حديث الجمعةشهر صفر

حديث الجمعة185: في ذكرى شهادة الإمام زين العابدين (ع) – الأوضاع تتأزّم

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربِّ العالمين وأفضل الصلوات على سيد الأنبياء والمرسلين محمدٍ وعلى آله الطيبين الطاهرين…
السّلام عليكم ورحمة الله وبركاته…



 قلنا في الحديث السَّابق: أنَّ أول مهام الإمام زين العابدين عليه السّلام وعمته بطلة كربلاء بعد واقعة الطّف هو «مواجهة الإعلام الأموي المضاد» الذي حاول بشتى الوسائل أن يشوّه صورة الثورة الحسينيّة في ذهنيّة الجماهير…. وقد حاول هذا الإعلام المضلّل أن يصنع وعيًّا شعبيًّا مزوّرًا، وهذا هو منهج كلّ الأنظمة الحاكمة الظالمة الجائرة، فبيدها وسائل الإعلام، وبيدها أجهزة الدعاية، فهي تعبث بوعي الشعوب كما تشاء… إلّا أنَّ وجود الأصوات الحرّة النظيفة الجريئة شكّل حالة التصدّي والمواجهة لإعلام الأنظمة المضلّل، وإن كان لهذا التصدّي ضريبته الصعبة والتي قد تكلّف دماءً وأرواحًا، وسجونًا وزنزانات…
نعم.. الإعلام الأموي مارس دور التضليل والتزوير والتشويه لثورة كربلاء، ولأبطال كربلاء…
وكان لقافلة الأسارى من آل رسول الله صلّى الله عليه وآله، وعلى رأسها الإمام زين العابدين وزينب ابنةُ أمير المؤمنين الدور الكبير الكبير في فضح هذا الإعلام الكاذب، وفي تعرية كلّ أساليب التضليل والتزوير والتشويه…
تُحدّثنا كتب التاريخ: إنّ يزيد بن معاوية حينما وصل ركب السبايا إلى الشام أمر أحد خطباء النظام أن يصعد المنبر ويخبر النّاس بمساوئ عليٍّ والحسين وما فعلا، فصعد المنبر…..
هكذا توظّف الأنظمة الحاكمة «عملاء» فيهم علماء دين، وخطباء، وشعراء، وأدباء، وحملة أقلام، ورجال صحافة…..
وما أكثر الذين باعوا ضمائرهم لأنظمة الحكم وبأثمان بخسة، وتبوأوا العار والشّنار، وغضب الجبّار.. حفنة من أموالٍ مغموسة بالحرام ومناصب زائلة…. والمصير إلى النّار وبئس القرار….
 {وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ}
 وقال رسول الله صلّى الله عليه وآله: «الظّلمة وأعوانهم في النّار»
 وقال صلّى الله عليه وآله: «إذا كان يوم القيامة نادى منادٍ أين الظّلمة وأعوانهم، من لاق لهم دواة أو ربط كيسًا، أو مدّ لهم مدّة قلم، فاحشروهم معهم»
 وقال صلّى الله عليه وآله: «من أعان ظالمًا على ظلمه جاء يوم القيامة وعلى جبهته مكتوب: آيسٌ من رحمة الله»
 صعد خطيب البلاط الأموي المنبر.. وماذا قال هذا الخطيب؟
 «حمد الله وأثنى عليه….»
 هذا الاستهلال بالحمد والثناء على الله من أجل تضليل النّاس وخداعهم وإيهامهم بأنّ هذا الخطيب يتحدّث باسم الدين وما أكثر ما وُظّف الدين لخدمة الحكام والسلاطين حتى في نزواتهم الشخصيّة..
 دخل أبو البختري وهب بن وهب قاضي بغداد على هارون الرشيد، وهو يطيّر الحمام، فقال له هارون: هل تحفظ في هذا شيء؟
قال: نعم، حدثني هشام عن عروة عن أبيه عن عائشة: أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وآله كان يطيّر الحمام…
 هذا توظيف للحديث النّبويّ في خدمة نزوات وشهوات الحكاّم ولو كان في عصر النّبيّ صلى الله عليه وآله صقور وشياهين لوضعت أحاديث في أنّ الرّسول (ص) كان يهوى اقتناء الصقور والشياهين.
 كم هو خطيرٌ وخطيرٌ جدًا أن تكون مؤسسات الدّين- المساجد وغيرها- خاضعة لهيمنة الأنظمة الحاكمة، خاصةً إذا كانت تريد أن توظّف الدّين لهوى السّلطة ولسياساتها.
 فليس عجيبًا أن يصعد هذا الخطيب بأمر الحاكم الأموي يزيد بن معاوية، ويبدأ حديثه بحمد الله والثّناء عليه….
 ثمَّ ماذا قال: «أكثر الوقيعة في عليّ والحسين، وأطنب في مدح معاوية ويزيد، فذكرهما بكلّ جميل»
 وهنا تصدّى الإمام عليّ بن الحسين زين العابدين عليه السّلام ليواجه هذا الخطيب المرتزق وصاح به: «ويلك أيّها الخاطب، اشتريت مرضاة المخلوق بسخط الخالق، فتبوأ مقعدك من النّار»
 نعم اشترى هذا الخطيب مرضاة يزيد بن معاوية الفاسق الفاجر، المنتهك للحرمات، الذي سفك دم الحسين سبط رسول الله صلّى الله عليه وآله، اشترى مرضاته من أجل متاعٍ زائل، ودنيا فانية، وأغضب الخالق جلّ وعلا، فلينتظر المصير الأسود والعذاب الشديد حينما يتبوأ مقعده من النّار وبئس القرار…
 «وأمّا الذين فَسَقُوا فمأواهم النّار، كلَّما أرادُوا أن يَخرُجُوا منها أُعِيدُوا فيها……»
 أيّ فسقٍ أسوء وأفحش من أن يبيع إنسان نفسه لحاكم مثل يزيد بن معاوية….
 وأيّ فسقٍ أسوء وأفحش من أن يتجرأ إنسان على أئمة كرام مثل عليّ والحسين عليهما السّلام..
كم هو العطاء؟
حفنة من المال؟
قصرٌ فاخر؟
منصبٌ كبير؟
دنيا مليئة بالمتع واللذائذ؟
ثم ماذا؟
«فمأواهم النّار كلّما أرادوا أن يَخرُجُوا منها أُعِيدُوا فيها»
«يوم يُسْحَبُون في النّار على وجوهم ذُوقُوا مَسَّ سَقَر»
«تَلْفَحُ وجُوهَهُم النّار وهم فيها كالحون»
«أفمن يلقى في النّار خيرٌ أم مَنْ يأتي آمنًا يوم القيامة..»
 وهل اكتفى الإمام عليّ بن الحسين زين العابدين عليه السّلام بهذا الموقف من التّصدي لخطيب البلاط الأموي الذي اشترى مرضاة المخلوق بسقط الخالق؟
لم يكتف بذلك، بل طالب بأن تعطى له فرصة الحديث ليعبر عن رأيه، ويقول كلمته، فهل سمح له يزيد بذلك؟
نتابع الكلام في الأسبوع القادم إن شاء الله تعالى


الأوضاع تتأزّم:
 في الأسبوع الأخير، أخذت وتيرة الأحداث تتصاعد، والأوضاع تتأزّم والأمور تتحرّك بشكلٍ مخيف، ربّما تراهن أجهزة الأمن في هذا البلد، أنّها قادرة على أن تحسم الموقف من خلال اعتماد المعالجات الأمنيّة القامعة، ومن خلال فتح أبواب السّجون، هذا رهانٌ خاطئٌ جدًا، نتمنى أن لا تستمرّ السّلطة في تبنّي هذا الخيار، فهو خيارٌ مدمرٌ لأمن الوطن واستقراره، وهو مغامرةٌ غير محسوبة النتائج، ربّما يكون من السّهل على أجهزة الأمن أن تمارس العنف في الشوارع، وربّما يكون من السّهل على أجهزة الأمن أن تملأ السجون بالمعتقلين، وربّما يكون من السّهل على أجهزة الأمن أن تمارس أقسى ألوان التعذيب، وربّما يكون من السّهل على أجهزة الأمن أن تعلن عن محاكماتٍ ومحاكمات…..
إلّا أنّه ليس من السّهل على السّلطة- حينما تعتمد هذه الخيارات- أن تحسم الموقف في صالح الوطن والمواطنين وفي صالح الأمن والاستقرار، وفي صالح الرّفاه والازدهار، وفي صالح المحبة والوئام…
 قد يقال: إنّ السلطة ليست هي المسؤولة عن هذه التأزمات والتوترات، وليست مسؤولة عن كلّ النتائج، فهناك من يعبث بأمن هذا الوطن، وهناك من يؤجج الأوضاع، وهناك من يثير الفتن، وهناك من يمارس العنف والفوضى، وهناك من يحرّك الأمور في اتجاه الارتباك والاضطراب…..
 لنا تحفظٌ كبيرٌ على هذا الكلام….
 السلطة- وحدها – تملك مفاتيح الحلول لكلّ الأزمات الموجودة في السّاحة، فحينما تعطّل السلطة استخدام هذه المفاتيح والتي لا يمكن استنساخها، فسوف تتحرك المواقف في اتجاه كلّ الخيارات الأخرى، والتي يعتبرها النظام خيارات مضرّة بأوضاع البلد.. ويعتبرها أصحابها أنّها الخيارات الممكنة والخيارات المرشحة.
 لا نشك أنّ إصلاح الوطن مسؤوليّة الجميع ومسؤوليّة الحكومة، ومسؤوليّة كلّ المؤسسات ومسؤوليّة كلّ القوى، ومسؤوليّة كلّ المواطنين.. ويبقى أنّ المسؤول الأول عن إصلاح الأوضاع هو النّظام.. إذا لم تتحرك الإصلاحات الحقيقيّة والتي تملك مفاتيحها الدولة، وإذا لم تفتح السّلطة أبواب الحوارات الجادة الهادفة الصّادقة، فلن تسير الأمور إلّا في اتجاه التعقيد والتأزم، والاحتقان..
 إذا لم تصحّح العمليّة السياسيّة وبقيت ذهنيّة الصّيغة المغلوطة، والتي تمثلت في انتخاباتٍ مأسورة لنظام طائفيّ مفضوح، من أجل أن تحتفظ السّلطة بأغلبيّة موالية في مجلس النواب والذي صودر دوره التشريعي من خلال وجود مجلس الشورى المعّين إلى جانب غياب دستورٍ تعاقديٍ يقرّه برلمان منتخب انتخابًا صحيحًا…
 إذا لم تُصحح هذه العمليّة السياسيّة، فلن يكون هناك إصلاحٌ حقيقيٌ…
وبغياب الإصلاح الحقيقي، هل يطالب النّاس بالصمت والسكوت؟
 وإذا كان مسموحًا لهم أن يعبّروا عن مطالبهم المشروعة، بالأساليب السلميّة الموفّرة، وإذا كانت السّلطة قد أصغت إلى هذه المطالبة، واستجابت إلى هذه المطالب المشروعة، فسوف لن يضطّر النّاس إلى اعتماد الخيارات الصعبة، والتي تكلّف الوطن أثمانًا باهضة..
 أكرّر وأكرّر أنّ السّلطة هي المسؤولة عن تحرّك أيّ خيار صعب في السّاحة، وهذا لا يعني أنّنا ندعو إلى اعتماد الخيارات الضّارة بأوضاع البلد، ولكن حينما تصرّ السّلطة على إغلاق الأبواب أمام الخيارات الأهدأ، فمن الطبيعي جدًا أن تتحرك الخيارات الأصعب…
 كما أؤكد أنّنا لسنا دعاة انفلات وفوضى، رغم التحشيدات الصحفيّة المتوتّرة والتي تحاول أن تكيل التهم والافتراءات ضدّ هذه الطائفة معتمدة شتى الذرائع الموهومة والمفبركة، وإذا صحّ وجود بعض التجاوزات هنا أو هناك فهي ردود فعلٍ أنتجتها أوضاعٌ ضاغطة، وصنعتها احتقانات صعبة، ومثل هذه الحالات لا تعالج بمزيدٍ من العنف والقسوة ولا بمزيدٍ من الاستنفارات الأمنيّة، إنّ هذه الأساليب لن تخدم أمن البلد واستقراره، ولن يترشّح عنها إلّا التوتّر والتأزّم والاحتقان، واستثارة الأحقاد والضّغائن…
 إنّ شيئًا من الحكمة والتعقّل، وفتح أبواب الحوار الجّاد، والتعاطي الحقيقي مع هموم النّاس وأزماتهم، وإطلاق الإصلاحات الصّادقة، هذا هو النهج الصائب في معالجة الأمور، وفي إنهاء كلّ التشنّجات، وفي انقاد البلد من كلّ التأزّمات والاحتقانات…
 إنّ بعض خطواتٍ حقيقيّةٍ في اتجاه الإصلاح والتغيّير وتخفيف الأزمات أقدر على تهدئة الأوضاع وإنهاء التوتّرات، من استنزاف قدرات الأجهزة الأمنيّة في مواجهة النّاس وإرعاب الآمنين، وفرض العقوبات الجماعيّة على القرى والمدن، وإرباك الشوارع….
 أكرّر وأكرّر العلاج ليس بهذا الاستنزاف الأمنيّ..
 العلاج أن نضع أيدينا على الأسباب الحقيقيّة لإنتاج الأزمات، أمّا إذا بقيت هذه الأسباب ولم تحرك العلاجات الحقيقيّة، ولم يبدأ الحوار الصّادق، ولم تتأصّل الثقة المتبادلة فلن تقوى كلّ الاستنفارات والاستنزافات الأمنيّة على حسم الموقف….
 وكما قال البيان العلمائي:
 «إنّ المخرج الحقيقيّ من هذا التأزم:
• أن تتحرّك إصلاحات حقيقيّة على الأرض.
• أن يبدأ حوارٌ جادٌ وصادق.
• أن تتجمّد المعالجات الأمنيّة القامعة.
وإلّا فالسّاحة مرشّحة لمزيدٍ من الاحتقانات والتوتّرات، الشيء الذي يجب أن يحذر منه الجميع»
كما أذكّر الأخوة المؤمنين بأهميّة المشاركة في المسيرة الجماهيريّة الحاشدة المناهضة للتجنيس والتي تنطلق غدًا الجمعة عصرًا..
إنّ التجنيس – فيما يحمله من أهداف سياسيّة واضحة – هو واحد من ملفاتٍ خطيرة ساهمت في تأزيم الأوضاع في هذا البلد، وإذا استمرّت وتيرة التجنيس متحركة كما هي وفي الاتجاه المرسوم لها، فسوف تكون النتائج وخيمةً جدًا على كلّ المستويات الاقتصاديّة، والاجتماعيّة والأخلاقيّة والسياسيّة.. فلابد من مناهضة هذا المشروع المدمّر وعلى كلّ المستويات الرسميّة والشعبيّة… ولابدّ من أن تمارس كلّ القوى الدينيّة والسّياسيّة دورها الفاعل في إيقاف هذا العبث الموجه لهوية هذا الوطن ولشعبه ولكلّ مكوّناته..
وهنا أختم مطالبتي إلى كلّ المطالبات الداعيّة إلى إطلاق سراح الأستاذ حسن مشيمع والشيخ المقداد وبقيّة المعتقلين بصورة فوريّة وغير مشروطة…
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين..

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى