حديث الجمعةشهر ذي القعدة

حديث الجمعة 548: بين موسميِّ العبادة: الصِّيام والحج

بسم الله الرَّحمن الرَّحيم
الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، وأفضلُ الصَّلوات على سيِّدِ الأنبياءِ والمرسلين محمَّدٍ، وعلى آلِهِ الهُداةِ الميامين.

بين موسميِّ العبادة: الصِّيام والحج

وبعد:
فقد أنهى المسلمونَ موسمًا عباديًّا كبيرًا وهو موسم الصِّيام.

ويستقبل المسلمون موسمًا عباديًّا كبيرًا وهو موسم الحجِّ.

وبين المَوسِمَينِ الكبيرين مشتركات كبيرة جدًّا.
المشتركات بين موسم الصِّيام، وموسم الحجِّ
المشترك الأوَّل: شهر رمضان شهر الضِّيافة الرَّبَّانيَّة

فالصائمون هُمْ ضيوف الله تعالى.
1.جاء في خطبة النَّبيِّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) الرَّمضانيَّة قوله: «…، هو شهرٌ دُعيتم فيه إلى ضيافة الله، وجُعلتم فيه من أهلِ كرامة الله، …». (ميزان الحكمة 2/1117، محمَّد الريشهري).

وكذلك الحجَّاج هُمُ ضيوف الرَّحمن.
2.جاء في الحديث عن أمير المؤمنين (عليه السَّلام): «الحاجُّ والمعتمر وفدُ اللهِ، وحقٌّ على اللهِ أنْ يكرِم وفدَه، ويحبوه بالمغفرة، …». (تحف العقول عن آل الرسول، الصفحة 123، ابن شعبة الحراني).

3.وجاء في الحديث عن الإمام الصَّادق (عليه السَّلام): «الحاجُّ والمعتمر وَفْدُ الله، إنْ سألوه أعطاهُمْ، وإنْ دَعَوهُ أجابهم، وإنْ شفعوا شفَّعَهُمْ، وإنْ سكتُوا ابتدأهم». (الكافي 4/ 255، الكليني، ح14)

شروط الضِّيافة المشتركة
وكما للضِّيافة الرَّبَّانيَّة في شهر رمضان المبارك شروطها العامَّة، كذلك للوفادة الرَّبَّانيَّة في موسم الحجِّ شروطها العامَّة.

وهذه الشُّروط العامَّة مشتركة، فـ:
1-طهارة القلب.
2-وإخلاص النِّيَّة.
3-والتَّوبة الخالصة.
4-والاستعداد الفقهيُّ والثَّقافيُّ.
5-والأداء الصَّحيح.
6-والاستفادة الحقيقيَّة.
هذه شروط عامَّة مطلوبة للصَّائمين، ومطلوبة لحجَّاج بيت الله الحرام.

المشترك الثَّاني – بين الموسمين -: مجموعة محظورات

في الصِّيام مجموعة محظورات تُسمَّى (المفطرات).

وفي الحجِّ مجموعة محظورات تُسمَّى (محرَّمات الإحرام).

وظيفة هذه المحظورات في الصِّيام، وفي الحجِّ (تقوية الإرادة الإيمانيَّة)، و(بناء التَّقوى، والطَّاعة، والالتزام).

المشترك الثَّالث – بين الموسمين -: الغِنى بالعطاءات

شهر رمضان المبارك موسم غَنِيٌّ بالعطاءات الإيمانيَّة، والثَّقافيَّة، والرُّوحيَّة، والرِّساليَّة، حيث تنشط البرامج، والفعاليات، والدُّروس، والمحاضرات.

وشهر الحجِّ كذلك موسمٌ غنيٌّ بالعطاءات الإيمانيَّة، والثَّقافيَّة، والرُّوحيَّة، والرِّساليَّة، حيث تنشط البرامج، والفعاليَّات، والدُّروس، والمحاضرات.

ففي الموسمين يكون هناك (استنفار تبليغيٌّ)، وحضورٌ فاعل للعلماءِ، والمبلِّغين، والمرشدين.

الغِنى بالرَّوافد الرُّوحيَّة
والموسمان غنيِّان بالرَّوافد الرُّوحيَّة:
1-الصَّلاة
2-الدُّعاء
3-الذِّكْر
4-التِّلاوة
5-الصِّيام
6-الطَّواف
7-السَّعي
8-الوقوف في عرفات
إلى آخر الرَّوافد الرُّوحيَّة.

فكما هو مطلوبٌ من الصَّائمين أنْ يوظِّفوا هذه الرَّوافد الرُّوحيَّة توظيفًا واعيًا جادًّا صادقًا، كذلك مطلوبٌ من الحجَّاج أنْ يوظِّفوها كذلك.

وهنا يأتي دور العلماء والمبلِّغين، ودور المرشدين!

فبقدر ما يكون هذا الدَّور فاعلًا، فإنَّه يُعطي لهذه الرَّوافد دورها الفاعل.

وبقدر ما يكون هذا الدَّور فاترًا، فإنَّه يُعطي لهذه الرَّوافد دورها الفاتر.

المشترك الرَّابع – بين الموسمَين -: تحقيق الأهداف

لا قيمة لصيام لا يحقِّق أهدافه.
ولا قيمة لحجٍّ لا يحقِّق أهدافه.

نقرأ في روايات الصِّيام:
1-قول النَّبيِّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): «رُبَّ صائم حَظُّهُ من صيامِهِ الجوعُ والعطشُ، ورُبَّ قائمٍ حظُّهُ مِن قيامِهِ السَّهر». (وسائل الشيعة 1/72، الحر العاملي).

2-وروي أنَّه: «سمع رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، امرأةً تَسُبُّ جاريةً لها وهي صائمة، فدعا رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) بطعامٍ، فقال لها: كُلي.
فقالت: إنِّي صائمة!
فقال: كيف تكونين صائمةً وقد سَبَبتِ جاريتَكِ؟!
إنَّ الصَّومَ ليس من الطَّعام، والشَّراب، …». (الوافي 11/322، الفيض الكاشاني).
3-وجاء في (نهج البلاغة) كلمة أمير المؤمنين (عليه السَّلام): «كم مِن صائم ليس له من صيامِهِ إلَّا الجوع والظَّمأ، وكم مِن قائم ليس له من قيامه إلَّا السَّهر والعناء». (نهج البلاغة، الصفحة 495، خطب الإمام علي (عليه السَّلام)، تحقيق: د. صبحي الصَّالح).
إذًا، قيمة الصِّيام بمقدار ما يحقِّق أهدافَهُ.

4-قال رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) لجابر بن عبد الله: «يا جابر، هذا شهر رمضان مَنْ صام نهاره، وقام وِرْدًا مِن ليله، وعفَّ بطنه وفرجه، وكفَّ لسانه خرج من ذنوبه كخروجه من الشَّهر.
فقال جابر: يا رسول الله، ما أحسنَ هذا الحديث؟!
فقال رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): يا جابر، وما أشدَّ هذه الشُّروط». (الوافي 11/373، الفيض الكاشاني).
وكذلك قيمة الحجِّ بمقدار ما يحقِّق من أهدافه.

5-قال الإمام الباقر (عليه السَّلام): «ما يُعبأ بمَن يؤمَّ هذا البيت إذا لم يكن فيه ثلاثُ خصال:
ورعٌ يحجزهُ عن معاصي اللهِ تعالى.
وحِلْمٌ يَملِكُ بهِ غضبَهُ.
وحُسْنُ الصَّحابة لِمنْ صحبَهُ». (الخصال، الصَّفحة 148، الشيخ الصدوق).

6-جاء في كلمة للإمام الصَّادق (عليه السَّلام) يتحدَّث فيها عن المضامين الكبرى لأعمال الحجِّ: «…، ثمَّ اغسلْ بماء التَّوبةِ الخالصةِ ذنوبَك، والبس كسوة الصِّدقِ، والصَّفاء، والخضوع، والخشوع.
وأحرم من كلِّ شيئ يَمنعُكَ من ذِكر الله، ويحجُبكَ عن طاعتِه.
ولَبِّ بمعنى إجابةً صافية زاكية للهِ (عزَّ وجلَّ) في دعوتِكَ له، متمسِّكًا بعروته الوثقى.
وطُقْ بقلبِكَ مع الملائكة حَوْلَ العَرْشِ كطوافِكَ مع المسلمين بنفسِكَ حول البيت.
وهَرْوِلْ هَرْوَلةً من هَوَاكَ، وتبريًّا من جميع حَوْلِكَ، وقوّتِكَ.
فاخرجْ مِن غفلتِكَ، وزلَّاتِكَ بخروجِكَ إلى مِنَى، ولا تتمَنَّ ما لا يحلُّ لكَ، ولا تسحقّهُ.
واعترفْ بالخطايا بعَرَفاتٍ، وجدِّدْ عهدَكَ عند اللهِ بوحدانيَّتِهِ.
وتقرَّبْ إلى الله ذا ثقة [واتَّقه] بمزدلفة.
وأصعِد بروحك إلى الملأ الأعلى بصعودِكَ إلى الجبل.
واذبحْ حنجرتي الهوى والطَّمع عند الذَّبيحة.
وارمِ الشَّهواتِ، والخساسةَ، والدَّناءةَ، والأفعالَ الذَّميمة عند رَمْي الجمرات.
واحلقْ العيوبَ الظَّاهرة َوالباطنةَ بحلق رأسِكَ.
وادخلْ في أمانِ الله، وكنفه، وسترِه، وكلاءتِه من متابعة مرادكَ بدخولِكَ الحرم.
وزرْ البيتَ متحقِّقًا لتعظيم صاحبِهِ، ومعرفةِ جلالِهِ، وسلطانِهِ.
واستلمْ الحجرَ رضًا بقسمتِهِ، وخضوعًا لعزَّتِهِ.
وَوَدِّعْ ما سواهُ بطواف الوَداع.
وَصَفِّ روحَك، وسرَّكَ للقاء اللهِ يوم تلقاه بوقوفِكَ على الصَّفا.
وكنْ ذا مروة من الله تقيا أوصافُك عند المروة.
واستقمْ على شرط حجِّكَ هذا، ووفاء عهدِك الذّي عاهدْتَ به مع ربِّكَ، وأوجْبتَهُ إلى يوم القيامة». (ميزان الحكمة 1/537، محمَّد الريشهري).

المشترك الخامِسُ – بين الموسمين -: لكلٍّ من المُوْسِمين عيد

للصَّائمين عيدٌ وهو عيد الفطر.
وللحجَّاج عيدٌ وهو عيد الأضحى.
والعيد يحمل مجموعة دلالات:

الدَّلالة الأولى: العيدُ يُشكِّل ولادة إيمانيَّة جديدة
فالصَّائمون تغفر ذنوبُهم، وكذلك الحجَّاج.

•عن رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): «مَنْ صام شهر رمضان وختمه بصدقةٍ، وغدا إلى المصلَّى بغسلٍ رجع مغفورًا». (وسائل الشيعة 9/319 الحر العاملي).

والحجَّاج يقال لهم: «انصرفوا، مغفورين، فقد أرضيتموني ورضيت عنكم». (بحار الأنوار 96/249، المجلسي، ب47، ح1)

الدَّلالة الثَّانية: العيد يوم الانتصار على الشَّيطان، وعلى الهوى والعصيان

1-«كلَّ يوم لا يُعصى الله فيه، فهو عيد». (نهج البلاغة، الصفحة 852، خطب الإمام علي (عليه السَّلام)، تحقيق: د. صبحي الصَّالح)

2-«إنَّما هو عيدٌ لمَن قبل الله صيامه، …». (نهج البلاغة، الصفحة 551، خطب الإمام علي (عليه السَّلام)، تحقيق: د. صبحي الصَّالح)

3-ليس العيد لمَن لبس الجديد، العيد لمن خاف الوعيد.

فالصَّائمون يفرحون يوم عيد الفطر، لأنَّهم انتصروا على الشَّيطان من خلال أداء فريضة الصِّيام.

والحجَّاج يفرحون في يوم عيد الأضحى، لأنَّهم انتصروا على الشَّيطان من خلال أداء فريضة الحجِّ.

الدَّلالة الثَّالثة: يوم العيد هو يوم الجوائز الكبرى للصَّائمين وللحجيج

•قال رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): «إذا كان أوَّل يوم من شوَّال نادى منادٍ: أيُّها المؤمنون، اغدوا إلى جوائزكم، …». (الوافي 9/1310، الفيض الكاشاني).

وهكذا الحجيج يعطون جوائزهم في يوم عيد الأضحى.

الدَّلالة الرَّابعة: يوم العيد هو يوم المحبَّة، والتَّسامح، والأخوَّة في الله تعالى
فلا قيمة للعيد إذا لم يزرع المحبَّة، والتَّسامح، والأخوَّة في الله تعالى.

•في الحديث: «إنَّ المتحابِّين في الله يوم القيامة على منابر من نور، قد أضاء نور وجوههم، ونور أجسادهم، ونور منابرهم كلَّ شيئ حتَّى يعرفوا به، فيقال: هؤلاء المتحابُّون في الله». (الوافي 4/481، الفيض الكاشاني).

فهل استطاعت أعيادنا أنْ:
تزرع بيننا المحبَّة، والصَّفاء؟!
وإنْ تكرِّس فينا التَّسامح، والاعتدال؟!
وإنْ تؤلِّف بين قلوبنا، وأرواحنا؟!
وإنْ توحِّد مواقفنا؟!

إذا كانت كذلك، فهي الأعياد التي أرادها الله تعالى للمسلمين.

وهي الأعياد التي تصنع العزَّة، والكرامة.
وتصنع الهَيْبة، والقوَّة.
وهي الأعياد التي تنهى كلَّ المكدِّرات، والمنغِّصات.
وهي الأعياد التي تصفِّي كلَّ الخلافات، وكلَّ الصِّراعات، وكلَّ التَّوتُّرات، وكلَّ التَّأزُّمات.
مضى عيد الفطر، ويستقبل المسلمون عيد الأضحى، فهل تتغيَّر أوضاع المسلمين في اتِّجاه الوحدة والتَّقارب؟!
وفي اتِّجاه التَّفاهم، والتَّصالح؟!
وفي اتِّجاه المحبَّة، والتَّسامح؟
واتِّجاه البناء، والإصلاح؟

نسأل الله سبحان أنْ يكون ذلك.
وأنْ يجنِّب أوطان المسلمين كلَّ المخاطر، والكوارث، والمآلات المرعبة، والمدِّمرة.

وآخر دعوانا أنْ الحمد الله ربِّ العالمين.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى