حديث الجمعةشهر ربيع الأول

حديث الجمعة 277: هزّات تمتحن صمود الإيمان – لماذا يصرُّ النظام على اعتماد هذا النهج القاسي جدًا ؟

بسم الله الرَّحمن الرَّحيم


الحمد لله ربِّ العالمين وأفضل الصلوات على سيِّد الأنبياء والمرسلين محمدٍ وعلى آله الهداة المعصومين..


 هذه بعض عناوين:


 هزَّاتٌ تمتحن صمود الإيمان:


جاء في الكتاب الكريم قوله تعالى:


﴿ألم، أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ، وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ﴾ (العنكبوت/ 1- 3)


 الإيمان قناعةٌ راسخةٌ في العقل، وعواطف صادقةٌ في القلب، وحركة مستقيمة في السلوك…


 وليس الإيمان مجرد كلمة تُطلق، فما أكثر الذين يُطلقون هذه الكلمة، ولكنَّهم يسقطون أمام التحدِّيات، والابتلاءات والامتحانات…


 فحينما تواجه قناعاتهم العقليَّة شبهات عقيديَّة أو فكريَّة أو ثقافيَّة تهتز هذه القناعات…


 وحينما تواجه عواطف الإيمان في داخلهم، نوازع ذاتية وانفعالات تصادم الإيمان، فإنَّ تلك العواطف الإيمانية تنهار وتسقط، وتُسيطر عليهم الأنانياتُ والأهواءُ والشهوات…


 وحينما يواجه التزامهم العملي ضغوط، وتحدِّيات، ومصالح ذاتية، وإغراءات، ومساومات، فإنَّ التزامهم السلوكي يتهاوى ويتراجع وينحرف…


 فالابتلاءُ بكلِّ أشكاله الذهنيَّة والعاطفيَّة والسلوكيَّة هو امتحانٌ للإيمان..


·﴿الم، أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ﴾. (العنكبوت/ 2)


 ليس الإيمان نزهة مريحة خالية من المُنغِّصات والصعوبات، وليس مجرد كلمة تُقال لتُعبِّر عن صدق الإيمان، بل لا بّد من الامتحان والابتلاء.


 وأشكال هذا الامتحان والابتلاء متعدِّدة ومتنوعة وعلى درجات مختلفة، وكلَّما ارتقى مستوى الإنسان الإيماني تصاعدت درجات الابتلاء.


 في حديثٍ عن الإمام الصَّادق عليه السَّلام:


«إنَّ أشدَّ الناسِ بلاءً الأنبياء، ثمَّ الذين يلونهم ثمَّ الأمثل فالأمثل»[1].


 والابتلاء يكونُ تكريمًا تارةً…


 ففي الحديث:


«ما أثنى الله تعالى على عبدٍ من عباده من لدن آدم إلى محمدٍ (صلَّى الله عليه وآله) إلَّا بعد ابتلائِه ووفاء حقِّ العبودية فيه، فكرامات الله في الحقيقة نهايات بداياتها البلاء»[2].


 وتارةً أخرى يكون الابتلاء امتحانًا واختبارًا..


﴿فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ﴾.


 وليس معنى هذا حدوث العلم لله تعالى، فهو العالم بحقيقة الإنسان، وبمستقبله، بل المراد ظهور الحقيقة للنَّاس أنفسهم من خلال علامات الصدق أو الكذب في سلوكهم…


فكثيرون يتوهمون أو يُوهمون أنفسهم بأنَّهم صادقون في إيمانهم، وكذلك يظنّنهم الآخرون، فتأتي الابتلاءات والامتحانات فتكشف مدى صدقهم أو كذبهم…


 وتارة ثالثة يكون الابتلاء تذكيرًا وتنبيهًا للإنسان فكثيرًا ما يعيش هذا الإنسان الغفلة، فيظل سائرًا في الغي والضلال والانحراف، فتأتي الابتلاءات مذكرةً ومنبِّهةً، لعلَّه يتذكَّر أو يتنبَّه..


 قال تعالى:


﴿وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ {السجدة/ 21} ﴾. (السجدة/ 21)


 وتارة رابعة يكون الابتلاء تمحيصًا للذنوب…


 في الحديث عن الإمام الباقر عليه السَّلام:


«إنَّ الله تبارك وتعالى إذا كان من أمره أن يكرم عبدًا وله عنده ذنب ابتلاه بالسقم، فإن لم يفعل فبالحاجة، فإن لم يفعل شدَّد عليه عند الموت، وإذا كان من أمره أن يهين عبدًا وله عنده حسنة أصحَّ بدنه، فإن لم يفعل وسَّع عليه في معيشته، فإن لم يفعل هوَّن عليه الموت»[3].


 نعود للنص الذي افتتحنا به الحديث…


 فبعد أن ذكَّر الله تعالى سنة الابتلاء والامتحان قال سبحانه: «ولقد فتنَّا الذين مِن قبلهم».


 الابتلاء والامتحان سُنّة جارية منذ خلق الله الخلق، فكلّ الأمم السابقة، حينما أُرسل إليهم الرسل، وأُنزل عليهم الكتب، وأوضحت لهم الطرق، تعرضوا للابتلاءات والامتحانات فثبت الصادقون، وسقط الكاذبون…


 وقد قاسى المؤمنون في تلك الأمم أشدّ ألوان الأذى والعذاب، والقتل، فما كان ذلك إلَّا ليزيدهم إصرارًا، وصمودًا، وثباتًا، وتضحية…


 يُحدِّثنا القرآن عن أصحاب الأُخدود…


ففي الأزمان السابقة على الإسلام، كان جماعة من المؤمنين بنبوة عيسى عليه السَّلام، وكانوا صادقين كلّ الصدق في إيمانهم، واجهوا ضغوطًا قاسيةً من قبل الطغاةِ المتحكِّمين في ذلك العصر…


ومن الوسائل التي اعتمدها طغاةُ ذلك العصر، أن حفروا أخدودًا وهو حفيرة كبيرة في الأرض، وملأوها نارًا، ثمَّ عرضوا أولئك المؤمنين على النَّار، فإمَّا أن يتراجعوا عن إيمانهم، وإلَّا فيكون مصيرهم الإلقاء في هذا الأخدود المملوء بالنيران المستعرة، الملتهبة..


 فماذا كان موقف المؤمنين الصَّادقين؟


أصرّوا على الإيمان، وتحدّوا هذه التهديدات، وأخذوا يتهافتون على النار الواحد تلو الآخر، عاشقين الشهادة في سبيل الله…


 وتحدِّثنا كتب التفاسير، أنَّ امرأة مؤمنة جاءت ومعها صبي عمره شهر واحد، فلمَّا هجمت على النَّار هابت ورقَّت على ابنها، فناداها الصبي – وكان ممَّن تكلَّم في المهد-: أمَّاه لا تهابي وارمي بي وبنفسك في النار، فإنَّ هذا واللهِ في الله قليل… فرمتْ بنفسها وصبيِّها في النار…


 واستمرت وجبةُ التعذيب القاسية، وكان الطغاة جالسين، يراقبون هذا المشهدَ المرعب، وهم في أعلى درجات النشوة واللذَّة، فلم تبق في داخلهم ذرةٌ من حسٍّ أو ضمير…


 وقد سجّل القرآن الكريم هذا الحديث سورة البروج حيث قال الله تعالى:


﴿قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُود، النَّارِ ذَاتِ الْوَقُود، إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ، وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ، وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ﴾. (البروج/ 4-8)


  


لماذا الإصرارُ على اعتمادِ هذا النهج؟


 سؤالٌ يتكرَّر دائمًا:


لماذا يصرُّ النظام على اعتمادِ هذا النهج القاسي جدًا؟


 وحينما نتحدَّث عن نهجٍ قاسٍ جدًا، نتحدَّثُ عن استخدامٍ مفرطٍ للقوةِ، نتحدَّثُ عن أدواتِ قمع، نتحدَّثُ عن فتكٍ وقتل… إلى آخر ما يرسمه المشهدُ الحاضر في هذا البلد…


 وفي الإجابةِ عن السُؤالِ المذكورِ يُطرحُ احتمالان:


 الاحتمال الأول:


 إنَّ النظامَ مقتنعٌ كلَّ الاقتناع بأنَّ هذا النهجَ هو النهجُ الصائبُ، والقادرُ على إنقاذِ البلدِ من مأزقه، وعلى تصحيح الأوضاع المأزومة، فلا نهج إلَّا هذا النهج، ولا خيار إلَّا هذا الخيار…


 لا نعتقد أنَّ عقلًا رشيدًا يمكن أـن يقتنع بهذا الكلام، فكلُّ عقلاء العالم، وكلّ الأنظمة المتحضِّرة، وكلّ الدساتير العادلة، وكلّ المبادئ الإنسانية، ترفض هذا النهج، فلا يمكن لقمعٍ، وبطشٍ، وفتكٍ، وقتلٍ، وعنفٍ، أن يصنع أوطانًا مستقرة، وأن ينتج أمنًا وأمانًا للبلاد والعباد، وهل ما تعانيه مجتمعات الإنسان في كلِّ عصر إلَّا بسبب استبداد الأنظمة الحاكمة، وبسبب اعتماد سياسات البطش والقمع والتنكيل والتعذيب…


 وممَّا يؤسف جدًا أن يكون هناك مَنْ يقول للنظام أنَّ هذا النهجَ القاسيَ والباطشَ هو الرشدُ والعقلُ والحكمة… وفي هؤلاءِ رجالُ سياسةٍ، ورجالُ ثقافةٍ، ورجالُ دينٍ.. أيُّ سياسةٍ تلك التي تبارك البطشَ والقتل؟! وأيّ ثقافةٍ تلك التي تبرِّر لهذا الاستخدام المفرط للعنف؟! وأيّ دينٍ هذا الذي يشرعن لنهج الظلم والاعتداءِ على النفوسِ والأعراضِ والأموالِ، والمقدَّسات؟!


 ثمّ أيّ رُشدٍ هذا الذي يستبيح الدِّماء؟


وأيّ رُشدٍ هذا الذي يقمعُ، وينكِّلُ، ويُعذِّب؟


وأيّ رُشدٍ هذا الذي يُصادر الحرياتِ والكرامات؟


وأيّ رُشدٍ في اغتيال الأمن والأمان؟


أيّ رُشدٍ في تدمير الإنسان؟


 فإذا كان النظام فعلًا يحملُ قناعةً بهذا النهج، فهو واهم كلّ الوهم، وخاطئ كلّ الخطأ، ويجب عليه مراجعة كلّ الحسابات، فما عادت الشعوب قطعانًا تقاد بالعصا، وما عادت سياسات القمع والبطش قادرة أن توقف حركات الشعوب وثوراتها…


 ما نعتقده أنّ النظامَ لا يحمل في داخله هذه القناعة وإن استخدم هذا النهج وأفرط فيه…


 وإذا سقط هذا الاحتمال، فهناك احتمال آخر لهذا الإصرار… ونتمنَّى أن لا يكون هذا الاحتمال واردًا لأنه يشكِّل وصمةً وأيّ وصمة وعارًا كبيرًا..


  الاحتمال الثاني:


أن يكونَ الإصرارُ على النهج القاسي مكابرةً ورغبةً في الانتقام والبطش والفتك…


 لسنا في صدد أن نتَّهم ونتجنَّى، وإنَّما في سياق القراءة السِّياسية يرد هذا الاحتمال…


فقد جرت عادة الأنظمة التي تمارس البطش أن تُصرّ على الاستمرار في هذا النهج، وان كانت تعلم كلّ العلم بخطأه؛ لأنّها لا تريد أن يُقال عنها بأنَّها تراجعت وتنازلت أمام إصرار الشعب، ففي هذا خدش لهيبة تلك الأنظمة، وفي هذا تسليمٌ بالخطأ…


 هذا فهمٌ مغلوطٌ ومعيبٌ ومسيئ جدًا..


فإنَّ مِن مفاخر الأنظمة الديمقراطية أن تستجيب لمطالبِ شعوبها، وأن تتوافق مع إرادات جماهيرها..


 ليس في هذا عيبٌ، ولا مذلةٌ، ولا منقصة..


 العيبُ كلّ العيبِ أن تتناقض الأنظمة الحاكمة مع إرادات الشعوب..


 والمذلّة كلّ المذلةِ أن تعيش الأنظمةُ المكابرةَ والإصرار على النهج الخاطئ والسِّياسة المغلوطة…


 والمنقصةُ كلّ المنقصة أن تصادر الأنظمةُ حقوق مواطنيها، وأن تعيش رغبة الانتقام منهم…


 فمن الشجاعةِ والجرأة أن تعترف الأنظمة بخطأها، وأن تصحّح نهجها، وخاصة حينما يكون ذلك الخطأ وذلك النهج قد أدخلا الأوطانَ في أوضاعٍ شديدةِ التأزّم، وفي مآزقَ شديدةِ الخطورة، وفي مآلاتٍ مُدمِّرة وكارثية…


 ربَّما يقال: إنَّ للشارع أخطاءَه، وإنَّ للقوى السِّياسيةِ المعارضةِ أخطاءها، فلماذا تتحمَّل الأنظمةُ الحاكمةُ وحدها مسؤولية الأخطاء؟


 هذا صحيح، إلَّا أنّ خطأً يصدرُ عن النظام الحاكم وخاصة إذا كان في نهج التعاطي مع حَراك الشعب يُشكِّل كارثةً لها تداعياتُها المُرعبة، ونتائجها المروِّعة..


 إنَّ الاعتراف بالخطأ فضيلةٌ كبرى، ولا سيما حينما يصدر من مواقع حُكمٍ، وأنظمة سياسة…


 وأمَّا الإصرار على الأخطاء، ومحاولة إيجاد المبرِّرات، وإن كانت اوهن من بيت العنكبوت، فأمر بعيد كلّ البعد عن الرشد والحكمة، والعدل، والإنصاف، ويُعقّد الأوضاع، ويفاقم من الأزمة…


 إنَّنا نؤكِّد وبكلِّ قناعة وإصرار أنَّ هذا النهج الأمني القاسي والمعتمد في مواجهة المطالبات والاحتجاجات هو نهجٌ خاطئ جدًا، وهو الذي شنَّج المواقف، وصادر أيَّ فرصةٍ لإيجاد حلًّ يُخرج البلد من هذا المنحدر الخطير.


 وإذا كانت السلطة لا تريد أن تعترف بخطأ هذا الخيار، وهذا النهج، ففي الحد الأدنى مطلوبٌ منها أن تعترف بأنَّ هناك مسؤولين حكوميين ارتكبوا إعمالًا مخالفة للقانون، ومارسوا الكثير من الانتهاكات، بل وتسبَّبُوا في حدوث حالاتِ تعذيبٍ وقتل… وهذا ما أكَّدت عليه لجنة تقصِّي الحقائق المُشكَّلة بأمرٍ ملكي، وأكَّدت عليه مُنظَّماتٍ حقوقيَّة..


 خارطة الطريق إلى الحل تبدأ بإيقاف آلة القمع ومحاسبة كلّ المسؤولين الذين مارسوا الانتهاكات والتعذيب والقتل… وإعادة كلّ المفصولين، وإطلاق سراح السّجناء المظلومين…


 وهكذا يمكن أن تتجه خارطة الطريق نحو حوارٍ جادٍّ وصادق يبحث عن حلٍّ حقيقي للأزمة، وليس عن ترقيعاتٍ شكليةٍ فاشلة…






الهوامش:


[1] الميرزا النوري: مستدرك الوسائل 2/ 438، باب احتساب البلاء، ح27. (ط2، 1408هـ – 1988م، مؤسّسة آل البيت (ع) لإحياء التراث، بيروت – لبنان)


[2] الريشهري: ميزان الحكمة 1/ 305، حرف الباء، تكريم المؤمن بالبلاء. (ط1، التنقيح الثاني 1416هـ، دار الحديث، قم – إيران)


[3] المجلسي: بحار الأنوار 78/ 198، أبواب الجنايز ومقدماتها، ب1، ح54. (ط3 المصححة، 1403ه – 1983م، دار إحياء التراث العربي، بيروت – لبنان)


 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى