الإمام أمير المؤمنين (ع)ملف شهر رجبمن وحي الذكريات

في ذكرى ميلاد أمير المؤمنين (عليه السَّلام)

هذه الكلمة للعلَّامة السَّيِّد عبد الله الغريفي، قد تمَّ بثُّها يوم الخميس (ليلة الجمعة)، بتاريخ: (12 رجب 1442 هـ – الموافق 25 فبراير 2021 م)، وذلك بمناسبة ذكرى ولادة أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب (عليه السَّلام)، وقد تمَّ تفريغها من تسجيل مرئيٍّ، وتنسيقها بما يتناسب وعرضها مكتوبةً للقارئ الكريم.

في ذكرى ميلاد أمير المؤمنين (عليه السَّلام)

أعوذ بالله السَّميع العليم من الشَّيطان الغويِّ الرَّجيم
بسم الله الرَّحمن الرَّحيم
الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، وأفضلُ الصَّلوات على سيِّدِ الأنبياء والمرسلين سيِّدنا، ونبيِّنا، وحبيبنا، وقائدنا محمَّدٍ، وعلى آلِهِ الهُداة الميامين الطَّيِّبين الطَّاهرين.
السَّلام عليكم أيُّها الأحبَّة جميعًا ورحمة الله وبركاته.
وبعد:
تهنئة بالمولد الشَّريف
فأهنِّئكم بذِكرى ميلاد أمير المؤمنين (عليه السَّلام)، وبهذه المناسبة الطَّيِّبة الكريمة الكبيرة.
سأتناول مجموعة عناوين أضعها كالتَّالي:

العنوان الأوَّل: عليٌّ (عليه السَّلام) علَّمنا التَّراحمَ، والتَّسامح

سمع عليٌ (عليه السَّلام) قومًا من أصحابِهِ يَسبُّونَ أهل الشَّام أيَّام حربهم بصفِّين، فقال: «إنِّي أكره لكم أنْ تكونوا سَبَّابين [وفي رواية: لعَّانِين]، ولكنَّكم لو وصفتم أعمالهم، وذكرتم حالهم كان أصوب في القولِ، وأبلغ في العذر، وقلتم مكان سبِّكم إيَّاهم: اللَّهمَّ، احقن دماءَنا ودماءَهم، وأصلح ذات بيننا وبينهم، واهدهم من ضلالتهم، …» (نهج البلاغة 2/185، خطب الإمام عليٍّ (عليه السَّلام)).
في هذا المقطع من كلام عليٍّ (عليه السَّلام) ثلاثة مضامين كبيرة:

المضمون الأوَّل: اعتماد اللُّغة النَّظيفة دائمًا

عليٌّ (عليه السَّلام) يعلِّمنا أنْ تكون لغتنا لغة نظيفة، لغة الخطاب، ولغة الحوار، ولغة الكتابة، وأنْ تكون اللُّغة نظيفة دائمًا حتَّى مع الذين نختلف معهم فكريًّا، أو دينيًّا، أو سياسيًّا.

المضمون الثَّاني: ممارسة النَّقد البنَّاء
عليٌّ (عليه السَّلام) يعلِّمنا كيف نمارس ممارسة النَّقد البنَّاء النَّظيف البعيد عن كلِّ الانزلاقات.
بأنْ ننقد، ونختلف مع الآخر.
ونحاسب الفكر الآخر.
ونحاسب الرَّأي الآخر، ولكن بممارسة نقديَّة نظيفة، بعيدة عن الانزلاقات والمهاتَرات.

المضمون الثَّالث: طرح شعار الوحدة والتَّآلف، والتَّقارب

عليٌّ (عليه السَّلام) يطرح شعار الوحدة والتَّآلف، والتَّقارب.
وانطلاقّا من هذه المضامين الثَّلاثة، فإنَّ عليًّا (عليه السَّلام) يؤسِّس (لمبدأ التَّراحم، والتَّسامح).
فما أحوج أبناء الوطن الواحد أنْ يعيشوا تراحمًا، وتسامحًا؛ لتترسَّخ في داخلهم (أخوَّة الدِّين، والوطن)، ولتتجذر في نفوسهم (مشاعر التَّآلف، والتَّقارب)، ولينتزعوا من قلوبهم (كلَّ الأحقاد، والأنانيَّات)، فمهما تعدَّدت في الوطن الواحد المكوِّنات، والانتماءات، والطَّوائف، والمذاهب، فالانتماء إلى الوطن الواحد يضعهم جميعًا أمام خيار التَّلاقي والتَّآلف، وأيُّ خيار آخر يضع الوطن أمام منزلقات خطيرة.
وكذلك ما أحوج أنْ تعيش أوطان المسلمين فيما بينها تراحمًا وتسامحًا في مواجهة كلِّ الخلافات والتَّحدِّيات.
وما يكرِّس هذا الخَيار أنْ تتحرَّك (لغة الحوار والتَّفاهم)، وليس أيَّة لغة أخرى.
فكم هو جميلٌ أنْ تتآلف أوطان المسلمين.
وكم هو جميل أنْ تتقارب العقول، والقلوب، والأرواح.
وكم هو جميلٌ أنْ تتوحَّد المصالح، والأهداف.
إنَّ مساحات الالتقاء بين المسلمين أفرادًا، وشعوبًا، وأوطانًا قادرة على أنْ تحوِّل (الاختلافات) مهما كانت كبيرة، ومهما كانت معقَّدة إلى (منتجات تقارب وتآلف) بشرط أنْ تصدق النَّوايا، وتأتلف القلوب، وتقوى العزائم.
أعداءُ أمَّتنا العربيَّة والإسلاميَّة لا يريدون لأوطاننا أنْ تتقارب.
ولا يريدون لشعوبنا أنْ تتصافى.
ولا يريدون لخيارات التَّراحم والتَّسامح أنْ تتحرَّك.
ولا يريدون لمسارات التَّآلف أنْ تقوى.
أمَّا نداء الدِّين، ونداء الانتماء إلى الأمَّة الواحدة، وإلى الأوطان الواحدة، فيدعونا إلى التَّقارب، والتَّصافي، والتَّراحم، والتَّسامح، والتَّآلف.

العنوان الثَّاني: عليٌّ (عليه السَّلام) يطرح شِعار (السِّلم والمحبَّة) في مواجهة شِعار (العنف والكراهية)، وشعار التَّطرُّف والتَّشدُّد

يقول في كلمته يخاطب أصحابه: «…، وقلتم مكان سبِّكم إيَّاهم: اللَّهمَّ، احقن دماءَنا ودماءَهم، وأصلح ذات بيننا وبينهم …» (نهج البلاغة 2/185، خطب الإمام عليٍّ (عليه السَّلام)).
عليٌّ (عليه السَّلام) حينما يطرح (شِعار السِّلم والمحبَّة) لا يطرحه للاستهلاك والمتاجرة، فعليٌّ (عليه السَّلام) لا يعرف هذه اللَّغة.
عليٌّ (عليه السَلام) لا يعرف لغة الاستهلاك، ولغة المتاجرة بالعناوين.
إنَّه (عليه السَلام) الصَّادق في كلِّ ما يقول.
وإنَّه (عليه السَلام) الصَّادق في كلِّ ما يفعل.
كم هي الشِّعارات كبيرة في عصرنا الحاضر؟!
•شِعار السَّلام
•شِعار الأمن
•شِعار العدل، والانصاف
•شِعار الوحدة، والتَّقارب
•شِعار المحبَّة، والتَّسامح
شِعاراتٌ في غاية الجمال، وفي غاية البهاء.
هي شعارات كبيرة كبيرة جدًّا وجميلة جميلة جدًّا!
وشِعاراتٌ تملأ سمع الدُّنيا.
والسُّؤال الصَّعب: كم هي المِصَداقيَّةُ لهذه الشِّعارات؟
المصداقيةُ تعني: الحركة على الأرض، لا أنْ نُطلق الشِّعار في الفضاء.
أنْ يبقى الشِّعار في الفضاء، فلا قيمة له، بل يجب أنْ نُنْزل الشِّعار إلى الأرض.
المصداقيَّةُ تعني الحركة على الأرض.
المصداقيَّةُ تعني الواقعيَّة.
المصداقيةُ تعني الممارسة، والسُّلوك، والفعل.
فكم هي متحرِّكة؟
وكم هي واقعيَّة؟
وكم هي صادقة هذه المنظومة الكبيرة من الشِّعارات؟
القيمةُ كلُّ القيمةِ ليست في العناوين، فالعناوين كبيرة، والعناوين جذَّابة، والعناوين مغرية.
القيمةُ كلُّ القيمةِ ليست في العناوين.
إنَّما القيمةُ كلُّ القيمة حينما تتحوَّل هذه العناوين واقعًا متحركًا، حينما تتجسَّد، وحينما تتفعَّل.
إذا كان الأمر كذلك، فإنسانُ هذا العصرِ بخير.
وشعوبُ هذا العصرِ بخير.
وأنظمة هذا العصرِ بخير.
وأوطان هذا العصرِ بخير.
قلوبُنا على أوطانِنا
نريدُ لها أنْ تكونَ أوطانَ محبَّةٍ، وسلام.
ونريدُ لها أنْ تكون أوطانَ خير، ورفاه.
ونريدُ لها أنْ تكون أوطانَ صلاح، وإصلاح.
ونريدُ لها أنْ تكون أوطانَ وحدةٍ، وتآلف.
ونريدُ لها أنْ تكون أوطانَ أمنٍ، وأمان.
هكذا يجبُ أنْ تتلاقى كلُّ النَّوايا.
وهكذا يجبُ أنْ تتلاقى كلُّ القلوب.
وهكذا يجبُ أنْ تتلاقى كلُّ العزائم.
وهكذا يجبُ أنْ تتلاقى كلُّ الإرادات.
من أجل بناء الأوطان بناءً صالحًا.
ومن أجل أنْ تنتهي كلُّ المكدِّرات والأزمات، وبقدر ما يكون الأمر كذلك تتحصَّن الأوطان، وإذا كان الأمر على خلاف ذلك اهتزَّت الخيارات، وزادت الإرهاقات، وتجذَّرت الإشكالات، وهكذا نؤسِّس لأوطان الخير والرَّفاه.
ولأوطان المحبَّة، والتَّسامح.
ولأوطان الأمن، والأمان.

العنوان الثَّالث: عليٌّ (عليه السَّلام) نصير البائسين، والمحرومين

ونحن نلتقِي في ذِكرى ميلاد أمير المؤمنين (عليه السَّلام)، ففي ذكراه (عليه السَّلام) نستوحي الكثير من عطاء فكره، وثقافته، وخطابه، وكلماته.
جاء في عهد الإمام عليٍّ (عليه السَّلام) إلى مالك الأشتر حينما ولَّاه على مِصَر – في هذا العهد مضامين ضخمة جدًّا، وعظيمة جدًّا، ولا أعتقد أنْ كلَّ المنظومات الحقوقيَّة المعاصرة ترقى إلى مستوى هذا العهد، عهد عليٌّ إلى مالك الأشتر، ففي هذا المقطع من عهد عليٍّ (عليه السَّلام) إلى مالك يتحدَّث عليٌّ (عليه السَّلام) مناصرًا البائسين، والمحرومين، فالخطاب إلى مالك إلى الحاكم إلى الوالي، يقول -: «…، ثمَّ الله الله في الطَّبقة السُّفلى من الَّذين لا حيلة لهم من المساكين، والمحتاجين، وأهل البؤسى والزمنى، …» (نهج البلاغة 3/100، خطب الإمام عليٍّ (عليه السَّلام)).
«أهل البؤسى»: الذينَ يعيشون حالاتٍ متدنِّية جدًّا في أوضاعهم المعيشيَّة، البائسون، والمحرومون، الفقراء، المعدمون.
«الزمنى»: أصحاب العاهات المانعة لهم من العمل، والاكتساب.
عليٌّ (عليه السَّلام) هنا يحمِّل الحاكم والوالي مسؤوليَّة هذه الطَّبقة البائسة الفقيرة المحرومة.
ولم يكتفِ عليٌّ (عليه السَّلام) بتأكيده على ضرورة أنْ يتحمَّل (الوالي) كلَّ المسؤولية في الاهتمام بالبائسين، والضُّعفاء، والمحرومين.
لا يكفي أنْ يوصي الحاكم بهم؛ لتبقى وصاياه عائمة في الفضاء، ولتبقى وصاياه نظريَّة.
عليٌّ (عليه السَّلام) يضع برنامجًا عمليًّا.
عليٌّ (عليه السَّلام) يضع منهجًا عمليًّا؛ من أجل متابعة أوضاع هؤلاء البائسين، والفقراء.
بل وجَّه واليهِ (مالكًا) إلى أنْ يشكِّل (جهازًا موثوقًا)!
انتبهوا لقد وجَّه واليه إلى أنْ يشكِّل جهازًا موثوقًا متفرغًا؛ لتفقُّد أوضاع البائسين، واليتامى، والطَّاعنين في السِّنِّ، فربما تعذَّر على هؤلاء أنْ يوصلوا شكاواهم إلى الوالي.
يقول عليٌّ (عليه السَّلام) مخاطبًا الوالي: «…، وتفقَّد أمور مَنْ لا يصل إليك منهم، …، ففرِّغ لأولئك ثقتك من أهل الخشية، والتَّواضع، فليرفع إليك أمورهم، …».
«تفقَّد»: ابحث عنهم، ولا تنتظر أنْ تأتي شكاواهم، ورسائلهم، وطلباتهم، أنت تفقَّد أوضاعهم.
«…، ففرِّغ لأولئك ثقتك، …» شكِّل جهازًا موثوقًا يتابع آلام المحرومين، وآلام البائسين، وآلام الفقراء «… من أهل الخشية، والتَّواضع، فليرفع إليك أمورهم، …» (نهج البلاغة 3/101، خطب الإمام عليٍّ (عليه السَّلام)).
فمؤهَّلات هذا الجهاز الَّذي يتابع أمور الضُّعفاء والبائسين، هي:
1-أنْ يمتلك درجةً عاليةً من النَّزاهة، والأمانة، والوثاقة.
2-أنْ يمتلك درجةً عاليةً من التَّقوى، والصَّلاح، والخشية من الله تعالى.
3-أنْ يمتلك درجةً عاليةً من التَّواضع، والأريحيَّة، والانفتاح على هموم هذه الطَّبقة المعدمة والمحرومة.
فكم هي مبادئ في غاية الرُّقي، والتَّقدُّم تجاوزت بخطوات كبيرة ما انتجته المنظَّمات الحقوقيَّة في عصرنا الحاضر.
هكذا في منظور عليٍّ (عليه السَّلام) يجب أنْ تتحمَّل (الأنظمة الحاكمة) المسؤوليَّة في رعاية أوضاع المُعْدَمين والعاطلين، وفي معالجة أزمات المعيشة، والاقتصاد.
فإذا غابت هذه المسؤوليَّة تعرَّضت الأوطان إلى إرباكاتٍ، واهتزازاتٍ صعبةٍ جدًّا.
وبقدر ما تنفتح الأنظمة على هموم الشُّعوب، وآلام الضُّعفاءِ والبائسين، وبقدر ما تملك من برامج لمعالجة أزمات المعيشة تتمكَّن من مواجهة الكثير من الإرباكات، والكثير من الإشكالات، والتَّعقيدات. اليوم أخطر ما يواجه الأوطان (الإشكالات الاقتصاديَّة)، والأوضاع الحياتيَّة، فأيُّ فشل في معالجة هذه الإشكالات، وهذه الأوضاع يدفع إلى تأزُّمات صعبة.

العنوان الرَّابع – في هذا اللِّقاء الطَّيِّب في ذكرى أمير المؤمنين (عليه السَّلام) -: قيمة التَّكافل الاجتماعيِّ في كلمات عليٍّ (عليه السَّلام)

من خلال العنوان المتقدِّم تحدَّث عليٌّ (عليه السَّلام) عن مسؤولية الدَّولة [النِّظام الحاكم] في رعاية أوضاع البائسين، والمحرومين، وهذا ما يسمَّى في مصطلح العصر بـ(الضَّمان الاجتماعيِّ).
وتحدَّث عليٌّ (عليه السَّلام) عن مسؤوليَّة المجتمع – كما هي الدَّولة مسؤولة أوَّلًا وبالذَّات، النَّاس كذلك مسؤولون – في هذه الرِّعاية، وما يسمَّى اليوم بـ(التَّكافل الاجتماعيِّ).
•نقرأ في الكلمة عن عليٍّ (عليه السَّلام): «إنَّ للهِ عبادًا من خَلْقِهِ تفزع النَّاس إليهم في حوائجهم أولئك الآمنون من عذاب الله (عزَّ وجلَّ)» (مسند الإمام علي (عليه السَّلام) 10/211، السَّيِّد حسن القبانجي).

•وفي كلمة أخرى له (عليه السَّلام): «…، مَنْ نفَّس عن مؤمنٍ كربةً نفَّس الله عنه اثنين وسبعين كربة من كرب الدُّنيا، واثنين وسبعين كربة من كرب الآخرة، ومَنْ أحَسَنَ أحَسَنَ الله إليه، والله يحبُّ المحسنين» (مسند الإمام علي (عليه السَّلام) 10/211، السَّيِّد حسن القبانجي).
ربَّما تمرُّ بالنَّاسِ ظروف صعبة، وأزمات قاسية، هنا مطلوبٌ منَّا أنْ نتفقَّد أوضاع البائسين، والمحرومين، والمحتاجين.
أنشبعُ، وهناك بطون جائعة؟
أنلبس، وهناك مَنْ يبحث عن قطعةِ قماش لأطفاله؟
أنتعَّم بالفائض من النِّعم، وهناك المحرومون؟
•في الكلمة عن النَّبي (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): «ما آمن بي مَنْ بات شبعان، وأخوه المسلم طاوٍ» (بحار الأنوار 71/387، العلامة المجلسي).
•وفي الكلمة عن الإمام علي بن الحسين (عليهما السَّلام): «مَنْ كان عنده فضل ثوب، فعلم أنَّ بحضرتِهِ مؤمنًا محتاجًا إليه، فلم يدفعه إليه أكبَّه الله تعالى في النَّار على منخريه» (بحار الأنوار 71/387، العلامة المجلسي).
فكم هي عبادة عظمى أنْ نُشبع البطون الجائعة.
وأنْ نكسو الأجساد العارية.
وأنْ نفرِّج عن المكروبين.
وأنْ نكفَّ وجوه المتعفِّفين.
•في الكلمة عن الإمام الباقر (عليه السَّلام): «…، لأنْ أعول أهل بيت من المسلمين، أسدُّ جوعتهم، وأكسو عورتهم، وأكفُّ وجوههم عن النَّاس أَحَبَّ إليَّ من أنْ أحجَّ حجَّة وحجَّة وحجَّة، ومثلها ومثلها حتَّى بلغ عشرًا، ومثلها ومثلها حتَّى بلغ السَّبعين» (بحار الأنوار 71/329، العلامة المجلسي).

الشَّدُّ على يد الجمعيَّات الخيريَّة

وهنا أشدُّ على يد الجمعيَّات الخيريَّة فيما تبذله من جهودٍ صادقةٍ ومشكورة في التَّخفيف من آلام الفقراء والبائسين، فإلى المزيد من الجدِّ، والاجتهاد، والإخلاص، والعمل الدَّؤوب في متابعة أوضاع المحرومين والمعوزين.
وما أجمل أنْ تبادر الجمعيَّات الخيريَّة إلى تفقُّد حاجات المعوزين، وضروراتهم، فما أكثر المتعفِّفين الذين لا تسمح لهم عفَّتُهم أنْ يطرقوا الأبواب، ولا تسمح لهم كرامتهم أنْ تُشهر ضروراتهم، وحاجاتهم.
فكم أكَّدت النُّصوص الدِّينيَّة على صدقة السِّرِّ.
•﴿إِنْ تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاء فَهُوَ خَيْرٌ لُّكُمْ …﴾ (سورة البقرة: الآية 271)
•في الكلمة عن رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): «صدقة السِّرِّ تطفِئ غضب الرَّبِّ» (ميزان الحكمة 2/1600، محمَّد الريشهري).
•وقال (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): «سبعة في ظلِّ عرش الله (عزَّ وجلَّ) يوم لا ظلَّ إلَّا ظِلُّه، رجل تصدَّق بيمينه، فأخفاه عن شماله» (ميزان الحكمة 2/1600، محمَّد الريشهري).
•وفي الكلمة عن أمير المؤمنين (عليه السَّلام): «أفضلُ ما توسَّل به المتوسِّلون الإيمان بالله، …، وصدقة السِّرِّ، فإنَّها تذهب الخطيئة، وتطفئ غضب الرَّبِّ» (ميزان الحكمة 2/1600، محمَّد الريشهري).
•وقال الإمام الباقر (عليه السَّلام) متحدِّثا عن أبيه الإمام زين العابدين (عليه السَّلام): «إنَّه كان يخرج في اللَّيلة الظَّلماء، فيحمل الجراب على ظهره حتَّى يأتي بابًا بابًا، فيقرعه، ثمَّ يناول مَنْ كان يخرج إليه، وكان يغطِّي وجهه إذا ناول فقيرًا؛ لئلَّا يعرفه» (ميزان الحكمة 2/1600، محمَّد الريشهري).
وتبقى للضَّرورات أحكامها، فربَّما تفرض هذه الضَّرورات أنْ تكون (التَّبرُّعات) مكشوفة ومعلنة؛ من أجل تنشيط العمل الخيريِّ، وتحريك الهِمم النَّبيلة، وإنتاج المحفِّزات الكريمة متى ما كان الأمر بعيدًا عن الرِّياء، والطَّمع في التَّباهي والشُّهرة، فإنَّ هذا أمر ممقوت شرعًا، ولا يحظى بشيئ من عطاءات الله سبحانه.
فقيمة العمل في منظور الدِّين ليس في حجمه، وإنَّما في دوافعه الصَّالحة، ومتى توفَّرت هذه الدَّوافع، فلا إشكال أنَّ للحجم قيمةً في ميزان الشَّرع، فكلَّما اتَّسعت مساحة العطاء كبر حجم الثَّواب.
وأكرِّر القول بضرورة أنْ تنهض جمعياتنا الخيريَّة بدورها الفاعل ممَّا يؤكِّد قيمة العمل المؤسَّساتي فيما يعطيه من مصداقيَّة، وقوَّة، وفاعليَّة.
وأؤكِّد على ضرورة أنْ تتعاون كلُّ الجهود، والقُدُرات؛ للنُّهوض بالعمل الخيريِّ، وتطويره فيما يخدم
أبناء هذا الوطن، ويعطي نموذجًا راقيًا للإسهامات الخيريَّة الرَّشيدة القائمة على الرُّؤية الفقهيَّة البصيرة، وعلى التَّكافل الاجتماعيِّ المدروس، والموجَّه، والبعيد عن الانزلاقات والانفلاتات الفرديَّة المرتجلة.
وهذا يفرض التَّوفُّر على (خبرات) متقدِّمة في مجالات العمل الخيريِّ المؤسَّسِ؛ لكي نعطي لهذا العمل مساراته الأرقى، ومنتجاته الأفضل.

العنوان الخامس: كلمتان أخيرتان

الكلمة الأولى: الوقف الشَّرعيُّ
الوقفُ في منظورِ الشَّريعة الإسلاميَّة – ووفق جميع المذاهب – له أحكام خاصَّة مدوَّنةٌ في الكتب الفقهيَّة، وهذه الأحكام لا يجوز تجاوزها، والخروج عليها.
ومن العناوين المركزية في الوقف عنوان (المتولِّي).
وحسب الرُّؤية الفقهيَّة الجعفريَّة، فإنَّ (الولي) يُعيَّن من قبل (الواقف)، وإذا لم يُعيِّن الواقف متولِّيًا قام (الفقيه) في تعيين هذا الولي، ومتى تمَّ هذا التَّعيين، فلا يجوز لأيَّة جهة أنْ تغيِّر، أو تُبدِّل وإلَّا كان ذلك تدخُّلًا في الشَّأن المذهبيِّ، ونظرًا لأنَّ لكلِّ مذهب حرِّيَّة ممارسة شعائره وفق منظوره الدِّينيِّ، فشؤون الوقف واحدة من هذه الممارسات التي يجب أنْ تخضع لمنظور المذهب الفقهيِّ، وحسبما هو مدوَّن في فتاوى الفقهاء.
وهذا ما يجب أنْ تتعاون على تنفيذه كلُّ الإرادات الرَّسميَّة، والأهليَّة؛ لمواجهة كلِّ الإشكالات والتَّأزُّمات، وخاصَّة فيما يتَّصل بشأن (المآتم، والحسينيَّات) هذه المواقع التي تشكِّل مَفْصَلًا حسَّاسًا جدًّا في وضع الطَّائفة.
ما نأمله من إدارة الأوقاف الموقَّرة أنْ تكون حريصة كلَّ الحرص على التَّعاطي مع هذا الشَّأن وفق منظور المذهب الفقهيِّ؛ لكي تتكامل كلُّ الجهود في حراسة الأوضاع بالشَّكل الذي يحمي مصالح هذا الوطن، ومصالح هذا الشَّعب.

الكلمة الثَّانية: ظروف الوباء تضغط على حياة النَّاسَ

لا زالت ظروف الوباء المرعب تضغط على حياة النَّاس، وتهدِّد أوضاعهم، وهنا أؤكِّد:
أوَّلًا: على ضرورة التَّوفُّر على الوعي الوقائيِّ
وبقدر ما يرتقي هذا الوعي يقوى التَّحصُّن في مواجهة الأمراض والأوبئة، ويتشكَّل الوعي الوقائيُّ من خلال متابعة توجيهات أصحاب الاختصاص في هذا الشَّأن، لا من خلال مقولات النَّاس العاديين ممَّن لا يصدرون عن خبرة ومعرفة.
ثانيًا: على ضرورة التَّوفُّر على الالتزام بالإجراءات الوقائيَّة
لا يكفي أنْ نملك (وعي الوقاية)، بل لا بدَّ من الممارسة العمليَّة؛ من أجل أنْ نحافظ على صحَّتنا، وصحَّة الآخرين.
هذا ما تفرضه أوامر الشَّرع.
فمِن الدِّين أنْ نحصِّن أنفسنا ضدَّ الأمراض.
ومن الدِّين أنْ نبادر للتَّداوي، والعلاج.
في كلمة لإمامنا الصَّادق (عليه السلام) قال: «إنَّ نبيًّا من الأنبياء مرض، فقال: لا أتداوى حتَّى يكون الذي أمرضني هو الذي يُشفيني، فأوحى الله تعالى إليه: لا أشفيك حتَّى تتدواى، فإنَّ الشَّفاء مِنِّي»( ) (ميزان الحكمة 2/940، محمَّد الريشهري).
ومن النَّاس مَنْ يتصور أنَّ مِن الشَّجاعة أنْ نتحدَّى الوباء بلا وقاية، وبلا علاج، وهذا وَهْم خطأ، فلا يجوز شرعًا إيقاع النَّفس في المخاطر، وخاصَّة التي تؤدِّي إلى الهلاك، أو الأضرار البالغة.
نسأل الله تعالى أنْ يلطف بعباده، وهو اللَّطيف، وأنْ يخلِّص البشريَّة كلَّ البشريَّة من هذا الوباء الفاتك بمنِّه وكرمه، وهو المنَّان الكريم.
وآخر دعوانا أنْ الحمد لله ربِّ العالمين.
والسَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى