الأرشيفملف شهر محرم

كلمة سماحة العلامة السيد عبدالله الغريفي في مؤتمر عاشوراء الخامس 27 شوال 1431هـ

 


بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين، وأفضل الصلوات على سيّد الأنبياء والمرسلين محمدٍ وعلى آله الهداة الميامين..
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..



لا أشكّ أنّ مؤتمرًا يحاول أن يقارب عنوان «مؤسّسة الحسينيّة» تواجهه الكثير من الصعوبات والتعقيدات، إنْ على مستوى القراءات والمعالجات، أو على مستوى القرارات والتوصيات، أو على مستوى الممارسات والتطبيقات، هذا إنْ أُريد لهذه المؤتمرات أن تكون جادّة، وهادفة، وصادقة، وفاعلة، ومؤثّرة، وليست مؤتمرات للاستهلاك، والمزايدة، والمباهاة.
إنّ عنوانًا يملك حضورًا متجذّرًا في الوجدان الشيعي، وفي التاريخ الشيعي، وفي الواقع الشيعي، من الطبيعي أن تكون مقاربته صعبة وشاقّة، يُضاف إلى ذلك ما يُناط بمؤسّسة الحسينيّة من أدوار ومهام ومسؤولياتٍ خطيرة، وما يواجهها من تحدّياتٍ كبيرة، وما تفرضه المتغيّرات من ضرورات التطوير والتجديد في الأداء والممارسات..


أيّها الأحبّة:
لا يُراد لهذا المؤتمر وهو يُقارب عنوانًا حسّاسًا أن يُجامل الواقع بكلّ أخطائه وسلبيّاته، وما تراكمت هذه الأخطاء والسلبيات إلّا نتيجة مجاملات فرضت نفسها، محكومة إلى مجموعة مبرّرات، وربّما مقمّصة بمحاولات (الشرعنة)، ممّا أدّى إلى إقحام الكثير من المزاجات الشعبيّة في إنتاج الواقع العاشورائي، بعيدًا عن رؤى الشرع الأصيلة والتي توارت في زحمة التبريرات، والمجاملات، والمخاوف، والمداهنات، وهذا ما يُعقّد مهمّة هذه المؤتمرات على مستوى المعالجات، وعلى مستوى القرارات، وعلى مستوى الممارسات.
ربّما تكون المعالجات جادّة وواعية، وربّما تكون القرارات صائبة وجريئة، ولكنّ التحدّي الصعب أن تتحرّك تلك المعالجات والقرارات.
ويتشكّل هذا التحدّي من خلال تعقيدات الواقع وصعوباته، ومن خلال حركة الأداء وإشكالاته، حينما يكون الاسترخاء لدى أجهزة التنفيذ، وحينما تغيب الجدّية، وحينما يضعف الإخلاص تتجمّد القرارات أو يتعثّر الأداء، الأمر الذي يُحوّل هذه المؤتمرات إلى ملتقيات غير فاعلة، رغم ما يُبذل فيها من جهدٍ ووقتٍ ومال.
يجب أن نمارس نقدًا ذاتيًّا لأيّ فعّالية من فعّالياتنا الدينيّة، ولا مبرّر للقلق والانزعاج حينما نواجَه بأيّ كلمةٍ ناقدة ما دامت هذه الكلمة مسؤولة، بصيرة، صادقة…
يُتّهم الإسلاميون وبالأخصّ علماء الدّين أنّهم لا يُمارسون نقدًا ذاتيًّا لخطابهم الديني، لمشروعاتهم، لمؤسّساتهم، لفعّالياتهم، كما أنّهم يضيّقون بالكلمة الناقدة إذا جاءت من الآخرين، وكأنّ ما يصدر عنهم مقدّس يحرم المساس به.
لست – هنا – في سياق محاسبة هذا الاتهام، إلّا أنّني أؤكّد أن لا قداسة ولا عصمة إلّا لكلام الله سبحانه، ولكلام رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، ولكلام الأئمّة من آله (صلوات الله عليهم أجمعين).
غير أنّنا يجب أن نعترف بغياب الكثير من النقد الذاتي في أوساطنا، وبوجود حسّاسية مفرطة – لدى البعض منّا – تجاه أيّ نقدٍ أو محاسبة، وإن كان هذا النقد بناء، وكانت هذه المحاسبة صادقة.
نعم، هناك سيلٌ من الكلمات التي تواجه الخطاب الديني هي فاقدة للموضوعية، وغير محكومة للضّوابط العلمية، وتعبّر عن سجالاتٍ باطلة، ومجادلاتٍ تائهة، وانحيازاتٍ مكشوفة..


بعد هذا التمهيد أحاول أن أقارب عنوان المؤتمر من خلال بعض إضاءاتٍ عاجلة، بإيجازٍ أشير إلى ثلاثة مكوّناتٍ تمثّل شروطًا لنجاح مؤسّسة الحسينيّة:
المكوّن الأوّل:
من الضرورة أن تتوفّر المؤسّسة الحسينيّة على جهاز إشرافٍ وإدارةٍ ناجح، وبمقدار ما يكون هذا الجهاز كفوءًا، ومؤهّلًا، ومخلصًا، وفاعلًا، ينعكس ذلك على مستوى النّجاح في حركة هذه المؤسّسة الحسينيّة…
ولكي أعطي الفكرة وضوحًا أكثر أضع بين أيديكم مجموعة مؤهّلات وكفاءات يحتاجها القائمون على شؤون المآتم والحسينيّات:
(1) امتلاك مستوى فكري وثقافي يؤهّل هؤلاء القائمين لاستيعاب أهداف ومسؤوليات المؤسّسة الحسينيّة، فمن الخطر أن يتصدّى لموقع الإشراف والإدارة من لا يملك وعيًا بأهداف ومسؤوليات هذه المؤسّسات، خشية أن تنحرف الأهداف أو تتعطّل المسؤوليات.


وهنا نتحدّث عن منظومة أهداف ومسؤوليات، يشكّل البعد العاطفي الوجداني (إحياء مأساة عاشوراء) واحدًا من هذه المنظومة والتي تضمّ أيضًا البعد الفكري، والبعد الروحي، والبعد الأخلاقي، والبعد التربوي، والبعد الاجتماعي، والبعد الرسالي، والبعد الجهادي… ولا تؤدّي المؤسّسة الحسينيّة رسالتها كاملة إذا غيّبت بعضًا من هذه الأبعاد، والأهداف والمسؤوليات، وهذا يفرض أن لا يتصدّى إلى موقع الإشراف والإدارة في هذه المؤسّسة من لا يملك وعيًا وإيمانًا بكامل الأهداف والمسؤوليات، حتى لا ترتبك الأدوار والمهام، وحتى لا تنحرف الممارسات والأداءات، وهذا ما يدفعنا للتأكيد على ضرورة أن لا تُفرض على المؤسّسات الدينيّة وصايات وضعيّة تصادر استقلاليّتها، والتزامها بمسؤوليّاتها المحدّدة لها شرعًا، وهذا لا يعني أن تتحوّل المؤسّسات الدينيّة إلى حالاتٍ من الانفلات والفوضى والممارسات غير المسؤولة، وغير المحسوبة، فذاك أمرٌ لا يسمح به الدين والشرع والعقل والقوانين العادلة…
إنّ رفض الهيمنات الوضعيّة لا يعني السماح بالانفلات، وإنّما هو حصانة وحماية لمؤسّسات الدّين من أن تكون محكومة لرهانات الأنظمة وإن كانت في غاية العدالة والنزاهة…


(2) امتلاك رؤيةٍ فقهيّةٍ قادرة على تسيير أمور المآتم والحسينيات وِفق الضّوابط الشرعيّة، فما أكثر ما يتخبّط بعض القائمين على شؤون هذه المؤسّسات الحسينيّة، نتيجة غياب الفهم الفقهي، ممّا يعرّضهم للوقوع في المخالفات الشرعيّة.


وهنا نؤكّد على مسألتين:
• ضرورة توفّر الرؤية الفقهيّة..
• ضرورة توفّر الولاية الشرعيّة..


ويمكن أن يضمّ إلى جهاز الإشراف أحد علماء الدين المؤهّلين، ليمارس مهمّة التوجيه الفقهي والديني..


(3) امتلاك درجة عالية من الأمانة والنزاهة والإخلاص، وهذا يفرض أن يكون المتصدّون للإشراف والإدارة من المعروفين بالالتزام الديني والأخلاقي، الأمر الذي يؤهّلهم أن يكونوا الأمناء على هذه المؤسّسات الحسينيّة، وحتى لو امتلك أحدٌ ولاية شرعية، ثمّ ثبت أنّه فاقدٌ للأمانة والنزاهة، وأنّه لا يحمل انضباطًا دينيًا وأخلاقيًا، فإنّ ولايته تسقط ويجب تنحيته عن هذا الموقع…
إنّ أمانة الإشراف على هذه المؤسّسات الحسينيّة مسؤوليّة يجب أن يتحمّلها الصالحون القادرون، وليست ميراثًا ينتقل من الآباء إلى الأبناء إلا إذا كان هؤلاء الأبناء أهلًا لتحمّل الأمانة والمسؤوليّة..


(4) وآخر المؤهّلات المطلوبة في جهاز الإشراف والإدارة أن يمتلك القائمون على شؤون المؤسّسات الحسينيّة كفاءات إدارية، نتيجة تأهيلات علميّة، أو نتيجة خبرات وممارسات عمليّة، إنّ غياب هذه الكفاءات كثيرًا ما يحدث إرباكًا واضطرابًا، وتعثّرًا في أداء المهام والمسؤوليّات حتى وإنْ توفّر الصدق والإخلاص، والنزاهة والأمانة.


المكوّن الثاني:
خطاب المؤسّسة الحسينيّة…

ونعني بالخطاب مجموعة الرّؤى والأفكار والمفاهيم والقِيم التي تُطرح من خلال هذه المؤسّسة الحسينيّة، وينتظم ضمن هذا المكوّن: خطاب المنبر الحسيني، وخطاب الرادود الحسيني، وخطاب الموكب الحسيني، وأيّ خطابٍ يتحرّك في سياق أهداف هذه المؤسّسة.
ويُضاف إلى هذا الخطاب ما نُسمّيه بـ (الشعارات الحسينيّة) وهي مجموعة كلماتٍ موجزة تُعلّق على جدران المآتم والحسينيّات، وضمن لافتات توضع في الطرق والشوارع، أو تُحمل في المسيرات والمواكب العزائية.
ولا شك أنّ هذه الشعارات الحسينيّة تساهم بدرجةٍ كبيرةٍ في صنع وعي الجمهور الحسيني، فبمقدار ما يرتقي وعي هذه الشعارات يكون دورها في إنتاج جمهورٍ أكثر وعيًا بأهداف عاشوراء..
إنّ خطاب المؤسّسة الحسينيّة في جميع مفاصله يحتاج لكي يكون ناجحًا، وفاعلًا، ومؤثّرًا إلى مجموعة مواصفات:
أوّلًا: أن يملك الخطاب درجةً عاليةً من الوعي الحسينيّ.
ثانيًا: أن يملك الخطاب درجةً عاليةً من الروحانية الحسينيّة.
ثالثًا: أن يملك الخطاب درجة عالية من القِيَم الحسينيّة.
رابعًا: أن يملك الخطاب درجة عالية من التقوى الحسينيّة
خامسًا: أن يملك الخطاب درجة عالية من الرسالية الحسينيّة.
سادسًا: أن يملك الخطاب درجة عالية من الجهادية الحسينيّة.


وحينما نتحدّث عن خصوصيات الخطاب الحسيني، إنّما نتحدّث عن صنّاع هذا الخطاب، فهم الذين يُعطون للخطاب وعيه، وروحانيّته، وأخلاقيّته، وتقواه، ورساليّته، وجهاديّته، فكيف يكون الخطاب واعيًا إذا كان خطيب المنبر، وكان الرادود، وكان (الشيّال) لا يملك الوعي الحسيني.
وكيف يكون الخطاب روحانيًا إذا كان خطيب المنبر، وكان الرادود، وكان (الشيّال) لا يملك الروحانية الحسينية..
وهكذا بقيّة الخصوصيات…
ربّما يتصنّع الخطاب الوعي..
وربّما يتصنّع الخطاب الروحانية..
وربّما يتصنّع الأخلاقية، التقوى، الرسالية، الجهادية…
إلّا أنّ هذا الخطاب لن يكون خطابًا صادقًا، ولن يكون خطابًا فاعلًا، ولن يكون خطابًا مؤثّرًا..
ولو قدّر أن تأثّر به بعض الناس، إلّا أنّه لن يكون لصاحبه في الآخرة من نصيب..
وسوف يكون مصداقًا لقوله تعالى: {كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللهِ أَن تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ}.
وربّ دالٍ على الجنّة هو من أهل النّار..
• جاء في الحديث عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله):
«يطّلع قوم من أهل الجنّة على قوم من أهل النار فيقولون: ما أدخلكم النّار، وقد دخلنا الجنّة لفضل تأديبكم وتعليمكم؟! فيقولون: إنا كنّا نأمر بالخير ولا نفعله».
• وجاء في حديثٍ آخر عنه (صلّى الله عليه وآله):
«مررت ليلة أسري بي بأقوامٍ تقرض شفاههم بمقاريض من نار، قلت: من هؤلاء يا جبرئيل؟ قال: خطباء أمّتك الذين يقولون ما لا يفعلون».
• وجاء في حديثٍ ثالث عنه (صلّى الله عليه وآله):
«يُؤتى بعلماء السّوء يوم القيامة، فيُقذفون في نار جهنّم فيدور أحدهم في جهنّم بقصبه كما يدور الحمار بالرّحى، فيُقال له: ويلك بك اهتدينا فما بالك؟ قال: إنّي كنت أخالف ما كنت أنهاكم».


فالقائمون على الخطاب الديني، علماء محراب، أو خطباء منبر، أو حملة قلم، أو أصحاب فكر وثقافة، أو عاملون إسلاميّون… لا يمكن أن يكونوا الأمناء على خطاب الدّين إلّا أن يملكوا وعي الدّين، وروحانيّة الدّين، وأخلاقيّة الدّين، وتقوى الدّين، ورساليّة الدّين، وجهاديّة الدّين، وإلّا كانوا تجّار كلمة، وسماسرة كلمة..
وهم الذين قال الله تعالى فيهم: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ}.
إنّ تجّار الخطاب، وسماسرة الخطاب من الآخرين النادمين يوم الحساب..
• قال نبيّنا الأكرم (صلّى الله عليه وآله):
«إنّ أشدّ أهل النّار ندامة وحسرة رجلٌ دعا عبدًا إلى الله عزّ وجلّ، فاستجاب له، وقبل منه، وأطاع الله عزّ وجلّ، فأدخله الجنّة، وأدخل الداعي النار بتركه عمله، واتّباعه الهوى».


أخلُص إلى القول بأنّ حَمَلَة الخطاب الديني يجب أن تحكمهم ضوابط الشرع والدين، وأن لا يسقطوا في هيمنات تتنافى مع هذه الضوابط.
هناك قلقٌ لدى الأنظمة السياسيّة تجاه الخطاب الديني.
إنّنا لا ندعو إلى خطابٍ منفلتٍ يُربك أوضاع الأوطان، ويؤجّج الخلافات والصّراعات والفتن والأحقاد والعداوات، إنّما ندعو إلى خطابٍ تحكمه ضوابط الشرع والدين، ولا نشكّ أن خطابًا محكومًا لهذه الضّوابط، لن يكون إلّا خطاب خيرٍ وبركةٍ على البلاد والعباد، وخطاب أمنٍ وأمانٍ للشّعوب والأوطان.


المكوّن الثالث:
جمهور المؤسّسة الحسينيّة…

من الخطأ أن نفهم الجمهور الحسينيّ عنصرًا متلقّيًا فقط، وليس له أيّ دورٍ فاعل في إنجاح المؤسّسة الحسينيّة…


الجمهور مكوّنٌ مهمٌّ له دوره المؤثّر إيجابًا أو سلبًا، ليس فقط من خلال التفاعل والتجاوب مع الخطاب الحسيني أو مع الشعر الحسيني أو مع الردّات الحسينية، وإنّما من خلال مجموعة أدوار مهمّة جدًّا:
(1) الجمهور مطلوبٌ منه أن يمارس دور الرقابة على أداء الهيئات والإدارات القائمة على شؤون المؤسّسات الحسينيّة، وهذا يعني أنّ الجمهور له الحقّ أن يحاسب القائمين والمشرفين والإداريّين حينما يرى ضعفًا في الأداء، أو تفريطًا في المسؤوليات، أو انحرافًا في الوظائف المناطة بالمؤسّسات الحسينيّة، ولا يجوز أن يتخلّى الجمهور عن دور الرقابة، بدعوى أنّ المسؤوليّة يتحمّلها القائمون على شؤون المآتم والحسينيّات أو يتحمّلها الأولياء الشرعيّون، أو يتحمّلها علماء الدين، الأمر ليس كذلك، الجميع معنيّون أن يكونوا حرّاسًا على مسار هذه المؤسّسات، وعلى أهدافها ورسالتها، ولا يُفهم من هذا أنّ كلّ فردٍ له حقّ التدخّل في أمور الإشراف والإدارة، ذلك شأن القائمين والمتصدّين، وإلّا ارتبك الوضع في إدارة هذه المؤسّسات…


قلنا إنّ المؤسّسات الحسينيّة لها أهدافها الواضحة، ولها رسالتها المعروفة، ولها نهجها المحكوم للضّوابط الشرعيّة، كما أنّ الإدارات لها مسؤولياتها المرسومة، وواجباتها المحدّدة، فليس عسيرًا على الجمهور أن يكتشف خطأً أو تقصيرًا أو تفريطًا أو انحرافًا ممّا يفرض عليه أن ينتقد، وأن يحاسب، وأن يصحّح معتمدًا الأدوات والوسائل المشروعة في التقويم والمحاسبة، وليس وِفق المزاجات، والعصبيّات والانفعالات، والظّنون والاتهامات، والعداوات، والتحزّبات…


(2) مسؤوليّة الجمهور في رقابة الخطاب الحسيني:
قد يقال بأنّ هذا يفرض هيمنة للجمهور على الخطاب، فإذا كان وعي الجمهور متخلّفًا فرض على الخطاب تخلّفًا، وإذا كان خلق الجمهور فاسدًا فرض على الخطاب فسادًا، وإذا كان مزاج الجمهور منفعلًا فرض على الخطاب انفعالًا، وإذا كان حراك الجمهور منحرفًا فرض على الخطاب انحرافًا، ثمّ إنّ الكثير من حضّار المجالس الحسينيّة تستهويهم المهارات الصوتيّة للخطيب، وللرادود، وإن على حساب المضامين والأفكار والمهارات العلميّة، فمن الخطر جدًّا إخضاع الخطاب إلى هيمنة الجمهور، في حين يُفترض أن يكون الخطاب موجِّهًا للجمهور، وليس العكس…
لنا حول هذا الكلام بعض التعقيب:
إنّنا حينما نُعطي للجمهور حقّ الرقابة على الخطاب الحسيني إنّما من خلال الضّوابط التي تحكم هذا الخطاب، فيما هي الأهداف، وفيما هي المسؤوليات، وفيما هي المضامين، هذه الضوابط يجب أن تفرض نفسها على جميع مكوّنات المؤسّسة الحسينيّة (الإدارة/ الخطاب/ الجمهور).
فلا يحقّ لجمهورٍ متخلّف الوعي أن يفرض تخلّفه على الخطاب، ولا يحقّ لجمهورٍ فاسد الأخلاق أن يفرض ذلك الخطاب، ولا يحقّ لجمهورٍ منحرف الحراك أن يفرض انحرافه مع الخطاب، ولا يحق لجمهورٍ أن يفرض مزاجاته ورغباته على الخطاب إذا لم يكن ذلك وِفق الضّوابط والثّوابت التي يجب أن توجّه الخطاب، وأن تحكم الخطاب..


أن يكون الجمهور مؤهّلًا لهذه الصلاحية في رقابة الخطاب الحسيني يُفترض فيه:
أوّلاً: أن يكون واعيًا بمضامين الخطاب الحسيني، وأهدافه ومسؤولياته.
ثانيًا: أن يكون مؤمنًا بهذه المضامين، والأهداف، والمسؤوليات..
ثالثًا: أن يكون مخلصًا لهذه المضامين، والأهداف، والمسؤوليات.
وأما إشكالية أنّ الخطاب يجب أن يكون موجّهًا للجمهور وليس العكس، فهذا صحيح، حينما يكون الخطاب مؤهّلًا لهذا التوجّه، في مضامينه، وأهدافه، وقدراته، ولكن عندما يفقد الخطاب هذه المكوّنات أو بعضًا منها، فيأتي دور الجمهور المؤهّل ليكون موجّهًا ومرشدًا للخطاب…
وهذا الأمر ينطبق أيضًا على سائر الخطابات الدينيّة والثقافيّة والتربويّة والاجتماعيّة والسياسيّة والاقتصاديّة، فإنّ مسؤولياتها أن توجّه وترشد الجمهور في مجالاتها، وهذا لا يمنع أن يعطي الجمهور إذا كان مؤهّلًا حقّ الرقابة على الخطاب، فربّما كان الجمهور في بعض الحالات أكثر وعيًا، وأقوى إيمانًا، وأشدّ إخلاصًا.
ثمّ إنّ رقابة الجمهور الصالح، والواعي، والمخلص والأمين على القيم والمبادئ والأهداف تشكّل الضمانة لحماية الخطاب من أن ينحرف، أو يضعف، أو يساوم، أو ينفلت..


(3) الجمهور الحسيني هو عصب الحيويّة والديمومة والاستمراريّة لبقاء المؤسّسات الحسينيّة، فلولا إصرار الجمهور على الحضور في المجالس، وفي المواكب، وفي المراسيم العاشورائيّة لما بقي لهذه الفعاليات الحسينية أيّ أثر، لذا فنحن نثمّن لجمهورنا الحسيني هذا الثّبات وهذا الإصرار حفاظًا على الامتداد العاشورائي، وإنّ أيّ استرخاء، أو تهاون، أو تفريط في مستوى الحضور، سوف يحمّل الجمهور مسؤولية كبيرة، حينما لا يكون الأمين على بقاء واستمرار هذه المجالس الحسينيّة، وهذه المراسيم العاشورائيّة، كما أوصى أئمّتنا الأطهار (عليهم السلام):
• في الحديث عن الإمام الصّادق (عليه السلام) أنّه قال:
«يا فضيل، تجلسون وتتحدّثون؟ قال: نعم سيدي.. قال (عليه السلام): يا فضيل هذه المجالس أحبّها، أحيوا أمرنا، رحم الله امرءًا أحيا أمرنا».




اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى