حديث الجمعةشهر ربيع الثاني

حديث الجمعة 281: الإيمانُ والعملُ (3) – لماذا يصمتُ حكَّامُ العربِ والمسلمين تجاه هذا الاعتداء الآثم على كتاب الله؟

بسم الله الرحمن الرحيم


الحمد لله ربِّ العالمين، وأفضل الصلوات على سيد الأنبياء والمرسلين محمَّدٍ وآله الطيِّبين الطاهرين..


يستمر بنا الحديث حول عنوان:


الإيمانُ والعمل الصالح


وحسب ما تحدَّث القرآن الكريم…


• قال الله تعالى في سورة فصلت/ الآية 30:
﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ﴾.


نحاول أن نستوحي بعضَ دلالاتٍ مهمَّةٍ من هذا النصّ القرآني:


(1) ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ﴾


﴿رَبُّنَا اللهُ﴾  شعارٌ يعبِّرُ عن (هويَّة الإنسان المسلم) فما أحوجنا أن نؤكِّد (هويَّتنا الإيمانيَّة) في زحمة الهويَّات الأخرى المضادَّة…


قد يُقال: إنَّ هذا الإصرارَ على إعلان الهويَّة الإيمانيَّة يُفتِّت الوحدة الوطنيَّة في داخل الشعوب، فالمصلحةُ تفرضُ أن نعلن انتماءَنا الوطني من أجل أن نحافظ على نسيج الوحدة…


هذا كلامٌ مرفوض… فالله تعالى يأمرنا أن نعلن انتماءنا الإيماني ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ﴾، فلا قيمةَ لأيِّ كلامٍ يُخالف كلامَ الله عزَّ وجلَّ…


ثمَّ مَنْ قال أنَّ إعلان الانتماء للهِ، وللدين، وللإسلام يؤدِّي إلى تفتيت الوحدةِ بين مكوِّناتِ الشعوب؟


لا يوجد فكرٌ يدعو إلى الوحدةِ والتآلفِ والمحبَّةِ أقوى من الفكرِ الإيماني الصادقِ، نعم هناك حمَلةُ إيمانٍ مزيَّفٍ، وحمَلةُ دينٍ كاذب، هؤلاءُ دعاةُ فتنةٍ، ودعاةُ عداوةٍ، ودعاةُ إرهابٍ…


إنَّ إعلانَ الانتماء إلى الله يُحصِّن ويقوِّي ويصلِّب هذا الانتماء، ولذلك ورد التأكيد على قول (لا إله إلَّا الله)..


• قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله:
«مَنْ قال لا إله إلَّا الله مخلصًا دخلَ الجنَّةَ، وإخلاصُه أن يحجزه لا إله إلَّا الله عمَّا حرَّم الله عزَّ وجلَّ»[1].


• «جاء أعرابي إلى رسول الله صلَّى الله عليه وآله فقال: يا رسول اللهِ هل للجنَّةِ مِن ثمن؟
قال صلَّى الله عليه وآله: نعم.
قال: وما ثمنها؟
قال صلَّى الله عليه وآله: لا إله إلَّا الله يقولها العبد الصالح مخلصًا بها.
قال: وما إخلاصُها؟
قال صلَّى الله عليه وآله: العمل بما بُعثتُ به في حقِّهِ، وحبّ أهل بيتي.
قال: وحبّ أهل بيتك لمن حقّها؟
قال: أجل، إنَّ حبّهم لأعظم حقّها»[2].


• وقال الإمام الصَّادق عليه السَّلام:
«مَنْ قال لا إله إلَّا الله مائة مرَّة كان أفضل النَّاسِ ذلك اليوم عملًا إلَّا مَنْ زاد»[3].


وإذا أخذنا شعارًا آخر من شعاراتِ الإيمانِ وهو شعار (الله أكبر)، فكم لهذا الشعار من دورٍ كبيرٍ جدًا في إنتاج الصمودِ والعنفوانِ والتحدِّي.


إنَّ شعار (الله أكبر) أسقط عرشَ الطاووس في إيران خامس قوة عسكريَّة في العالم، من خلال أعظم ثورةٍ في التاريخ المعاصر..


إنَّ شعار (الله أكبر) أسقط غطرسة الصهاينة، حينما حمله أبناءُ حزب الله في لبنان، هؤلاء الذين أعادوا لهذه الأمَّةِ كرامتها وعزَّتها، وغسلوا ذلَّ العارِ الذي صنعه تاريخ الأنظمة منذ أكثر مِن نصف قرن..


شعار (الله أكبر) هو الذي جعل الأرض تهتزّ تحت أقدام الصهاينة على أيدي أبطال الانتفاضة في فلسطين…


وها هو شعار (الله أكبر) قد ارتفع من حناجر ثوَّار الربيع العربي الذين أسقطوا عددًا مِن طغاةِ هذا العصر..


إنَّ للشعارات الإيمانيَّة قيمتها في إنتاج المواقف المبدئيَّة، وفي مواجهة كلِّ التحدِّيات… بشرط أن تمتلك الوعيَ كلَّ الوعي، والصدقَ كلَّ الصدق، وإلَّا تحوَّلت كلماتٍ فارغةً من القدرة على صنع الموقف، والإرادة، والتحدِّي، والصمود.


(2) ﴿ثُمَّ اسْتَقَامُوا﴾..


– الحركة المستقيمة تلك التي لا تنحرف ذات اليمين ولا ذات الشمال..
– الصراط المستقيم الطريق الذي يوصل إلى الجنَّة..
وما عداه فهي طرق تقود إلى النَّار..


• ﴿اهدِنَــــا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ، صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ﴾. (الفاتحة/ الآية 6 -7)


• ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ﴾. (الأنعام/ الآية 153)


المؤمنون الصادقون هم الذين يلتزمون منهج الله، دينَ الله الحق، أحكام الله، أوامر الله ونواهيه.


أ- في كلِّ أفكارهم:
فلا يتبنَّون أفكارًا تخالف منهج الله، ودينه، وأحكامه، وأوامره، ونواهيه، سواء على مستوى العقيدة أو الثقافة، أو الاقتصاد أو الاجتماع، أو السِّياسة فلا عقيدة إلَّا ما يرضاها الله، ولا ثقافة إلَّا التي تتطابق مع دين الله، ولا الاقتصاد إلِّا في حدود الحلال والحرام، ولا علاقات شخصيَّة أو اجتماعيَّة إلَّا إذا كانت في طريق الله..


ب- في كلِّ عواطفهم:
فلا حبّ ولا بغض إلَّا في الله..
ولا رضى ولا غضب إلَّا كما أمر الله..
ولا فرحَ ولا حزن إلَّا بما يقرِّب أو يبعِّد من الله..
وهكذا تتحرَّك كلُّ العواطف في خطِّ الله، وضمن أحكام الله…


ج- في أقوالهم فلا ينطقون إلَّا بما يرضي الله.


د- وفي كلِّ أفعالهم وممارساتهم ومواقفهم فلا يصدرون إلَّا عن أحكام الله تعالى وشريعته…


(3) ﴿تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ﴾.


 متى تتنزَّل عليهم الملائكة؟
في عدَّة مواطن (حسب اختلاف التفاسير):


الموطن الأول: عند خروج الروح..
لحظةٌ شديدةٌ، مُرعبة، مَهولة، لا يعرفُها إلَّا مَنْ ذاقها، وعاش سكراتِها، وإن كانت الآيات والروايات قد حدَّثتنا عنها، وأوضحت شيئًا من واقعها…


• قال تعالى: ﴿وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ﴾. (ق/ الآية 19)


لماذا سمِّيت هذه اللحظةُ بسكرة الموتِ أو سكراتِ الموت؟
كونها لحظة ذهولٍ يسيطر على العقل، فكأنَّه في حال السكر، فلا يملك القدرة أن يتحكَّم في الموقف، وهنا يكون دور الواقع الذي صنعه الإنسان في حياته، فإن كان هذا الواقع صالحًا نطق اللسان بكلمة التوحيد، وإلَّا تلجلج وارتبك وزاغ عن الحقِّ..


• وجاء في الحديث عن الإمام زين العابدين (عليه السَّلام):
«أشدُّ ساعات ابن آدم ثلاث: السَّاعة التي يعاين فيها ملك الموت، والسَّاعة التي يقوم فيها من قبره، والسَّاعة التي يقف فيها بين يدي الله تبارك وتعالى…»[4].


• وقيل للإمام الصَّادق عليه السَّلام: صف لنا الموت..
فقال: «للمؤمنِ كأطيب ريحٍ يشمّهُ فينعس لطيبه، وينقطع التعب والألم كلّه عنه، وللكافر كلسع الأفاعي، ولدغ العقارب أو أشدّ..
قيل: فإنَّ قومًا يقولون: إنَّه أشدّ من نشرٍ بالمناشير، وقرضٍ بالمقاريض، ورضخٍ بالأحجار، وتدويرٍ قطب الأرحية في الأحداق، قال: فهو كذلك على بعض الكافرين والفاجرين»[5].


• عن أبي عبد الله [الإمام الصَّادق] عليه السَّلام:
«أنَّ أمير المؤمنين (عليه السلام) اشتكى عينه، فعاده النبيّ صلَّى الله عليه وآله وهو يصيح، فقال النبيّ صلَّى الله عليه وآله: أجزعًا أم وجعًا؟ فقال: يا رسول الله ما وجعت وجعًا قط أشدّ منه، قال صلَّى الله عليه وآله:
يا عليّ إنَّ ملكُ الموتِ إذا نزل لقبض روح الكافر نزل معه سفود من نار، فينزع روحه به فتصيح جهنم، فاستوى عليّ (ع) جالسًا وقال: يا رسول الله أعد عليَّ حديثك، فقد أنساني وجعي ما قلت، ثم قال: هل يصيب ذلك أحدًا من أمَّتِك؟
قال [صلَّى الله عليه وآله]: نعم، حاكم جائر، وآكل مال اليتيم ظلمًا ، وشاهد زور»[6].



للحديث تتمَّة إن شاء الله تعالى…



القرآنُ يُحرقُ .. فلماذا الصمتُ يا حكَّام المسلمين؟


أقدم جنودٌ أمريكان في إحدى القواعد الأفغانيَّة على حرقِ نسخٍ مِن القرآن الكريم، في تحدٍّ وقحٍ لمشاعرِ أكثر مِن مليار مسلمٍ في العالم، وقد فجَّر هذا الاعتداء السافر غضبَ الشعب الأفغاني، فخرجوا ولا زالوا في مسيراتٍ احتجاجيَّةٍ مندِّدةٍ، ومطالبةٍ بالقصاص من أولئك الجناة الذين انتهكوا حرمةَ كتاب الله، وكذلك انطلق الغضب في الكثير من بلدان المسلمين، وصدرت التصريحاتُ والكلماتُ المندِّدةُ والمستنكرة من علماء ومراجع دين، وشخصياتٍ إسلاميَّةٍ… وإن كانت ردَّات الفعلِ دون المستوى المطلوب تجاه هذه الجريمة النكراء في الإساءةِ إلى القرآن الكريم، فمطلوبٌ من المسلمين حكَّامًا وحكومات، ومراجع دين وعلماء، ومفكِّرين ومثقفين، وسياسيين، ومنظماتٍ، وجمعياتٍ، وأفرادًا وجماعات، وشعوبًا تقدِّس هذا الكتاب العظيم أن تغضب لهذا العملِ الشائن، وأن تطالب بمواقف جريئة ضدَّ كلِّ مَنْ ينتهكُ حرمةَ كتابِ الله، وحرمةَ مقدَّساتِ المسلمين….


والسؤال المطروحُ هنا:
لماذا يصمتُ حكَّامُ العربِ والمسلمين تجاه هذا الاعتداء الآثم على كتاب الله؟


إنَّ هذا الصمتَ يحملُ دلالتين:


الدلالةُ الأولى:
إنَّ القرآن الكريم ليس له قيمة لدى الحكَّام والزعماء، فلا يعنيهم أن تنتهك حرمته، وأن يُساء إلى قدسيَّته، وأن يُحرق، وان يُداس، وأن يُمزق… ولو مسَّ شيئٌ مِن هذا صورةَ حاكمٍ، أو علمَ دولة، لتفجَّر الغضبُ، وتحرَّك إعلامُ هذا الحاكم، وإعلامُ هذه الدولة ثأرًا للكرامة، وغضبًا لهذا الاعتداء…


أمّا أن يُمسّ كتابُ الله، ويُعتدى على حرمته، وتُمتَهن مشاعرُ المسلمين، فأمرٌ لا يعني الحُكَّام والقادة والزعماء…


ما قيمة مشروعاتٍ قرآنيَّة ترعاها أنظمةُ حكمٍ في بلدانِ العربِ والمسلمين؟


وما قيمة تلاواتٍ لآياتِ الله تتصدَّر برامج محطاتٍ وإذاعاتٍ، واحتفالاتٍ، ومناسبات؟


وما قيمة احتفاءاتٍ شكليةٍ لا تعبِّر عن إيمانٍ صادقٍ بهذا الكتاب العظيم؟


وما قيمة ذلك في بلدانٍ تُنتهك فيها أحكامُ القرآنِ، وقيمُ القرآنِ، وأخلاقُ القرآن؟


مِن الطبيعي أن لا يكون للقرآن حضور في وجدان الكثير مِن الحكام والزعماء…


الدلالة الثانية:
لم يُحرّك السَّاسةُ ساكنًا احتجاجًا لانتهاكِ حُرمةِ القرآن لكي لا تغضب أمريكا، فالاحتجاج هو إدانة لما صدر عن جنودٍ أمريكيين، وبالتالي هو إدانةٌ لأمريكا…


وهل يملك حكَّامٌ مرتهنون للقرار الأمريكي أن يقولوا: لا لفعلٍ صادرٍ عن أمريكا، أو عن أيّ دولة كبرى فرضت هيمنتها على سياساتِ الأنظمةِ الحاكمةِ في الكثيرِ من بلدانِ العربِ والمسلمين….


إنَّ هذا الارتهانَ المُذلَّ يكرِّسُ التبعيةَ والضعف والانهزام لدى أنظمة الحكم، ممَّا يُسقط إرادتها في اتخاذِ أيّ موقفٍ رافضٍ، أو أيِّ قرارٍ جادٍّ يُزعجُ تلك القوى الكبرى…


وإلَّا فبإمكانِ الدولِ العربيةِ والإسلاميةِ لو كانت تمتلك إرادتها المتحرِّرة، وسياساتِها المستقلةِ، ومشروعاتِها الوطنية أن تشكِّل ثقلًا كبيرًا في المعادلةِ الدوليةِ، وفي الرهانات العالمية..


إلَّا فبإمكانِ هذه الدولِ لو تصالحت مع شعوبها، وتحوَّلت إلى أنظمةِ حكمٍ عادلةٍ أن تُصبح قوةً تُرهبُ أعداءَ العربِ والمسلمين، وتفرضُ حضورها بين قوى العالم..


إلَّا أنَّ الواقع الذي تُعبِّر عنه هذه الأنظمة أنَّها مسلوبةُ الإرادة أمام الهيمنة الأمريكية وهيمنة الدول الكبرى، وأنَّها مرهونة السِّياسةِ، وأنَّها لا تمتلك مشروعاتٍ في صالح أوطانها، وأنَّها متخاصمة مع شعوبها.. وهذا ما يفرض عليها أن تبقى ضعيفةً، مقهورةً، متخلِّفةً.






الهوامش:
[1] الصدوق: معاني الأخبار، ص 27، باب (معنى قول لا إله إلَّا الله بإخلاص)، ح2. (ط. 1379 – 1338 ش، مؤسَّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين، قم – إيران)
[2] الطوسي: الأمالي، ص 583، مجلس يوم الجمعة 24 صفر سنة 457، ح 12. (ط1، 1414هـ، دار الثقافة، قم – إيران)
[3] الكليني: الكافي 2/ 505، كتاب الدعاء، باب التسبيح والتهليل والتكبير، ح1. (ط4، 1365 ش، دار الكتب الإسلاميَّة، طهران – إيران)
[4] الصدوق: الخصال، ص 119، ح 107. (ط. 1403هـ، منشورات جماعة المدرسين، قم – إيران)
[5] الصدوق: معاني الأخبار، ص 287، باب معنى الموت، ح1.
[6] الكليني: الكافي 3/ 254، باب النوادر، ح10.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى