قضايا الساحةقضايا محلية

قضايا الساحة : قضية الكادر الوظيفي للأئمة الجمعة والجماعة

في البداية لن نحاول التشكيك في النوايا حول هذا المشروع، ونفترض حسن النية، وإنّ الحكومة تهدف إلى تحسين الأوضاع المعيشية لأئمة الجمعة والجماعة كما لا يحق لنا أن نسيىء الظن فيمن يخالفونا الرأي.                                                              
إلاَّ أنَّ رؤيتنا لهذا المشروع أنّه يحمل مخاطر كبيرة جداً فيما هي وظيفة المساجد، وفيما هي وظيفة أئمة المساجد، الأمر الذي يفرض علينا أن نرفض المشروع جملةً وتفصيلاً، ولا نجد أيّ مسوغٍ شرعي لقبوله.


وفي هذا السياق نضع مجموعة نقاط:
1- إنَّ موقع الإمامة في المساجد ليس كما هي مواقع الوظائف الأخرى في الدوائر والمؤسسات إنّه موقع الخطاب الإسلامي، والموقف الديني والرأي الشرعي، فيجب أن يكون بعيداً كلَّ البعد عن تأثيرات السّياسة الرسمية الحاكمة، لأنَّ لهذا التأثير خطورته الكبيرة على مستوى الخطاب الإسلامي، والموقف الديني والرأي الشرعي، وكلّما نأى هذا الموقع عن تدخلات الأنظمة السياسية كان أقدر على حماية الخطاب والموقف والرأي، وكلّما اقترب من هيمنة المؤسسات الرسمية كان أعجز عن حماية الخطاب والموقف والرأي، من هنا تبرز ضرورة استقلالية هذا الموقع عن أيّ علاقة بالأجهزة الرسمية الحاكمة.


إنَّ إنهاء هذه الإستقلالية أو إضعافها، أو محاولة التأثير عليها بشكل مباشر أو غير مباشر مسألة لها خطورتها الكبيرة جداً، ولا نشك أبداً إنّ قرار إلحاق أئمة الجمعة والجماعة بالكادر الوظيفي الرسمي خطوة ستقود عاجلاً أو آجلاً إلى هيمنة حكومية على كلِّ شئون المساجد بدءًا من تعيين وفصل الأئمة، وإنتهاء بفرض الوصاية على الخطاب والرأي والموقف، وهذا ما تؤكده تجارب الكثير من البلدان، والمسألة ليس فيها شيء من المبالغة والتهويل، والشواهد الصارخة على هذه الحقيقة لا تقبل الجدل والمناقشة.


2- إن مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) في كل تاريخها حاولت أن تحافظ على إستقلالية المسجد والحوزة العلمية الدينية، والمنبر الحسيني عن كلِّ الكيانات السّياسية القائمة والمتعاقبة، مما حمى هذه المواقع من تدخلات الأنظمة السياسية، وتأثيراتها، وأهوائها، وان كانت هذه الأنظمة قد مارست في كثير من الأزمنة حصاراً وضغطاً على تلك المواقع.
فليس معروفاً لدى أتباع مدرسة أهل البيت «ع» أن يتحول أئمة المساجد إلى موظفين عند الحكومات والأنظمة، وحتى في الدولة الإسلامية الشيعية المعاصرة في إيران لم يتحول أئمة المساجد إلى موظفين عند الدولة.
فيجب أن نحافظ على هذا الطابع المتمّيز لهذه المدرسة، وإلاَّ سوف نرتكب خطأ تاريخياً فادحاً نتحمل مسؤولية نتائجه الخطيرة جداً.
إن إصرار مدرسة أهل البيت «عليهم السلام» على إستقلالية العلماء والخطباء والأئمة والمؤسسة الدينية بشكل عام عن أجهزة السياسة الزمنية، يعبّر عن وعي بقيمة وأهمية وضرورة هذا الاستقلال في الحفاظ على أصالة ونقاوة ونظافة الرؤية الإسلامية، وفي الحفاظ على الموقف الديني بعيداً عن تغيرات السياسة ورغبات الأنظمة وأمزجة الحكام، والواقع التاريخي خير شاهد على حجم العبث بالفتاوى والأحكام من خلال إخضـاع العلمـاء لبلاطات الأمـراء والسـلاطين، والواقـع المعاصـر – كـذلك – يحمل من الشواهد الكثير الكثير..


3- لنفترض أن أئمة الجمعة والجماعة الذين أصبحوا موظفين ضمن الكادر الرسمي، لن يواجهوا تدخلات السلطة السّياسية، ولكن كم من هؤلاء الأئمة الذين سوف تترتب أوضاعهم الحياتية وفق دخولات معيشية مغرية، كم من هؤلاء يملك الجرأة أن يتمرد على هذا الواقع الجديد، وأن يملك الجرأة في أن يضحي بهذا الوضع الجديد من أجل كلمة واحدة قد لا ترضي الحاكم، وقد لا ترضي النظام، بل قد لا ترضي المسئول عن شؤون التوظيف؟
أتوقع وبوحي من تأثيرات هذا الوضع الجديد، سوف نبدأ نبحث عن التبريرات الفقهية والأعذار الشرعية التي تسوّغ لنا الصمت والسكوت.
٭ وهل فعلاً نحن صادقون مع أنفسنا في اللجوء إلى التبريرات والأعذار؟
٭ وهل فعلاً نحن مقتنعون بهذه التبريرات والأعذار؟
لنفترض أننا صادقون ومقتنعون بالفعل، ولكن بلاشك أن الحالة اللاشعورية التي تشكّلت عندنا في ضوء الوضع الحياتي الجديد قد فرضت هذا اللون من اللهث وراء التبريرات والأعذار، وهل سيكون الأمر كذلك لو كنا في خارج دائرة الكادر الوظيفي الرسمي؟


4- هناك إشكالية قد تثار في مواجهة موقف الرافضين لهذا المشروع، هذه الإشكالية هي وجود «فتاوى شرعية» تسمح بأخذ الرواتب لأئمة الجمعة والجماعة.
وتعقيبنا على ذلك:
أولاً: إن بعض الفتاوى يشك في صدورها، وأخرى مقيدة بشروط غير متحققة، وثالثة مربوطة بالرجوع إلى علماء البلد المعروفين.
ثانياً: وإذا كانت هناك فتوى صريحة فهي خاضعة لطبيعة السؤال الموّجه والذي أغفل ذكر الحيثيات الموضوعية.
وهناك إتجاه لإيضاح الحيثيات الموضوعية لهذا الفريق من الفقهاء، ونحن على ثقة أن هذه التوضيحات سوف تعطي رؤية فقهية أخرى مغايرة.
ثالثاً: ولو سلّمنا بوجود فتوى مجوزّة إعتمدت فهماً موضوعياً آخر، فنحن نختلف مع هذا الفهم ولنا رؤيتنا الموضوعية المغايرة التي لا تسمح لنا بقبول هذه الفتوى لقناعتنا بخطأ التشخيص الموضوعي الذي إعتمدته.
وهذا لا يعني أننا نتهم قناعات الآخرين فهم يتحملون مسئولية هذه القناعات، ونحن نتحمل مسئولية قناعاتنا، الأمر الذي فرض علينا أن نقول كلمتنا بلا تردد لأن المسألة تشكّل في منظورنا خطراً واضحاً على إستقلالية المسجد وإستقلالية خطابه، فلا نجد أيّ مبرر شرعي للصمت والسكوت.


5- قد يقال – كما جاء على لسان بعض الداعين إلى قبول هذا المشروع:
أننا نتسلّم الراتب، وحينما نجد أن هناك إتجاهاً لفرض الهيمنة الرسمية، فسوف نعلن رفضنا لقبول هذا الراتب.
ونقول لهذا البعض إن قبولكم قد أسس لهذا المشروع الخطير، وساهم في تثبيته، وإن الانسحاب لن يؤثّر كثيراً.
٭ ثم ما هي الضمانة لهذا الانسحاب بعد تورّط يصعب الإفلات منه؟
فبكل حب وإخلاص نقول لهؤلاء ونحن لا نشك في دينهم وفي حسن نواياهم أن يتأنوا كثيراً، وأن يحاسبوا المسألة بتروٍ وتدبر قبل أن يقدموا على خطوة القبول، فما عند اللّه خير وأبقى.


هذه المحاضره ألقاها السيد الغريفي  في تاريخ: 2004-02-21 م    الموافق: 28ذو الحجة1424هـ  في مسجدالإمام الصادق(ع)

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى