حديث الجمعةشهر جمادى الثانية

حديث الجمعة 394: آسيةُ بنت مُزَاحم امرأة فِرعونَ – وسائلُ التَفقّهِ في الدّينِ – لكي نحمي الوطن من الأزمات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وأفضل الصَّلواتِ على سيِّد الأنبياءِ والمرسلينَ محمَّدٍ وعلى آله الهُداةِ الميامين، وبعد فمع هذه العناوين:


آسيةُ بنت مُزَاحم امرأة فِرعونَ:


وهكذا حَدَثَ اللِّقاءُ الحاسمُ بين مُوسَى وسَحَرةِ فِرعونَ
﴿فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ {*} فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ {*} قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ {*} رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ﴾ {الشعراء/45-46-47-48}


فكيفَ تعامَلَ فِرعَونُ مع هذا المشهدِ الذي تحدَّى كبرياءَهُ وجبروتَهُ؟
وكيفَ كانَ موقفُ آسيةَ بنتِ مُزَاحم زوجةِ فِرعونَ، وكانت ممن حَضَرَ هذا المشهد؟


أمَّا فِرعونَ فأصرَّ على الكبرياءِ والعنادِ والجبروتِ فخاطبَ السَّحَرة بلهجة الطاغوت المجبِّر: ﴿قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ…﴾{الشعراء/49}
وهكذا الفراعنةُ يعتقدونَ أنَّهمُ يملكونَ عقولَ النَّاسِ، وقناعاتِهم، فليس لأحد أنْ يُفكِّرَ، وأنْ يختار قبل أنْ يستلمَ الإذْنَ والموافقة مِنْ الحُكْمِ أو السُّلطة، فكلُّ النَّاسِ يجب أنْ يفكِّروا وأنْ يتحرَّكوا وفق قناعاتِ الأنظمةِ الحاكمةِ، وإلَّا فهم خَوَنةٌ ومُتآمرون…


وهكذا تعاملَ فِرعونُ مع السَّحرةِ الذينَ حرَّكُوا عُقولَهُم وحرَّرُوا إرادتَهم، وخرُّوا للهِ ساجدين…
فاعتبرهم فِرعوُنُ خَونةً ومُتآمرين مع موسى ﴿إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْر…﴾ {الشعراء/49}


ثمَّ بدا مُهدِّدًا ومتوعدًا السَّحرة بأقسى العذاب…
هذا هو جزاءُ مَنْ يخونُ ويتآمرُ على فِرعونَ، الذي يعتبر نفسَهُ ربًّا أعلى، وبيده كلُّ مُقدَّراتِ العباد وكان يؤكِّدُ ذلك في خطاباتِه ﴿فَحَشَرَ فَنَادَى {*} فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى﴾ {النازعات/23-24} ﴿وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ﴾{الزخرف/51}


وأصدَرَ فِرعونُ أحكامَهُ ضدَّ السَّحرة بتهمةِ التآمُرِ والخيانة، من دُونِ أنْ يسمحَ لهُمْ بالدِفَاعِ عن أنفسِهِمْ…


ماذا كانت هذه الأحكام؟
﴿فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ﴾ {الشعراء/49}


هكذا أصدر فِرعونُ أحكامًا قاسيةً جدًا تتمثل في:
1- تقطيعُ الأيدي والأرجلِ مِن خلاف..
بمعنى أنْ تُقطع اليد اليمنى مع الرجْل اليُسْرى أو بالعكس… 


2- أنْ يُصْلَبُوا ليموتُوا مَوثوقين بالحبالِ على الصَّليب…
كيفَ استقبَلَ السَّحَرةُ الَّذين آمنوا بِرَبِّهم هذه الأحكامَ؟
بكلِّ شُموخٍ وإصرارٍ وعُنْفوانٍ وتحدِّي: ﴿قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ﴾ {الشعراء/50}


لن تضرّنا كلُّ تهديداتِك وكلُّ أحكامِك لأنَّنا مشدودُونَ إلى الآخرة، وإلى عطاء الله ورحمتِهِ ومغفِرتِهِ ﴿إِنَّا نَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا…﴾ {الشعراء/51}.
حيث كنَّا أعوانًا لك يا فِرعونَ على إضلال النَّاس ومارسنَا كلَّ الأساليبِ الخادعةِ من أجل أنْ نجعلك إلهًا مُزيَّفًا، وربًّا كاذبًا، والآن اكتشفنا الحقيقة، واستيقظت ضمائرنا، وعُدْنَا إلى ربِّنا، فلا نخشى شيئًا ﴿أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ {الشعراء/51}، ﴿فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا﴾ {طه/72} أفعلْ بنا ما تشاء، مَثِّلْ بِنَا، اصِلبْنا، اقتُلْنَا، إنَّنا لن نخسر شيئًا كبيرًا إنَّها الحياة الدُّنيا، وأمامنا الدَّارُ الآخرة التي تنتظرُ المؤمنين، وفيها كلُّ النعيم والسَّعادةِ والرضوان…


وأمَّا آسيةُ بنتُ مُزاحم امرأةُ فِرعونَ فكانتْ تراقبُ كلَّ هذا المشهَد المُثير…
شاهدتْ المُعجزةَ العُظمى لِموسى…
وشاهدتْ الهزيمةَ الكُبرى لِفِرعونَ…
وشاهدتْ السَّحَرَةَ سُجَّدًا لله…
وسمعتْ ما صدر مِن فِرعونَ من أحكام…
وهُنا استيقظَ عَقْلُهَا وضميرُهَا فآمنت بالله، وبرسالةِ مُوسَى نبيّ الله…
ولكن…


هل تختزنُ إيمانَها في داخلها وتبقى مداهنةً لِفِرعونَ؟
هل تجهرُ بإيمانِها، إذًا سيكونُ مصيرُها مصيرَ السَّحَرَةِ، بل أسوءَ، كونها امرأةَ البلاط؟
هُنا اتخذتْ قَرارَها الجريئَ أنْ تتحدَّى فِرعونَ، وأنْ تُعلِنَ إيمانَها، وهكذا فعلتْ…


فماذا كانَ موقفُ فِرعونَ؟
كانتْ الصَّدمَةُ التي أصابتْهُ كبيرةً وكبيرةً جدًا أنْ يرى امرأتَهُ تتمرَّدُ على رُبوبيتِهِ وتُعلنْ إيمانَها بربِّ موسى وهَاروُنَ، وقد أحْدَثَ هذا الإيمانُ هزّةً شديدةً في داخلِ البَلاطِ الفِرعَوني، وفي داخلِ المملكةِ الفِرعَونيةِ…
فما كانَ مِنْ فِرعَونَ إلَّا أنْ حَاولَ أنْ يُثنيها لتتراجعَ عنِ قرارِهَا في الانتماءِ إلى جَماعَةِ مُوسَى، إلَّا أنَّها أصرَّتْ رافضةً كلَّ الإغراءاتِ، الأمر الذي دَفعَ فِرعونَ أنْ يُصدرَ أمرًا طَائِشًا بإعطاءِ (آسيةَ بنتِ مُزاحِم) وَجْبَاتٍ قاسيةً من التَعْذيب…


(أمر فِرعونُ أنْ تُثبَّتَ يَدَاهَا ورجلاها بالمسامير، وتتركَ تحتَ أشعةِ الشمسِ الحارقةِ، بعد أنْ تُوضعَ فَوقَ صَدْرِها صَخْرةٌ كبيرةٌ)، وتواصلتْ وجباتُ التعذيبِ القَاسيةَ، إلَّا أنَّ آسية المرأة المؤمنةَ كانتْ صامدةً تتحدَّى كلَّ القَهرِ والتعذيب، متجاوزةً ضعفَها الأنثوي، لأنَّها معبئةٌ بقوةٍ إيمانيةٍ تنهزمُ أمامَها كلُّ قُوى الأرضِ…


وفي ذَرْوةِ التعذيب ما كانتْ تستغيثُ بفرعونَ ولا بأيِّ قوَّةٍ في هذه الدُّنيا، كانتْ الصَّارخةَ المُستغيثةَ الضَّارِعةَ إلى ربِّها الواحدِ القهَّار، والمشدُودةَ إلى عطائِهِ وإلى نعيمِه الأبدي، وجنَّتِهِ الواسعة، كانتْ تُردِّدُ بكلِّ هُدوُءٍ وثقةٍ واطمئنانٍ ﴿رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ…﴾ {التحريم/11} فقدْ رفضتُ دُنيا فِرعونَ، وقُصورَهُ، وزخارفَهُ طامعةً في جنَّتِكَ ونعيمِكَ وعطائِك…
وتستمرُ في مناجاتِها الضَّارعِة مع اللهِ قائلةً: ﴿وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ…﴾{التحريم/11} فقد كانَ جبًّارًا عنيدًا، طاغيًا، ظالمًا، مُستكبِرًا، متمرِّدًا على أوامِركَ يا ربِّ، فلا طاقة لي أنْ أعيشَ مَعهُ، وفي دنياه…
﴿وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾{التحريم/11} وكذلك لا طاقة لي أنْ أعيش في هذا المجتمع الفرعوني الذي يزيِّنُ لِفرعونَ الطغيانَ والجبروتَ، ويدعمُ ظلمه واستكباره…


ما هي الدروسُ التي يجب أنْ تتعلَّمَها المرأة المُسلمة من قصة آسيةَ بنتِ مُزاحِم؟


هذا ما نتناوله في حديثٍ قادِمٍ إنْ شاء الله.


وسائلُ التَفقّهِ في الدّينِ:


تقدَّمتْ رواياتٌ وغيرُها كثيرٌ عن ثوابِ حضورِكَ دَرْسًا أو مجلسًا يُفقِّهُكَ في الدِّين، ويقوِّي إيمانَك، ويهذِّبُ سُلوكَك…
أُعيدُ إلى ذاكرتِكَ بعضَ تلكَ الثَّواباتِ:
– يُفتح لكَ سبعُونَ بابًا من الرَّحمةِ.
– تُعطى بكلِّ حديثٍ عبادةُ سنةٍ.
– لا تقومُ مِنْ مَقَامِكَ إلَّا كيوم ولدتَكَ أُمُّكَ.
– أفضلُ من حضورِ ألفِ جنازةِ.
– وأفضلُ مِنْ عيادةِ ألفِ مريض.
– وأفضلُ مِنْ قيامِ ألفِ ليلة.
– وأفضلُ مِنْ صيامِ ألفِ يوم.
– أحبُّ إلى اللهِ مِن اعتكافِ سنةٍ في البيت الحرام.
– أفضلُ مِنْ سبعينَ طوافًا حولَ البيت.
– يُكتبُ له بكلِّ حَرْفٍ حجةٌ مقبولة.
– تشهدُ له الملائكةُ بأنَّهُ قد وجبتْ له الجنَّة.
– يُكتبُ له بكلِّ قدمٍ عبادةُ سنةٍ من فقهٍ في دين.
هذا بعضُ ما أعَدَّ الله لمن يتعلَّمُ ويتفقَّهُ في دينه…


ولكي تحظى – أيُّها المؤمنُ – بهذا العطاءِ الكبير مَطلوبٌ أنْ تتوفَّر على بعضِ شروطٍ، أذكر منها هذين الشرطين الأساسين:


(الشَرطُ الأوَّلُ): أنْ يكونَ قلبُكَ حاضرًا، وعَقلُكَ منفتحًا..
وإلَّا فما جدوى مِن تواجدٍ في مجلسِ فقهٍ وعلمٍ، إذا كانَ الحاضرُ هو البدنُ فقط، أمَّا القلبُ فغائبٌ، وأمَّا العقلُ فشاردٌ…
لنْ يكونَ لهذا الحضورِ أيُّ فائدةٍ…
أنْ تحضرَ دَرْسًا دينيًا، أو مُحاصرةً دينيةً، أو خِطابًا دينيًّا، فيجب أنْ يكونَ قلبُكَ مَشْدُودًا كلَّ الانشداد إلى المدرِّسِ، وإلى المحاضرِ، وإلى الخطيب، وبقدرِ ما يكونُ قلبُك مَشْدُودًا، يتوفَّرُ لديكَ الاستعدادُ للاستفادة والتعلُّم والتفقّهِ، وبقدرِ ما يكونُ قلبُكَ مُنفْلتًا، لا يتوفَّر لك هذا الاستعداد.
وكذلك أنْ تحضرَ دَرْسًا دينيًّا، أو مُحاضَرةً دينيةً، أو خِطابًا دينيًّا، فيجبُ أنْ يكونَ ذهنُكَ مًنفَتحًا كلَّ الانفتاحِ وهذا ما يُوفِّرُ لك القُدرةَ للفهم والاستيعاب.
وأمّا الذِّهنُ الشَّاردُ، المتكلِّسُ، المنغلقُ فلا يمكن أنْ يستقبلَ علمًا وفقهًا وثقافةً وفكرًا ووعيًا…
قد تسألُ إنسانًا حَضَرَ درسًا، أو محاضرةً، أو خطبةَ جُمعةٍ، أو خطابَ منبر: ماذا فهمتَ؟ فيكون جوابُه لا شيئ، لماذا (لا شيئ)؟ ألستَ جالسًا لمدة نصف ساعةٍ، أو لمدةِ ساعةٍ، تستمع إلى هذا الدرسِ، أو هذه المحاضرةِ، أو هذه الخطبةِ أو هذا المنبرِ، فيقول: نعم كنتُ جالسًا، ولكنِّي لستُ حاضرًا، بدني هُنا، ولكنَّ القلبَ ليسَ هُنا، لذلك كانَ الجوابُ (لا شيء)…
هل يتوقَّعُ هذا الإنسانُ أنْ يحظى بتلك العطاءاتِ الرَّبانيةِ، وبتلكَ الثواباتِ الكبيرة التي أعدَّها الله سبحانَهُ لحضَّارِ مجالسِ العلمِ والفقهِ والدِّين؟ بكلِّ تأكيدٍ: الجوابُ (لا).


(الشَّرطُ الثَّانيُ): أنْ تعملَ بما تَعلَّمتَ..
فما قيمةَ أنْ تحضرَ دَرْسًا في فقهِ الصَّلاة، ثمَّ لا يكونُ لهذا الدَّرسِ أيُّ أثرٍ على صَلاتِكَ؟
وما قيمة أنْ تسمعَ محاضرةً عن الغيبةِ، ثمَّ لا يكونُ لهذه المحاضرةِ أيُّ أثرٍ على سُلوكِكَ؟
وما قيمة أنْ تسمعَ دَرْسًا في فقهِ المعاملاتِ، ثمَّ لا يكونُ لهذا الدَّرسِ أيُّ أثرٍ على معاملاتِكَ؟
وما قيمة أنْ تسمعَ خطبةً عنْ الحقوقِ الزوجيةِ ثمَّ لا يكونُ لهذه الخطبةِ أيُّ أثرٍ على علاقتِكَ الزوجيةِ؟
وما قيمة أنْ تسمع خطابَ منبرٍ يتحدَّث عن مسؤولية الأبوين في تربيةِ الأولادِ، ثمَّ لا يكونُ لهذا الخطابُ أيُّ أثرٍ على مسؤوليتك الأسرية؟
وما قيمة أنْ تسمعَ حديثًا عن التقوى، ثمَّ لا يكونُ لهذا الحديثِ أيُّ قيمةٍ في ممارساتِكَ…


وهكذا في المجالاتِ العقيديةِ، والثقافيةِ، والفقهيةِ، والروحيةِ، والأخلاقيةِ، والسلوكيةِ، والاجتماعيةِ، والاقتصادية، والسِّياسية…


القيمةُ كلُّ القيمةِ حينما يتحوَّلُ الدَّرسُ سلوكًا عمليًا، وحينما تتحوَّلُّ المحاضرةُ ممارسةً، وحينما تتحوّلُ الخطبةُ فعلًا مًتحرِّكًا، وحينما يتحوَّلُ خطابُ المنبر منهجَ حياةِ…


عند ذلك يحظى حُضَّارُ الدَّرسِ والمحاضرة، والجمعةِ، والمنبرِ بتلكَ العطاءاتِ والثواباتِ الرَّبانية، بشرط أنْ يكونَ الحضورُ والتعلُّمُ لله سبحانه لا لأجل أهواءٍ وأغراضِ دُنيا ولا من أجلِ شهرةٍ وسمعةٍ…
للحديث تتمَّة إنْ شاء الله تعالى.


لكي نحمي الوطن من الأزمات:


إذا كانَ الحُكْمُ يؤمنُ كلَّ الإيمان بأنَّ الإصلاحَ السِّياسيّ ضَرورةٌ كُبرى لهذا الوطن…
وإذا كانَ الشّعبُ يؤمنُ كلَّ الإيمانِ بأنَّ الإصلاحَ السِّياسيّ ضرورةٌ كبرى لهذا الوطن…
وإذا كانَ الحُكْمُ والشَّعبُ يؤمنانِ بضرورةِ أنْ يُحمى الوطنُ من الأزماتِ، والاحتقاناتِ، والخلافاتِ، والصِّراعاتِ، ومِن كلِّ ما يُسيئُ إلى أمِنِه، وهدوءِهِ، واستقرارِهِ، وإلى شرفِهِ، وكرامتِهِ، وعزَّتِهِ…
وإذا الحُكْمُ والشَّعبُ يُؤمنانِ بضرورةِ أنْ تتحوَّلَ الشِّعاراتُ، والخطاباتُ، والكلماتُ إلى إراداتٍ جادَّةٍ، وعزائمَ صادقةٍ، وممارساتٍ فاعلةٍ وخُططٍ متحرِّكةٍ…
فلماذا لا تتآلفُ الإراداتُ، ولا تتلاحمُ القُدُراتُ، ولا تتآزرُ الطَاقات، ولا تتلاءم الإمكانات مِن أجل خيرِ، وصلاحِ، وعزَّةِ، وأمنِ هذا الوطن؟!
صحيح أنْ يُقال: إنَّ الحُكْمَ هو الذي يملكُ كلَّ الإمكاناتِ، وكلَّ القُدُراتِ، وكلَّ الأدواتِ من أجلِ إنتاجِ الإصلاحِ السِّياسي، ومن أجلِ الدفعِ بعملية البناء والتغيير…
إلَّا أنَّه صحيحٌ أيضًا أنْ يُقال: إنَّ دورَ الشعب في عمليةِ الإصلاحِ وبناءِ الوطنِ هو دورٌ فاعلٌ وكبيرٌ، ومتى غابَ هذا الدورُ تعقَّدتْ حركةُ الإصلاحِ، وارتبكت عمليةُ البناء…
وَحِينما نتحدَّثُ عن الإصلاحِ والبناء والتغيير نتحدَّثُ عن حقوقِ شعبٍ، ومصالحِ شعبٍ، وكرامةِ شعبٍ، وشرفِ شعبٍ، وإرادةِ شعبٍ، وحريةِ شعبٍ، ووحدةِ شعبٍ، وأمنِ شعبٍ…
فمن حقِّ الشعبِ – وفق منظور الإصلاحِ – أنْ يكونَ حاضرًا حضورًا حقيقيًا في العمليةِ السِّياسية…
ومِنْ حقِّ الشعبِ أنْ يُعبِّرَ عن رأيهِ.
ومِنْ حقِّ الشعبِ أنْ ينتقد أداءَ السُّلطة.
ومِنْ حقِّ الشعبِ أنْ يُطالبَ، أنْ يحتجَّ، أنْ يتظاهر.
ولكن ليس مِنْ حقِّهِ أنْ يمارسَ عُنفًا، وتطرُّفًا، وإرهابًا.
وليس مِنْ حقِّهِ أنْ يكونَ مِزاجيًا، عبثيًا، منفلتًا.
وليس مِنْ حقِّهِ أنْ يكونَ مُعوِّقًا لأيّ جُهدٍ في الاتجاهِ الصحيح.
وهذا لا يعني أنْ يُسمَحَ لكلِّ مَنْ يريدُ أنْ يُسيئَ لحَراكِ الشعبِ أنْ يقولَ ما يشاءُ، وإنْ كانَ في هذا القولِ الكثير من الظلمِ والزورِ والبُهتانِ، فما أكثر ما قِيلَ عن الحَراكِ، بلا إنصافٍ، ولا نزاهةٍ، ولا موضوعيةٍ.
وفي المُقابلِ لا يجوز أنْ نتعقَّدَ من مُحاسبةِ الحَراكِ، ونقدِه، فمن الطبيعي أنْ تحدثَ أخطاءٌ واشتباهاتٌ، وعثراتٌ، ومُخالفاتٌ.
لو فَعلَنا ذلكَ لكنَّا جانينَ على الحَراكِ، وعلى قواه السِّياسية، لأنّ المراجعةَ الدائمةَ، ومُحاسبةَ الأخطاءِ، ونقدَ الذّاتِ يُحصِّنُ الحَرَاكَ، ويُرشِّدُ الخُطى، ويُقوِّمُ الأداءَ، ويدفعُ في اتجاهِ المزيدِ من المكاسبِ، وفي اتجاه الوصولِ إلى الأهدافِ.
وهكذا بمقدارِ ما يُحرِّكُ الحُكْمُ إمكاناتِهِ، وأدواتِهِ في إنتاج الإصلاحِ الجادِّ، والحُكْمُ يُملكُ كلَّ الإمكاناتِ والأدواتِ.
وبمقدارِ ما يُحرِّكُ الشعبُ حضورَهُ الفاعلَ في دعم الإصلاحِ، وهُوَ يملكُ كلَّ القدرة على الحضور الصَّادق.
وبمقدارِ ما تتعاونُ إمكاناتُ الحُكْمِ، وقُدُراتُ الشعب، وبمقدارِ ما تتقاربُ الإراداتُ، وتنشُط اللقاءاتُ والتفاهماتُ الجادَّةُ…
بمقدارِ ذلك كلِّهِ تكون الخُطى قد اقتربتْ من الإصلاح اقترابًا حقيقيًا.
أمَّا إذا تكرَّستْ المفاصلةُ – وهي خطأ استراتيجي كبير – تعقَّدتْ الخطواتُ ، وتأزَّمتْ القناعاتُ وتعطَّلتْ الخيارات، وترشَّحتْ التأزيمات…
وما الذي يُكرِّسُ المفاصلة؟
قُوى الشارِع المعارض تتَّهمُ الحُكْمَ، كونه اعتمدَ الخيارَ الأمني المتشدِّد، والحُكْمَ يَتَّهمُ هذه القُوى، كونها قاطعتْ العملية السِّياسية.
إذًا هنا مُشكلةُ فهمٍ ورُؤيةٍ وقناعةٍ..
كيف تعالج هذه المُشكلة؟
قطعًا لا تعالج بالأدواتِ الأمنية، ولا بالانفعالاتِ…
وإنَّما باللقاءِ والتفاهمِ والحوارِ…
إنَّلغةَ الإقناعِ هي (الكلمةُ الطيبةُ) وليستْ (الرصاصةَ الطائشة)، هي (المحبةُ) وليستْ (الكراهيةَ)، هي (التسامحُ) وليستْ (التشدّدَ)، هي (المُصالحةُ) وليستْ (المفاصلةَ)…
وإذا كان هناك (التباساتٌ في الرؤية) أو (تبايناتٌ في القناعةِ) فإنَّ للعلاج وسائلَ حكيمةً أقلَّ كُلفةً من الوسائلِ الأمنيةِ الباهظةِ الثمن، ومِن المواجَهاتِ والمُصادماتِ والتشنجاتِ…
فمطلوبٌ من الحُكْم أنْ يعتمد هذه الوسائلَ الحكيمة، وكذلك من الشعبِ وقواه المعارضة..
قد يُقال: إنَّ هُنَا حَرَاكًا سياسيًا، سلميًا، رشيدًا، حضاريًا، نظيفًا، مُحقًّا، صادقًا، إلَّا أنَّه ما استطاع أنْ يُحقِّقَ أهدافَه أو أنْ يقتربَ منها، وما ازدادَ الحُكْمُ منه إلَّا شدَّةً وقسوةً…
أنا واثقٌ كلَّ الثقةِ – وبعونِهِ تعالى وتسديده – أنَّ هذا الحَرَاكَالسِّلمي الرشيد سوفَ يفرضُ على النظام القناعةَ بضرورة التعاطي معه، لأنَّه لا خيارَ إلَّا هذا التعاطي، ففيه كلُّ الخير، وكلَّ الصَّلاحِ، وكلُّ الأمنِ لهذا الوطن، وما عدا ذلك، فإنَّ الأوضاعَ سوف تتَّجهُ إلى المزيدِ من التأزيمِ والتعقيدِ وإلى المزيدِ من الأثمانِ الباهظةِ، والمآلات المُكلفة، وهذا ما لا يتمناه كلُّ غيورٍ على مصلحةِ هذا الوطن…
ربَّما أنَّ الكثير من المجريات المتحرِّكة لا تدفع نحو التفاؤل، فها هي قضية المعتقلين تتفاعل، وها هي قضية الشيخ علي سلمان حاضرة في وجدان هذا الشعب وفي حراكه، فكم تمنَّينا أنْ تُحسم هذه القضية بالشكلِ الذي يدفعُ في اتجاهِ التهدئةِ وإنتاجِ الأملِ، إلَّا أنَّ ما حدث من استمرار اعتقال الشيخ علي سلمان أصابنا بالكثير من القلق والشكِّ في وجود رغبةٍ جادَّةٍ لدى الحُكْمِ في علاج الأوضاع، والخُروجِ بهذا البلد مِن أزمةٍ طالتْ وطأتُها، ومع كلِّ هذا القلقِ والشكِّ سوف نبقى مُصرِّين على مسارِ التهدئة والتواصل وإنهاءِ كلِّ المؤزِّماتِ والموتِّرات ما دمنا مُخلصينَ لهذا الوطن…
وَآخِرُ دَعْوَانا أَنِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى