الإمام أمير المؤمنين (ع)من وحي الذكريات

في ذكرى عيد الغدير الأغر

هذه الكلمة للعلَّامة السَّيِّد عبد الله الغريفي، ألقيت بمناسبة ذكرى عيد الغدير، وقد تمَّ بثُّها عبر البثِّ الافتراضي في يوم الأربعاء بتاريخ: (17 ذو الحجَّة 1442 هـ – الموافق 28 يوليو 2021 م)، وقد تمَّ تفريغها من تسجيل مرئيٍّ، وتنسيقها بما يتناسب وعرضها مكتوبةً للقارئ الكريم.

في ذكرى عيد الغدير الأغر

أعوذ باللَّه السَّميع العليم من الشَّيطان الغوي الرَّجيم
بسم الله الرَّحمن الرَّحيم
الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، وأفضلُ الصَّلوات على سيِّدِ الأنبياء والمرسلين سيِّدنا ونبيِّنا وحبيبنا وقائدنا محمَّدٍ، وعلى آلِهِ الطَّيِّبين الطَّاهرين.
السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته

أهنِّئكم أيُّها الأحبَّة ونحن نستقبل مناسبة الغدير الأغر.

حدث الغدير (قضيَّة الغدير) من القضايا الثَّابتة في التاريخ
مناسبة الغدير من المناسبات التأريخيَّة المعروفة، وقضيَّة الغدير من القضايا التاريخيَّة الثَّابتة، لا يختلف المسلمون جميعًا بكلِّ مذاهبهم على أنَّ هناك حدث اسمه حدث الغدير، حيث كان الرَّسول عائدًا من حجَّة الوداع، ونزل عليه الوحي: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ …﴾ (المائدة/67).
فالمسألة من الناحية التاريخيَّة مسألة مسلَّمة لا جدل فيها، ومن القضايا الثَّابتة.

رؤيتان حول قضيَّة الغدير
هناك رؤيتان حول هذه القضيَّة:
الرُّؤية الأولى: أنَّها مجرَّد منقبة من مناقب علي بن أبي طالب (عليه السَّلام) ولا تحمل دلالة على الخلافة والقيادة.
الرَّسول (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) يريد أن يبيِّن فضيلة لعلي (عليه السَّلام)، فــ «مَنْ كنت مولاه…»، تعني مَنْ كنت محبُّه، ومن كنت ناصره، فهناك مناسبات كثيرة كان النَّبيُّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) قد بيَّن فيها مجموعة فضائل لعلي بن أبي طالب (عليه السَّلام)، ومن جملة هذه الفضائل «من كنت مولاه فعلي مولاه»، فالمسألة لا تحمل أيَّ دلالة أكثر من أنَّ النَّبيَّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) أراد أن يُشير إلى شيئ من فضائل علي بن أبي طالب (عليه السَّلام)، ولا تحمل دلالة على الخلافة والقيادة والولاية السِّياسيَّة، هذه رؤية في فهم هذا الحدث التاريخي.

الرُّؤية الثَّانية: أنَّها تمثِّل نصًّا على الخلافة والقيادة الامتداديَّة بعد النَّبيِّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم).
هذه الرُّؤية لا ترى أنَّ المسألة بهذه البساطة مجرَّد منقبة، ومجرَّد فضيلة، بل إنَّ هذا الحدث يمثِّل تعيين قيادة وخلافة وزعامة للأمَّة بعد رحيل النَّبيِّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم).

أوَّلًا: حديث الغدير مُدوَّن في أهم مصادر المسلمين.

أذكر مصدرين من مصادر المسلمين دوَّنا حديث الغدير، وقضيَّة الغدير.
المصدر الأوَّل: مسند الإمام أحمد بن حنبل (إمام المذهب الحنبلي)
وهو أحد الكتب المعتمدة عند المسلمين.
•روى الإمام أحمد بن حنبل في مسنده (ج4 ص 281 ط بيروت)
عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ، قَالَ: “كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللهِ (صلَّى الله عليه [وآله] وسلَّم) فِي سَفَرٍ، فَنَزَلْنَا بِغَدِيرِ خُمٍّ، فَنُودِيَ فِينَا: الصَّلَاةُ جَامِعَةٌ، وَكُسِحَ لِرَسُولِ اللهِ (صلَّى الله عليه [وآله] وسلَّم) تَحْتَ شَجَرَتَيْنِ، فَصَلَّى الظُّهْرَ، وَأَخَذَ بِيَدِ عَلِيٍّ (رَضِيَ اللهُ عَنْهُ)، فَقَالَ: «أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنِّي أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ؟»
قَالُوا: بَلَى.
قَالَ: «أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنِّي أَوْلَى بِكُلِّ مُؤْمِنٍ مِنْ نَفْسِهِ؟».
قَالُوا: بَلَى.
قَالَ: فَأَخَذَ بِيَدِ عَلِيٍّ، فَقَالَ: «مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ، فَعَلِيٌّ مَوْلَاهُ، اللَّهُمَّ وَالِ مَنْ وَالَاهُ، وَعَادِ مَنْ عَادَاهُ».
قَالَ: فَلَقِيَهُ عُمَرُ بَعْدَ ذَلِكَ، فَقَالَ لَهُ: هَنِيئًا يَا ابْنَ أَبِي طَالِبٍ، أَصْبَحْتَ وَأَمْسَيْتَ مَوْلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ وَمُؤْمِنَةٍ”.
“كنَّا مع رسول الله (صلى الله عليه [وآله] وسلَّم) في سفر”: المقصود هنا بالسفر: العودة من حجَّة الوداع، الحجَّة الأخيرة التي حجَّها النَّبيُّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم).
“فنزلنا بغدير خم”: منطقة معروفة وهي بين مكة والمدينة.
هذه رواية أحمد بن حنبل في مسنده، وأورد أيضًا روايات أخرى بنفس السِّياق ونفس المضمون في عدَّة مواقع من المسند، هذا مصدر من مصادر المسلمين ذكر حديث الغدير وقضيَّة الغدير.

المصدر الثَّاني: المستدرك على الصَّحيحين للحاكم النِّيسابوري
و(المستدرك على الصَّحيحين) من المصادر المعتمدة لدى المسلمين، و(الحاكم النِّيسابوري) من أعمدة الرِّواية والحديث.
ما معنى المستدرك على الصَّحيحين؟
الصَّحيحين هما: صحيح البخاري وصحيح مسلم، وقد استدرك الحاكم عليهما مجموعة كبيرة جدًّا من الأحاديث وفق شروط البخاري ومسلم، لكنَّ البخاري ومسلم لم يرويا هذه الأحاديث مع امتلاكها للشُّروط التي وضعاها، ولذلك سمَّاه (المستدرك على الصَّحيحين).
•روى الحاكم النِّيسابوري في المستدرك على الصَّحيحين (ج3 ص 109 ط بيروت)
عن زَيد بن أرقَمَ: “لَمَّا رَجَعَ رَسولُ اللهِ (صلَّى الله عليه وآله) مِن حَجَّةِ الوَداعِ ونَزَلَ غَديرَ خُمٍّ أمَرَ بِدَوحاتٍ فَقُمِمنَ.
فقالَ [صلَّى الله عليه وآله وسلَّم]: «كَأَنِّي قد دُعيتُ فَأَجَبتُ، إنِّي قَد تَرَكتُ فيكُمُ الثَّقَلَينِ، أحدُهُما أكبَرُ مِن الآخَرِ: كِتابَ اللهِ تَعالى، وعِترَتي، فانظُروا كَيفَ تُخَلِّفونِّي فيهِما، فَإِنَّهُما لَن يَتَفَرَّقا حَتَّى يَرِدا عَلَيَّ الحَوضَ».
ثُمَّ قالَ [صلَّى الله عليه وآله وسلَّم]: «إنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ مَولايَ، وأنَا مولى كُلِّ مُؤمِنٍ».
ثُمَّ أخَذَ بِيَدِ عَلِيٍّ فَقالَ: «مَن كُنتُ مولاه فَهذا وَلِيُّهُ، اللَّهُمَّ والِ مَن والاهُ، وعادِ مَن عاداهُ». (الحاكم النَّيسابوري، المستدرك 3/109)
(قال الحاكم بعد ذكر الحديث): “هذا حديث صحيح على شرط الشَّيخين ولم يخرجاه”.
“لَمَّا رَجَعَ رَسولُ اللهِ (صلَّى الله عليه وآله) مِن حَجَّةِ الوَداعِ …”: هنا ينصُّ على أنَّها سفرة الرُّجوع من حجَّة الوداع.
«كَأَنِّي دُعيتُ فَأَجَبتُ …»: ينعى نفسه، يذكر لهم أنَّها الأيام الأخيرة من حياته.

هذان مصدران من أهمِّ مصادر الحديث عند المسلمين قد ذكرا حديث الغدير.
وقد ذكرتُ في كتابي (التَّشيُّع) أكثر من خمسين مصدرًا من مصادر المسلمين أورَدَت حديث الغدير.
وقد صرَّح جملة من علماء الحديث السُّنة بتواتر حديث الغدير، (ذكرتُ أسماءَهم في كتاب التَّشيُّع).
إذن، هذا الحدث وقع في التاريخ، وهو حدث نسمِّيه حدث الغدير، وقضيَّة نسمِّيها قضيَّة الغدير، وحديث نسمِّيه حديث الغدير، هذا متَّفق عليه.

ثانيًا: دلالة حديث الغدير

الحديث يحمل دلالةً صريحةً كلَّ الصَّراحة على إمامة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السَّلام)، وعلى تهيئته لموقع القيادة الامتداديَّة بعد رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، هكذا نفهم الحدث وهكذا نفهم الحديث، انطلاقًا من مجموعة حيثيَّات أذكرها باختصار:

حيثيَّات دلالة حديث الغدير

الحيثيَّة الأولى: القرائن المقاميَّة

إذا أردنا أن نفهم أيَّ نصٍّ فنلاحظ القرائن، فتوجد عندنا قرائن مقاميَّة، وأخرى قرائن لفظيَّة.
القرائن المقاميَّة: الوضع العام المحيط بالحدث كالمكان، والزَّمان، والظَّرف.
القرائن اللفظيَّة: هي التي تكون في داخل العبارة واللفظ والكلام.
سنتحدث أوَّلًا عن القرائن المقاميَّة، وهل أنَّ هذه القرائن تُعطي معنًى بسيطًا لقضيَّة الحدث هذا؟ أو تعطيه معنًى كبيرًا؟
1-المكان: غدير خمٍّ، على مقربة من الجحفة، بين مكَّة والمدينة، في صحراء يلفحها الهجير، وتلتهب رمالها بوهج الظَّهيرة.
تخصيص هذا الموقع، وألَّا يتأخَّر النَّبيُّ عن هذا الموقع في تبليغ ما أُنزل إليه في هذا الموقع بالخصوص وبعد العودة، فهذا المكان يُعطي أهمِّيَّة للحدث.

2-الزَّمان: أثناء العودة من حجَّة الوداع، في مرحلة تمثِّل المقطع الأخير من حياة الرَّسول (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم).
ماذا يعني أن يأتي التَّبليغ على أنَّ عليًّا (عليه السَّلام) هو ولي المؤمنين، وولايته امتداد لولاية الله وولاية النَّبيِّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) في هذا المقطع الأخير من حياة النَّبيِّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) أثناء العودة من حجَّة الوداع؟
إذن هذا الزَّمان له خصوصيَّة، ويُلقي ضوءًا على معنى الحدث.
إذن، المكان يُعطي خصوصيَّة وأهمِّيَّة لهذا الحدث، والزَّمان يُعطي خصوصيَّة وأهمِّيَّة لهذا الحدث.

3-الاجتماع: لقاء جماهيري حاشد ضمَّ ما يربو على (مائة ألف إنسان) من المسلمين.

4-الخطاب: حديث تاريخي خطير، ألقاه الرَّسول (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) في يوم الغدير.

5-الأسلوب: أخذ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) بيد عليٍّ (عليه السَّلام) ورفعها حتى بان بياض إبطيهما.
هذه كلُّها دلالات على أهمِّيَّة الحدث.

الحيثيَّة الثَّانية: القرائن اللفظيَّة والكلاميَّة

1-التمهيدات التي طرحها الرَّسول (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم):
•«ألستم تعلمون أنِّي أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟» هذا سؤال، وهو تمهيد ذهني ونفسي.
•«ألستم تعلمون أنِّي أولى بكلِّ مؤمن من نفسه؟»
•«فمن وليُّكم؟».
•«ألستم تشهدون أنْ لا إله إلَّا الله وأنَّ محمَّدًا عبده ورسوله؟».
هذه التَّمهيدات لماذا؟
لأنَّه يريد أن يطرح قضيَّة في منتهى الخطورة، في سياق ولاية الله، وفي سياق ولاية النَّبيِّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، فهذه تمهيدات تمثِّل قرائن لفظيَّة على أهمِّيَّة الحدث والحديث الذي سيتحدَّث به رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم).

2-الدُّعاء لعليٍّ (عليه السَّلام)
•«اللَّهمَّ والِ مَنْ والاه
وعادِ مَنْ عاداه
وانصر مَنْ نصَره
واخذل مَنْ خذله
وأدرِ الحقَّ معه حيث دار».
هذا دعاء مكثَّف، ودعاء خطير لا يتناسب مع معنًى بسيط جدًّا.

3-التَّأكيد على التَّمسُّك بالثَّقلين
«إنِّي قَد تَرَكتُ فيكُمُ الثَّقَلَينِ، …: كِتابَ اللهِ تَعالى، وعِترَتي».
4-التَّصريح الواضح في خطاب النَّبيِّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) بأنَّها الأيام الأخيرة في حياته المباركة.
•«إنِّي أوشك أن أدعى فأجيب»، أنا على وشك أن أفارقكم وأغادركم.
•«كأنِّي دعيت فأجبت».
لماذا يذكِّرهم بأنَّها الأيام الأخيرة من حياته ويُنصِّب عليًّا وليًّا للمؤمنين، هل هذا معنى بسيط وعادي؟!

5-التَّأكيد في آخر الخطبة أنْ يُبلِّغ الشَّاهد منهم الغائب.

6-التَّصريحات التي صدرت من بعض كبار الصَّحابة.
قول عمر: «هنيئًا لك يا ابن أبي طالب أصبحت وأمسيت مولى كلِّ مؤمن ومؤمنة».

في ضوء هذه القرائن الحاليَّة واللفظيَّة
لا يمكن أنْ نفهم هذا الحدث إلَّا أنَّه تعيين صريح للقيادة بعد رحيل النَّبيِّ الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلَّم)، وأيُّ تفسير آخر هو تفريغ لهذا الحدث من دلالاته الكبيرة.
هذه الحيثيَّة الثَّانية التي تدل على خطورة الحدث، وأنَّه نصٌّ على تعيين القيادة الامتداديَّة.

الحيثيَّة الثَّالثة: آية التَّبليغ تحدِّد المضمون الكبير لحادثة الغدير.

آية التَّبليغ هي قوله تعالى في سورة المائدة (الآية 67): {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ …}.

متى نزلت آية التبليغ؟
كتب التَّفسير تؤكِّد نزول هذه الآية على الرَّسول (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) حينما كان في طريق العودة من حجَّة الوداع في مكان يُقال له (غدير خم):
(1) السَّيوطي في الدُّر المنثور (3: 117 ط بيروت): روى عن أبي سعيد الخدري: “نزلت هذه الآية {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ …} على رسول الله (صلَّى الله عليه [وآله] وسلَّم) يوم غدير خم في عليِّ بن أبي طالب”.

(2)الواحدي في أسباب النُّزول (ص 115 ط بيروت)
روى بالإسناد عن أبي سعيد الخدري: “نزلت هذه الآية {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ} يوم غدير خم في علي بن أبي طالب”.

(3)الحاكم الحسكاني في شواهد التَّنزيل (1: 190 ط بيروت) “بإسناده عن ابن عباس في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ} قال: نزلت في عليٍّ، أمر رسول الله (صلَّى الله عليه [وآله وسلَّم]) أن يبلِّغ فيه فأخذ [صلَّى الله عليه وآله وسلَّم] بيد عليٍّ فقال: «من كنت مولاه فعليٌّ مولاه، اللَّهمَّ والِ مَنْ والاه وعاد من عاداه»”.

(4)الفخر الرَّازي في التَّفسير الكبير (12: 42 ط بيروت)، وهو من أشهر كتب التَّفسير عند المسلمين، يروي أيضًا ضمن موارد نزول النَّص أنَّها نزلت في فضل علي بن أبي طالب (عليه السَّلام).

(5)ابن كثير في تفسيره (2: 15 ط بيروت)

(6)الألوسي في روح المعاني (4: 282 ط بيروت)
ومصادر أخرى كثيرة.

مؤشِّرات مهمَّة جدًّا:
أوَّلًا: اللُّغة الصَّارمة
•{يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ}
{بَلِّغْ} كلمة فيها صرامة وشدَّة، فيبدو أنَّ الحدث كبير وليس عاديًّا.
•{وَإِنْ لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ}
لغة صارمة جدًّا ممَّا يؤكِّد خطورة المسألة المطروحة.

ثانيًا: التوقيت الإلهي للنَّص
متى نزل هذا النَّص؟
-أثناء العودة من حجَّة الوداع.
-المرحلة الأخيرة من حياة الرَّسول (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)
ممَّا يُعطي للقضيَّة بُعدًا مستقبليًّا في حركة الدَّعوة.

ثالثًا: حساسيَّة القضيَّة
•{وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ}
كأنَّ الآية تُشير إلى أنَّ هذا الأمر الذي أُمر النَّبيُّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) بتبليغه سيُحدث ردود فعل عند بعض النَّاس، لذلك أكَّدت الآية: {وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ}.

الحيثيَّة الرَّابعة: آية الإكمال تُعطى لحادثة الغدير مضمونها القيادي.

آية الإكمال هي قوله تعالى:
{… الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلَامَ دِينًا …}.

متى نزلت آية الإكمال؟
أشارت كثير من المصادر إلى نزول هذا النَّص في يوم الغدير:
1-السَّيوطي في الدُّر المنثور (3: 19).
2-الخوارزمي في المناقب (135).
3-ابن عساكر في ترجمة الإمام علي (2: 78).
4-الحاكم الحسكاني في شواهد التَّنزيل (1: 157).
5-السَّيوطي في الإتقان (1: 54).
6-ابن كثير في تفسيره (2: 15).
7-الألوسي في روح المعاني (4: 91).
8-الطَّبراني في المعجم الأوسط (2: 576).
ومصادر أخرى كثيرة.
ما هي العلاقة بين آية الإكمال وبين حديث الغدير؟
النَّبيُّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) يطرح قضيَّة كبيرة بمستوى أنَّها يُكمَل بها الدِّين، وليس فقط قصَّة حبِّ عليٍّ (عليه السَّلام)، فهناك عشرات المرَّات التي أكَّد النَّبيُّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) فيها على حبِّ عليٍّ (عليه السَّلام)، وعلى موالاة عليٍّ (عليه السَّلام) وأهل البيت (عليهم السَّلام).
ولكن هنا حدث آخر أكبر، وقضيَّة أكبر تتَّصل بمصير الرِّسالة والدَّعوة، ولذلك بها تمَّ إكمال الدِّين {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ}.

الحيثيَّة الخامسة: احتجاج أهل البيت (عليهم السَّلام) بحديث الغدير.

لقد فَهِمَ أهل البيت (عليهم السَّلام) حديث الغدير على أنَّه نصٌّ على علي بن أبي طالب (عليه السَّلام)، وفَهْمُ أهل البيت (عليهم السَّلام) مقدَّم على أيِّ فَهمٍ آخر، ربما من حقِّ الآخرين أن يفهموا كما يشاؤون لكن حينما يفهم علي بن أبي طالب (عليه السَّلام) حدثًا وحديثًا فأنا آخذ برأيه.
وحينما تفهم الصِّديقة الزَّهراء (عليها السَّلام) حدثًا وحديثًا فأنا آخذ برأيها.
وحينما يفهم الإمام الحسن (عليه السَّلام)، أو الإمام الحسين (عليه السَّلام)، أو الإمام الباقر (عليه السَّلام)، أو الإمام الصَّادق (عليه السَّلام)، أو الأئمَّة (عليهم السَّلام) حدثًا فأنا آخذ برأيهم.
وحينما نأتي ونرى كيف فهم الأئمَّة (عليهم السَّلام) حديث وحادثة الغدير، حينما نقرأ كتب التاريخ نرى أنَّ الأئمَّة من أهل البيت (عليهم السَّلام) احتجُّوا بحديث الغدير، والاحتجاج يعني فهم الحديث فهمًا قياديًّا، فهُم احتجُّوا به على إمامتهم، وأنَّهم أئمَّة للمسلمين بعد رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم).

(1)احتجاج أمير المؤمنين (عليه السَّلام) بحديث الغدير
احتجاج أمير المؤمنين (عليه السَّلام) بحديث الغدير دليل على أنَّه (عليه السَّلام) فهم من الحديث دلالته على القيادة.
•روى ذلك:
1-الإمام أحمد بن حنبل في مسنده (1: 119 ط بيروت) أشار إلى أنَّ عليًّا (عليه السَّلام) احتجَّ بحديث الغدير.
2-النِّسائي في الخصائص (ص 100 حديث 95 ط بيروت) أشار إلى احتجاج عليٍّ (عليه السَّلام) بحديث الغدير.
3-الطَّبراني في المعجم الأوسط (3: 69 ط الرياض) أشار إلى احتجاج عليٍّ (عليه السَّلام) بحديث الغدير.
4-ومصادر حديثيَّة أخرى كثيرة أشارت إلى احتجاج عليٍّ (عليه السَّلام) بحديث الغدير.
إذن عليٌّ فهم أنَّ حديث الغدير يمثِّل حديث قيادة وخلافة، ويمثِّل امتدادًا لحركة القيادة في واقع الأمَّة.

(2)احتجاج الصِّديقة الزَّهراء (عليها السَّلام) بحديث الغدير
الصِّديقة الزَّهراء (عليها السَّلام) احتجَّت في مواقع كثيرة بحديث الغدير، وفَهمُ الزَّهراء (عليها السَّلام) لحديث الغدير مقدَّم على أيِّ فهم آخر، فالزَّهراء (عليها السَّلام) في خطاباتها، وفي أحاديثها، وفي حواراتها احتجَّت بحديث الغدير، وهذا دليل على أنَّ الصِّديقة الزَّهراء (عليها السَّلام) فهمت حديث الغدير فهمًا يتَّصل بالقيادة وبالخلافة.
•الشافعي في أسنى المطالب (ص 55 ط إيران).

(3)احتجاج الإمام الحسن (عليه السَّلام) بحديث الغدير.
•القندوزي في ينابيع المودَّة (1: 134 ط النَّجف)

(4)احتجاج الإمام الحسين (عليه السَّلام) بحديث الغدير.
•الأميني في الغدير (1: 198 ط طهران)

(5)وهكذا بقيَّة الأئمَّة من أهل البيت (عليهم السَّلام)

إذن، احتجاج الأئمَّة (عليهم السَّلام) بحديث الغدير يُعطي دلالة واضحة على أنَّ حديث الغدير يُشكِّل حدثًا يتَّصل بموقعٍ خطير يُشكِّل موقع القيادة الامتداديَّة.

وقد يكون للآخرين من المسلمين فهمٌ آخر، ونحن نحترم أيَّ فهم، ولا مشكلة عندنا أنَّ كلَّ واحد يطرح فهمه.
ولا يعني حينما نختلف في الفهم نكفِّر بعضنا بعضًا، لا، فلكلٍّ فهمه وسيتحمل مسؤوليَّة فهمه أمام الله وأمام التَّاريخ، فهل لأنَّه يختلف معي أكفِّره؟!، وهل لأنِّني أختلف معه يكفِّرني؟! هذا مرفوض.
لذلك البعض يقول: إنَّ إعادة حديث الغدير وقضيَّة الغدير تُشكِّل مصدر خلاف، وقلق، وإنتاج صراعات تاريخيَّة.
لا، المسألة ليست مسألة إنتاج صراعات تاريخيَّة، فمن حقِّ أيِّ إنسان أن يقرأ التاريخ إذا كانت القراءة موضوعيَّة وإذا كانت لغة القراءة نظيفة، فالمطلوب أن نقرأ التاريخ.
لا توجد أمَّة تُلغي تاريخها، أمَّة بلا تاريخ أمَّة بلا وجود، التاريخ جزء من كيان الأمَّة، التاريخ يحدِّد مسيرة الأمَّة، نعم للتاريخ قراءة وقراءات، وقد نختلف في قراءة التاريخ ونختلف في قراءة أحداث التاريخ.
لكن هذا لا يعني أن يكفِّر بعضنا بعضًا، ويلغي بعضنا بعضًا، فهذا مرفوض.
وهذا لا يعني أن نستخدم لغة التوتير والتَّأزيم ولغة السَّبِّ والشَّتم، فهذه لغة مقيتة جدًّا، لا يؤمن بها أهل البيت (عليهم السَّلام)، عليُّ بن أبي طالب (عليه السَّلام) علَّمنا ونحن نحتفي بذكرى ولايته، حيث قال أمير المؤمنين (عليه السَّلام): «إِنِّي أَكْرَه لَكُمْ أَنْ تَكُونُوا سَبَّابِينَ …». (نهج البلاغة، خطب الإمام علي (عليه السَّلام)، ص 323، ح206)
اختلفوا مع الآخرين، ناقشوهم، أبطلوا آراءهم بالحجج وبالأدلَّة وبالبراهين، لكن ليس باللُّغة المُسفَّة، واللُّغة السَّيِّئة.
عليٌّ (عليه السَّلام) حينما كان سائرًا إلى صفِّين، في معركته المشهورة المعروفة مع أهل الشَّام، يسمع جماعة من أصحابه يلعنون أهل الشَّام، فينتفض عليٌّ (عليه السَّلام) غاضبًا: «إِنِّي أَكْرَه لَكُمْ أَنْ تَكُونُوا سَبَّابِينَ …»، فهذا ليس منهجنا، وهذه ليست مدرستنا.
هذه ليست مدرسة القرآن، {وَلَا تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ …} (الأنعام/108)، فلغة القرآن هي اللُّغة النَّظيفة والنَّزيهة.
فلنختلف في العقيدة، ولنختلف في التاريخ، ولنختلف في الفهم الاجتماعي، ولنختلف اختلافًا سياسيًّا، المشكلة ليست في الاختلاف، وإنَّما المشكلة في إدارة الاختلاف.
إذا اختلفنا في المسائل التاريخيَّة، فالمطلوب أن ندير الاختلاف بلغة علميَّة نظيفة نقيَّة نزيهة.
وإذا اختلفنا في الفهم الفقهي، لا مشكلة في ذلك، ولكنَّ المطلوب أن نملك نظافة في لغة الاختلاف.
وقد نختلف في قضايانا الحياتيَّة، وقد نختلف في أوضاعنا السِّياسيَّة والاجتماعيَّة والثَّقافيَّة، لكنَّ المطلوب أن ندير هذا الاختلاف بعقل واعٍ، وبعقل بصير بعيد عن لغة التَّشنُّج ولغة السَّبِّ ولغة الشَّتم.
إذن، حديث الغدير حديث يوحِّدنا ولا يفرِّقنا، وحديث الغدير حديث يجعل الأمَّة تعيش انفتاحًا على رؤية تاريخيَّة بصيرة، رؤية القيادة والإمامة لعليٍّ (عليه السَّلام)، وللأئمَّة من أهل البيت (عليهم السَّلام).

وآخر دعوانا أن الحمد الله ربِّ العالمين.
والسَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى