوا أمرَنا

في الكلمة المأثورة عن (أئمَّتنا عليهم السَّلام): «أحيُوا أمرنا، …» (الحر العاملي: هداية الأمَّة إلى أحكام الأئمَّة 5/137،).
ولكي يتحقَّق (عنوان الإحياء لأمر أهل البيت عليهم السَّلام)، مطلوب:
أوَّلًا: أنْ تكون هذه المناسبات قادرةً أنْ تجذِّر (الولاء لأهل البيت عليهم السَّلام)، والولاء لأهل البيت هو تجسيد للولاء للنَّبيِّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، وتجسيد للولاء للقرآن الكريم، وللإسلام.
وهذا التَّجذير الولائيُّ هو الذي عبَّرنا عنه بـ(المرتكز الوجداني).
ثانيًا: أنْ تكون هذه المناسبات قادرة أنْ تجذِّر (الرُّؤية الواعية حول الأئمَّة من أهل البيت عليهم السَّلام)، وبقدر ما نتوفَّر على هذه الرُّؤية نكون قد امتلكنا وعي الإسلام، والقرآن الكريم، ووعي الرِّسالة.
وهذا التَّجذير للرُّؤية الواعية هو الَّذي عبَّرنا عنه بـ(المرتكز الثَّقافي).
ثالثًا: أنْ تكون هذه المناسبات قادرة أنْ تجذِّر (الاقتداء بالأئمَّة من أهل البيت عليهم السَّلام)، وهذا ما عبَّرنا عنه بـ(المرتكز العملي).
فكلَّما استطاعت هذه المناسبات أنْ ترتقي بمستوى الولاء.
وبمستوى الوعي.
وبمستوى الالتزام.
ارتقى مستوى الإحياء.
وكلَّما انخفضت هذه المستويات انخفض مستوى الإحياء.

أساليب إحياء المناسبات الدِّينيَّة

(المنبر) هو الأداة الأشهر في إحياء المناسبات الدِّينيَّة، وبالأخصِّ مناسبة عاشوراء، وقد استطاع المنبر أنْ يجذِّر حسَّ الولاء، وأنْ يؤصِّل وعي الولاء، وأنْ ينشِّط حركيَّة الولاء.
ورغم الدُّور التَّاريخيِّ الكبير للمنبر، ورغم الجهد المتواصل في محاولات التَّطوير لأداء المنبر على أيدي أساتذة المنبر (جزاهم الله خيرًا) لا زالت الحاجة إلى حضور أكبر للمنبر.
ولا زالت الحاجة إلى إنتاج كفاءات منبريَّة تغطِّي حاجات المرحلة (كمًّا، وكيفًا).
ولا زالت الحاجة إلى خطاب منبريٍّ قادر أنْ يحمل رسالة هذه المناسبات الدِّينيَّة.
ولا زالت الحاجة إلى التَّطوير، والتَّجديد في أداء المنبر، وفي لغته، وأسلوبه.
ولا زالت الحاجة إلى أنْ تتلاقى القُدرات المنبريَّة في خدمة أهداف المنبر.
ولا زالت الحاجة تفرض أنْ يتآزر المنبر مع بقيَّة أدوات الدَّعوة، والتَّبليغ.
وتأتي الاحتفالات كنموذج آخر من وسائل إحياء المناسبات الدِّينيَّة، وقد استطاع هذا النَّموذج – وهو الاحتفالات – أنْ يمارس دورًا فاعلًا في تجذير العلاقة مع المناسبات، وفي تفعيل دورها العقيديِّ، والثَّقافيِّ، والرُّوحيِّ، والأخلاقيِّ، والعمليِّ.
ويجب أنْ يستمرَّ هذا النَّموذج، إلَّا أنَّ الضَّرورة تفرض أنْ تتطوَّر أساليب الاحتفال، وأنْ لا نجمد على الشَّكل التَّقليديِّ رغم أهمِّيته، وفعلًا تحرَّكت أساليب جديدة في إحياء المناسبات الدِّينيَّة، وبالأخصِّ مناسبة عاشوراء، فتحرَّك (المرسم الحسينيِّ)، وتحرَّك (المسرح الحسينيِّ)، وتحرَّكت (العدسة الحسينيَّة)، وتحرَّك (فنُّ الخطِّ) كما في مهرجان المرتضى الثَّقافي الأوَّل، والذي حمل شعار: «الخطُّ الحسن يزيد الحقَّ وضوحًا» (الأحمدي الميانجي: مكاتيب الرَّسول 1/385).

الدَّعوة إلى تجديد وسائل الإحياء الدِّينيِّ
وتبقى الضَّرورة إلى المزيد من التَّطوير والتَّجديد في وسائل إحياء المناسبات، وفي الخطاب الدِّينيِّ (لغة، ومضمونًا، وشكلًا)؛ لكيلا تنفصل أجيالنا الجديدة عن هذه الوسائل، وعن هذا الخطاب.
من أهم أسباب هذا الانفصال جمود الأساليب، وجمود اللُّغة، وعدم مقاربة الهموم التي يحملها أجيالنا الجديدة.
إنَّها مسؤوليَّة المواقع الدِّينيَّة،
إنَّها مسؤوليَّة الحوزات.
إنَّها مسؤوليَّة العلماء، والخطباء، وكلِّ حَمَلَة الفكر الدِّينيِّ.
إنَّها مسؤوليَّة المساجد، والحسينيَّات، والبرامج.
وكم هي الحاجة كبيرة إلى أنْ تتشكَّل لجان متخصِّصة؛ لتطوير وسائل إحياء المناسبات الدِّينيَّة، فما عاد العقل التَّقليديُّ قادرًا أنْ ينشِّط برامج الإحياء!
نحتاج إلى كفاءات جديدة، ومتخصِّصة.

استثمار الإعلام النَّظيف المُنتِج
الإعلام اليوم هو المتحكِّم في عقل البشر.
الإعلام علم يحمل مجموعة من التَّخصُّصات.
نعم، الإعلام الدِّينيُّ له خصوصيَّاته، وله قيمه، وأخلاقيَّاته، وله مناهجه، وأدواته.
فإذا كان إعلام هذا العصر يعتمد (مبدأ الغاية تبرِّر الوسيلة)، فلا مشكلة في منظور هذا الإعلام من الكذب والدَّجل، والنِّفاق، والعبث بالعقول، والتَّرويج للباطل.
فإنَّ الإعلام الدِّينيَّ يعتمد (مبدأ الغاية تُنظِّف الوسيلة)، فما دامت الأهداف نظيفة، فيجب أنْ تكون الوسائل نظيفة، فلا موقع للكذب، والدَّجل، والنِّفاق في هذا الإعلام.
وحينما ندعو إلى تطوير الإعلام الدِّينيِّ نؤكِّد على ضرورة الالتزام بالضَّوابط التي يفرضها الدِّين، وبالقيم التي تفرضها أخلاق الدِّين وإلَّا فقد الإعلام هويَّته الإيمانيَّة والرُّوحيَّة.
قد يُقال: إنَّ عصرًا تحكمه المصالح، والمنافع، والأهواء لا مجال فيه لإعلام يعتمد الصِّدق، والنَّزاهة، والقِيم، والأخلاق!
الأمر ليس كذلك.
إنَّ الإعلام النَّظيف يبقى ضرورة في زحمة إعلامات ملوَّثة.
وعبر التَّاريخ بقيت الكلمة النَّظيفة حاضرة في زحمة الكلمات الملوَّثة.
وبقيت الرُّؤية النَّقيَّة تتحرَّك رغم هيمنة الرُّؤى الفاسدة.
وبقي صوت الحقِّ ناطقًا وإنْ علا صوتُ الباطل.
وبقي خطاب الهدى صادعًا في مواجهة خطابات الضَّلال.
•﴿بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ …﴾ (سورة الأنبياء: الآية 18).
•وقال أمير المؤمنين (عليه السَّلام): «قليلُ الحقِّ يدفعُ كثيرَ الباطل» (الرَّيشهري: ميزان الحكمة 3/147، ح 4249).
إنَّ خطاب المناسبات حينما يُرشَّد، وحينما يُنشَّط، وحينما يُطوَّر سوف يكون له دوره الفاعل في بناء وعي الأُمَّة، وفي صوغ وجدانها، وفي تهذيب كلِّ واقعها.
هنا الضَّرورة أنْ يستمرَّ هذا الخطاب.

مواقع الدِّين (مساجد، وحسينيَّات) والعودة للدَّور الرَّائد
وهنا الضَّرورة أنْ تستمرَّ مواقع الدِّين في أداء مهامِّها سواءً أكانت هذه المواقع مساجد أم حسينيَّات.
ربَّما عطَّلت أوضاع الوباء المرعب والظُّروف الاستثنائيَّة الكثير من أدوار المساجد والحسينيَّات، ونتمنَّى أنْ تعود هذه الأدوار، ولو ضمن الضَّوابط والاشتراطات والاحترازات.
وإذا تشكَّلت القناعة لدى الجهات المختصَّة بأنَّ الأوضاع ملائمة لعودة الصَّلاة في المساجد وِفق الضَّوابط والاحترازات، فالمِلاك واحد في المساجد، والحسينيَّات.
فما أحوجنا في ظروف هذا الوباء الذي فرض الرُّعب على العالم أنْ نطرق أبواب السَّماء، ولا مواقع تفتح لنا هذه الأبواب أعظم من المساجد، والحسينيَّات.
وبقدر ما تكون الإجراءات الوقائيَّة، والاشتراطات الصِّحيَّة والطِّبيَّة مطلوبة شرعًا وعقلًا، فإنَّ اللُّجوء إلى الله تعالى هو الَّذي يُعطي لهذه الإجراءات، والاشتراطات فاعليَّتها، وقدرتها.
يقول الله تعالى على لسان نبيِّه إبراهيم (عليه السَّلام): ﴿وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ﴾ (سورة الشعراء: الآية 80).
فمن موجبات الوقاية والشِّفاء الدُّعاء والصَّدقة.
•قال أمير المؤمنين (عليه السَّلام): «ادفعوا أمواج البلاء بالدُّعاء» (المجلسي: بحار الأنوار 90/303، ح 38).
•وقال الإمام الصَّادق (عليه السَّلام): «عليك بالدُّعاء، فإنَّ فيه شفاء من كلِّ داء» (الرَّيشهري: ميزان الحكمة 2/14).
•ويقول تعالى: ﴿وَإِذَا مَسَّ الْإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ …﴾ (سورة الزُّمر: الآية 8).
•ويقول تعالى: ﴿أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ …﴾ (سورة النَّمل: الآية 62).
وأكَّدت الرِّوايات على أثر الصَّدقة في دفع البلاء.
•قال رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): «الصَّدقة تمنع سبعين نوعًا من أنواع البلاء …» (الرَّيشهري: ميزان الحكمة 2/739).
•وعنه (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): «الصَّدقة تسدُّ سبعين بابًا من الشَّر» (الرَّيشهري: ميزان الحكمة 2/739).
•وعنه (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): «إنَّ الله ليدرأ بالصَّدقة سبعين ميتة من السُّوء» (الرَّيشهري: ميزان الحكمة 2/739).
•وعنه (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): «تصدَّقوا، وداووا مرضاكم بالصَّدقة، فإنَّ الصَّدقة تدفع عن الأعراض، والأمراض، وهي زيادة في أعماركم، وحسناتكم» (الرَّيشهري: ميزان الحكمة 2/739).
هذا هو دور الدُّعاء، والصَّدقة.
فكيف إذا كان الدُّعاء، والصَّدقة في مواقع العبادةِ، والذِّكرِ، والهدايةِ كالمساجد، والحسينيَّات.
فلنعطِ هذه المواقع الإيمانيَّة دورها في التَّصدِّي لجائحة العصر مع التَّأكيد على الضَّرورة القصوى في التزامِ الضَّوابط الصِّحيَّة والوقائيَّة، وهي جزء من توجيهات المساجد، والحسينيَّات.
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين.
والسَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى