حديث الجمعةشهر رمضان

موائد الإيمان (3) التماس ليلة القَدْر في العشر الأواخر!

موائد الإيمان
هي محاضرات للعلَّامة السَّيِّد عبد الله الغريفي، ألقيت في أيَّام السَّبت خلال شهر رمضان المبارك 1439هـ، وقد تمَّ تفريغها من تسجيلات مرئيَّة، وتنسيقها بما يتناسب وعرضها مكتوبة للقارئ الكريم.
(3)

التماس ليلة القَدْر في العشر الأواخر!
السَّلام عليكم أيُّها الأحبَّة جميعًا، ورحمة الله وبركاته.

نستقبل ليلة القدر في التَّاسع عشر من شهر رمضان، وفي الواحد والعشرين، وفي الثَّالث والعشرين، أو التمسوها في العشر الأواخر.

هنا نتناول بعض العناوين:
سبب التَّسمية
لماذا سُمِّيت هذه اللَّيلة بليلة القدر؟
ما هو منشأ تسمية ليلة القدر بهذا الاسم؟

القرآن يسمِّيها ليلة القدر: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾ (سورة القدر: الآية1).
آراء في سبب تسمية ليلة القدر

لماذا سمِّيت هذه الليلة بليلة القدر؟
هناك مجموعة آراء، أو مجموعة أقوال:

الرَّأي الأوَّل:
من التَّقدير، أو القدر
يرى – هذا الرَّأي – أنَّ هذه التَّسمية جاءت من التَّقدير أو القدر، بمعنى: القضاء، لأنَّ في هذه اللَّيلة يُقضى ويقدَّر، ﴿فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ﴾ (سورة الدخان: الآية4).
ففي ليلة القدر يحكم الله تعالى فيها، ويقضي بما يكون في السَّنة بأجمعها.

كم لك من أجل!
وكم لك من رزق!
وكم لك من صحَّة!
وكم لك من مرض!
فهذا كلُّه يُقدَّر ويقضى في ليلة القدر، ولذا سُمِّت ليلة القدر.
يعني: ليلة القَدَر، ليلة القضاء.
اللَّيلة التي ﴿فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ﴾ (سورة الدخان: الآية4)، أي: يُقدَّر فيها ما يكون في السَّنة من خير، أو شرٍّ، أو منفعة، أو مضرَّة، أو رزقٍ، أو أَجَل.

فليلة القدر يعني: ليلة التَّقدير.
هذا هو الرَّأي الأوَّل.

الرَّأي الثَّاني:
من القدر بمعنى الضِّيق!
نقرأ في القرآن الكريم: ﴿… يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاء وَيَقَدِرُ …﴾ (سورة الرعد: الآية26).
فـ﴿… وَيَقَدِرُ …﴾، ما معناها؟
معناها: يضيق.

ونقرأ قوله تعالى: ﴿وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ …﴾ (سورة الأنبياء: الآية87)، فنقدر، يعني: نضيق، فالقدر، بمعنى: الضِّيق.
ولماذا سمِّيت هذه اللَّيلة بليلة الضِّيق؟
يقول أصحاب هذا الرَّأي: لأنَّها تضيق بالملائكة.

وتزدحم فيها الملائكة، فسُمِّيت ليلة القدر.
يعني: ليلة الضِّيق، لأنَّها تضيق بالملائكة!
هذا هو الرَّأي الثَّاني.

الرَّأي الثَّالث:
من القدر بمعنى الشَّرف، وعظم الشَّأن
سمِّيت ليلة القدر من القدر، بمعنى: الشَّرف، وعظم الشَّأن!
نقول: رجلٌ له قدرٌ عند النَّاس.
ما معنى: القَدْرُ؟
يعني: مكانة، ومنزلة، وقيمة، ورفعة، وشهرة.
القدر بمعنى: الشَّرف، والعَظَمة، والمكانة.
فسُمِّيت ليلة القدر، أي: ليلة الشَّرف، والمكانة، والرِّفعة.

نقرأ قوله تعالى: ﴿وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ …﴾ (سورة الزمر: الآية67)، أي: ما عظَّموه حقَّ تعظيمه!

لقد سُمِّيت هذه الليلة بليلة القدر؛ لشرفها، وعظم شأنها!

أو لأنَّ للطَّاعات فيها قدرًا عظيمًا، وثوابًا جزيلًا!
أو لأنَّه قد أنزل فيها كتاب له قدر إلى رسول ذِي قدر.

فكلُّها شرف، وقدر، ومكانة، فسُمِّيت – لذلك – ليلة القدر.

ويحتمل أنْ تكون المعاني – الآنفة – كلُّها صحيحة، فهي ليلة القدر، لأنَّها يُقدَّر فيها، ولأنَّها تضيق بالملائكة، ولأنَّها ليلة الشَّرف والمكانة والعظمة.
ليلة القدر تكون طيلة السَّنة!

إنَّنا نقرأ في القرآن الكريم قوله تعالى:
1- ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ …﴾ (سورة البقرة: الآية185).

2- ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾ (سورة القدر: الآية1).

هناك من المسلمين مَن يذهب إلى أنَّ ليلة القدر تكون في طيلة السَّنة، وغير محدَّدة بشهر رمضان!
فبعضهم يقول: تكون في شعبان، وبعضهم يقول: تكون في طيلة السَّنة، فغير محدَّدة عندهم بيوم من أيَّام السَّنة!

ليلة القدر مخصَّصة في شهر رمضان
إلَّا أنَّها وفق رواياتنا عن أهل البيت (عليهم السَّلام)، تكون مُخصَّصة في شهر رمضان.

إنَّنا نقرأ في القرآن الكريم قوله تعالى:
1- ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾ (سورة القدر: الآية1).

2- ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ …﴾ (سورة البقرة: الآية185).
فنفهم من هاتين الآيتين أنَّ القرآن الكريم أُنزل في شهر رمضان المبارك.
فالآية الأولى تقول: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾ (سورة القدر: الآية1)، وليلة القدر في رواياتنا تكون في شهر رمضان.

بمعنى: إنَّ القرآن أُنزل في شهر رمضان.
أمَّا الآية الثَّانية، فهي صريحة: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ …﴾ (سورة البقرة: الآية185)!

نزل القرآن الكريم مفرَّقًا
هنا يُطرح سؤال: إنَّنا – عندما نتابع نزول القرآن الكريم – نجد أنَّه نزل مفرَّقًا، ولم ينزل دفعةً واحدةً.
فقد نزل مفرَّقًا طيلة السَّنة – حسب الحاجة، وحسب المناسبات تنزل آية قرآنيَّة، او آيات قرآنيَّة -، فما معنى قوله تعالى: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾ (سورة القدر: الآية1)، و﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ …﴾ (سورة البقرة: الآية185)؟

كيف نوفِّق بين هذه الآيات التي تؤكِّد نزول القرآن الكريم في شهر رمضان، أو في ليلة القدر، وبين نزول القرآن الكريم مُفرَّقًا حسب المناسبات والحاجات، وحسب الوقائع، فتنزل آيات قرآنيَّة؟

آراء في تفسير التَّنزيل
توجد مجموعة آراء – قد أستعرضُها بدون مناقشة -، وسأقف عند رأي الشَّهيد السَّيِّد محمَّد باقر الصَّدر (رضوان الله عليه).

ولكن الآن سأطرح بشكل عاجل وسريع هذه الآراء، فـ:

الرَّأي الأوَّل:
النُّزول جُملة واحدة
يميل إليه بعض العلماء القدامى، ومفاده: إنَّ القرآن الكريم نزل جملة واحدة في ليلة القدر إلى البيت المعمور في السَّماء الرَّابعة.

ففي السَّماء الرَّابعة نزل القرآن الكريم من اللَّوح المحفوظ إلى السَّماء الرَّابعة في البيت المعمور ليلة القدر، ثمَّ أخذ القرآن الكريم ينزل تدريجيًّا على رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم).
وعلى هذا يمكننا أنْ نجمع، فنقول: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾ (سورة القدر: الآية1)، يعنى أنزلناه إلى البيت المعمور، إلى السَّماء الرَّابعة، وبعدها نزل مُفرَّقًا على النَّبيِّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم).

إلَّا أنَّ هذا الرَّأي لا نمتلك دليلًا قويًّا عليه.

ثمَّ ما الثَّمرة من ذلك، حيث ينزل القرآن إلى البيت المعمور، ثمَّ ينزل مفرَّقًا على رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)؟!

فهذا الرَّأي فيه نظر!
إلَّا أنَّه موجود هذا الرَّأي لبعض القدماء.
فهذا هو الرَّأي الأوَّل.

الرَّأي الثَّاني:
ينزل في كلِّ ليلة قَدْر من كلِّ عام
وهذا الرَّأي يقول: كان القرآن الكريم ينزل على النَّبيِّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) في كلِّ ليلةِ قدر من كلِّ عام بما يحتاج النَّاس إليه في تلك السَّنة من القرآن الكريم، ويذهب إلى هذا الرَّأي بعض علماء السُّنَّة.

إنَّ كلَّ ليلة قدر من كلِّ سنة تنزل كمِّية من الآيات القرآنيَّة التي يحتاجها الرسَّول (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) طيلة السَّنة.

فبأيِّ قدر يحتاجه من الآيات القرآنيَّة لطيلة السَّنة، فإنَّها تنزل كلُّها ليلة القدر، فيقوم الرَّسول (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) على تبليغها حسب الحاجة لها.

وهذا الرَّأي – للأسف – لا نمتلك دليلًا قويًّا عليه!

الرَّأي الثَّالث:
أغلب القرآن الكريم نزل في شهر رمضان
وهذا الرَّأي يقول: إنَّ أغلب القرآن الكريم قد نزل في شهر رمضان المبارك.

إنَّ معظم القرآن الكريم كان ينزل في شهر رمضان المبارك، ولذلك صحَّ أنْ نقول: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ …﴾ (سورة البقرة: الآية185).

ولأنَّ أغلب القرآن الكريم قد نزل في شهر رمضان المبارك، ولأنَّ أغلب آياته قد نزلت في شهر رمضان المبارك، فقد صحَّ أنْ يُقال: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ …﴾ (سورة البقرة: الآية185).

وهذا الرأي – أيضًا – لا نمتلك سندًا قويًّا عليه، إذ ليس من المعلوم أنَّ أغلب القرآن الكريم قد نزل في شهر رمضان المبارك!

الرَّأي الرَّابع:
أنَّ بدْءَ نزول القرآن الكريم في شهر رمضان
هذا الرَّأي من الممكن أنْ يكون صحيحًا.

يقول هذا الرَّأي: لا مشكلة في أنَّ القرآن الكريم قد بدأ نزوله في شهر رمضان الكريم، وعلى هذا فيصحُّ أنْ يُقال: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ …﴾ (سورة البقرة: الآية185).
لربما يستشكل أحدهم، فيقول: إنَّ أوَّل ما نزل القرآن الكريم في البعثة، والبعثة في أيِّ شهر؟!

البعثة في شهر رجب، حيث نزل على النَّبيِّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾ (سورة العلق: الآية1) وهو (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) يتعبَّد في غار حراء.

فإذن، إنَّ أوَّل ما نزل القرآن الكريم كان في شهر رجب، وليس في شهر رمضان المبارك!

الجواب: يمكن أنْ تُعالج هذه الإشكاليَّة بأنَّ تلك الآية التي نزلت هي لمجرَّد إبلاغ للنَّبيِّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) بتحمُّل الرِّسالة، وليس كقرآن كريم، ولذلك قد انقطع الوحي عن نزول القرآن الكريم فترة طويلة بما يقارب ثلاث سنوات، ثمَّ بدأ القرآن الكريم ينزل بشكل مستمرٍّ.

فهذه البداية الثَّانية كانت في شهر رمضان، ولذلك صحَّ أنْ يُقال:
﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾ (سورة القدر: الآية1)، و﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ …﴾ (سورة البقرة: الآية185)، حيث إنَّه قد بدأ نزول القرآن الكريم في شهر رمضان المبارك.

وهذا الرَّأي يميل إليه بعض العلماء من القدامى كالشَّيخ المفيد، ولعلَّه يظهر ذلك من كلمات – بعض المعاصرين – كالسَّيِّد فضل الله (رحمة الله عليه)، وبعض علماء السُّنَّة.

الرَّأي الخامس:
شهر رمضان أُنزل فيه فضِّلُ القرآن الكريم
هذا الرَّأي يحاول أنْ يفسِّر هذه الآية: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ …﴾ (سورة البقرة: الآية185) بأنَّ شهر رمضان المبارك قد أُنزل في فضله القرآن الكريم – وليس معناه أنَّ القرآن الكريم قد نزل في شهر رمضان -، فقوله: ﴿… أُنزِلَ فِيهِ …﴾ (سورة البقرة: الآية185)، أي: في فضله!

وهذا المعنى بعيد جدًّا عن ظاهر الآية الشَّريفة، فظاهر الآية الكريمة: إنَّ القرآن الكريم قد نزل في شهر رمضان المبارك.

إذن: ماذا نصنع في قوله تعالى: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾ (سورة القدر: الآية1)؟!

الجواب: إنَّ ليلة القدر هي في شهر رمضان المبارك، فيعني أنَّ القرآن الكريم قد نزل في شهر رمضان المبارك!

هذه خمسة آراء – الآنفة الذِّكر – قد لا تملك سندًا قويًّا، باستثناء الرَّأي الرَّابع الذي من الممكن أنْ يكون صحيحًا.

الرَّأي السَّادس:
للقرآن الكريم نزولان دفعيٌّ وتدريجيٌّ
إنَّ الشَّهيد الصَّدر (قدِّس سرُّه) له رأي – ولعلَّ صاحب الميزان (قدِّس سرُّه) يشير لهذا الرَّأي أيضًا – يقول السَّيِّد محمَّد باقر الصَّدر (قدِّس سرُّه): إنَّ للقرآن الكريم نُزُولَيْنِ، وليس نزولًا واحدًا! (انظر: علوم القرآن، الصَّفحة27، السَّيِّد محمَّد باقر الحكيم)

النُّزول الأوَّل: النُّزول الدَّفعيُّ
لقد نزل القرآن الكريم دفعة واحدة؛ لإعداد القائد الرِّساليِّ، أي: النَّبيِّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم).

القرآن قد نزل جملة واحدة حتَّى يُهيَّأ النَّبيُّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، ويُعدُّه!

فمثل هذا إعداد للنَّبيِّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)؛ ليتحمَّل الرِّسالة.
بما أنَّه (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) سيتحمَّل الرِّسالة، فمن اللَّازم أنْ يطَّلع على معالمها العامَّة كلِّها.

فمن غير الصَّحيح أنْ يكون رسولًا مُبْتَعثًا ولا يطَّلع على معالم الرِّسالة.
إنَّ القرآن الكريم قد نزل على قلب رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) حتَّى يطَّلع الرَّسول (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) على الخطوط العامَّة للرِّسالة التي سيتحمَّلها.

هذا هو ما تحدَّث عنه القرآن الكريم بقوله: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾ (سورة القدر: الآية1)، أي: على رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، فهذا ليس نزولًا للأمَّة، بل هو نزول خاصٌّ.

﴿… أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾ (سورة القدر: الآية1)، أي: على قلب رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم).

﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ …﴾ (سورة الدخان: الآية3)، أي: على قلب رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم).

﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ …﴾ (سورة البقرة: الآية185)، أي: أُنزل على قلب رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم).

هذا هو النُّزول الأوَّل، ونسمِّيه نزولًا دفعيًّا.

أي: مرَّة واحدة قد نزل بتفاصيله على قلب رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم).

النُّزول الثَّاني: النُّزول التَّدريجيُّ
وهو النُّزول التَّدريجيُّ؛ لإعداد الأمَّة.
لقد كان النُّزول الأوَّل؛ لإعداد النَّبيَّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، والقائد، وتهيئته للرِّسالة.

ما فائدة النُّزول التَّدريجيِّ حسب المناسبات؟
إنَّه لأجل إعداد النَّاس، وإعداد الأمَّة.
فالنُّزول الأوَّل، هو لإعداد القائد، النَّبيِّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، أما النُّزول الثَّاني، فهو لإعداد النَّاس، والأمَّة، فهو نزول تدريجيٌّ لإعداد الأمَّة، وهذا ما نفهمه من قوله تعالى: ﴿وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ …﴾ (سورة الإسراء: الآية106).
ولماذا فرقناهُ؟؛ ﴿… لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ. ..﴾ (سورة الإسراء: الآية106)، حتَّى تعلِّم النَّاس.

إذن النُّزول المفرَّق؛ لأجل بناء النَّاس، وتربيتهم، وتعليمهم.
﴿وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ …﴾ (سورة الإسراء: الآية106)، أي: وزَّعناه؛ ﴿… لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ …﴾ (سورة الإسراء: الآية106)، أي: على مهل، ﴿… وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلًا﴾ (سورة الإسراء: الآية106).

من الملاحظ أنَّ النُّصوص القرآنيَّة قد استخدمت تعبيرين:
التَّعبير الأوَّل: نَزَل.
التَّعبير الثَّاني: نَزَّل.
فـ(نَزَل)، أي: نَزَل دفعة واحدة.
التَّنزيل: نزول تدريجيٌّ، فاستعمل معه في إنزاله على رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): ﴿… أَنزَلْنَاهُ …﴾.
لكن بالنِّسبة للأمَّة: ﴿… وَنَزَّلْنَاهُ …﴾.
فـ﴿… أَنزَلْنَاهُ …﴾: دفعة واحدة على النَّبيِّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم).
بينما: ﴿… وَنَزَّلْنَاهُ …﴾، أي: تدريجيًّا.
قال تعالى: ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ …﴾ (سورة الشُّعراء: الآية193 – 194)، فقد نزل بالقرآن الكريم كاملًا، فقد استعمل ﴿نَزَلَ …﴾، ولم يستعمل: (نزَّل).

فـ﴿نَزَلَ …﴾، يعني: نزولًا دفعيًّا، ومرَّة واحدة، حيث: ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ …﴾.

وآية أخرى تقول: ﴿… وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ …﴾ (سورة طه: الآية114).

إنَّ القرآن الكريم عندك، فلا تتعجَّل في طرحه على النَّاس إلَّا إذا بلَّغناك.
فالمقدار الذي نبلِّغك إيَّاه هو الذي توصله للنَّاس.

إنَّ القرآن الكريم كلُّه عندك، فتمهَّل ولا تطرح منه إلَّا بحسب الحاجة، والمناسبات، وحسب التَّكليف السَّماويِّ.

إنَّ الله تعالى هو الذي يُكلِّفك بإبلاغ المقدار الذي تبلِّغه، ﴿… وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ …﴾ (سورة طه: الآية114).

وآية أخرى تقول: ﴿لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ﴾ (سورة القيامة: الآية16-17)
هذا الرأي الأخير – كما قلتُ – يشير إليه أيضًا صاحب الميزان (قدس سرُّه)، ولكن ليس بهذا التَّفصيل، إلَّا أنَّه يلتقي مع هذا الرَّأي، رأي الشَّهيد الصَّدر (قدس سرُّه) في وجود نزولين للقرآن الكريم، وهما: نزول دفعي للقرآن الكريم بكامله، بخطوطه العامَّة على النَّبيِّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)؛ لإعداده (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم).
والنُّزول الآخر، هو النُّزول التَّدريجيُّ؛ لإعداد الأمَّة.

إنَّ السَّيِّد الصَّدر (رضوان الله عليه) – هنا – يؤكِّد في محاضرة له حول نزول القرآن الكريم حول ليلة القدر، فيقول: وكما نزل القرآن الكريم مرَّتين: مرَّة لإعداد القائد، ومرَّة لإعداد الامَّة، فأدَّى دوره العظيم خلال ذلك، فهكذا اليوم يجب؛ لكي يؤدِّي القرآن الكريم دوره من جديد.

إنَّ القرآن الكريم له وظيفتان:
وظيفة إعداد الرَّسول والقائد.
ووظيفة إعداد الامَّة.

فيقول: حينما نعيش ليلة القدر، فلنَعِشْ هذين الهدفين للقرآن الكريم.

ليلة القدر ليلة استذكار الإعداد
فليلة القدر – يا جماعةُ – ليست ليلة قراءة القرآن الكريم، وتهجُّد، ولأجل أنْ نمارس أقصى استنفار فيها – والثَّواب العظيم يتضاعف فيها – فحسب – وإنْ كان ذلك مطلوبًا -!

إنَّ الشَّهيد الصَّدر (قدس سرُّه) يؤكِّد على حقيقة، فيقول: في ليلة القدر يجب أنْ نستذكر هذين الهدفين – الآنفين – للقرآن الكريم.

الارتباط في ليلة القدر بالقرآن الكريم بشكل أعمق وأقوى
بمعنى: ارتبطوا ليلة القدر بالقرآن الكريم، لأنَّها ليلة القرآن الكريم – وإنْ كانْ المطلوب منَّا طيلة السَّنة أنْ نرتبط بالقرآن الكريم – إلَّا أنَّه في شهر رمضان الكريم علينا أنْ نرتبط بالقرآن الكريم بدرجة أكبر، لأنَّه شهر القرآن الكريم، وفي ليلة القدر علينا أنْ نرتبط بالقرآن الكريم بدرجة أعمق وأقوى، لأنَّها ليلة نزول القرآن الكريم.

إذن ضع مشروعك في ليلة القدر في كيفيَّة صياغة علاقتك مع القرآن الكريم.

إذا نجحت في ليلة القدر أنْ تعيد صياغة العلاقة مع القرآن الكريم، فقد نجحت في إحياء ليلة القدر.
وإلَّا قد تبقى طيلة ليلك تتعبَّد، وتركع، وتسجد، وتقرأ أدعية إلَّا أنَّك لم تصنع وجودك وجودًا قرآنيًّا حقيقيًّا! ولم تجدِّر وتعمِّق القرآن في حياتك، في عقلك، في قلبك، في مشاعرك، في كل وجودك.

إذن، ما يجب أنْ تفكِّر فيه بشكل معمَّق في ليلة القدر هو: كيف نعيد صياغة وجودنا القرآنيِّ، فإذا نجحنا في هذه العمليَّة، فنحن أفضل مَن أحيا ليلة القدر.

لربما لا تسهر كثيرًا في قراءة أدعية، إلَّا أنَّك تتعب على برمجة وضعك القرآنيِّ.

برمَجَة دور القرآن الكريم في حياتنا
هكذا اليوم، يجب أنْ يؤدِّي القرآن الكريم دوره من جديد في أنْ ينشِئ القيادة الصَّالحة، ثمَّ الأمَّة الواعية.

هذا هو دور القرآن الكريم.
حاولوا أنْ تبرمجوا علاقتكم في ليلة القدر بالقرآن الكريم.

من الآن فكِّروا كيف تبرمجون علاقتكم مع القرآن الكريم سواء على مستوى التِّلاوة.

أم على مستوى التَّدبُّر القرآنيِّ.
أم على مستوى الانصهار الوجدانيِّ مع القرآن الكريم.
أم على مستوى الممارسات السُّلوكيَّة القرآنيَّة.
أم على مستوى الممارسة الرِّساليَّة القرآنيَّة.
هذه كلُّها عناوين من اللَّازم أنْ نضعها – ونحن نستقبل ليلة القدر -؛ حتَّى نكون قد أحيينا ليلة القدر.

فأعظم مَن يُحيي ليلة القدر هو مَن يستطيع أنْ يُعمِّق علاقته مع القرآن الكريم، يعني مع الله سبحانه.

فبقدر ما تمارس ما يقرِّبك على الله تعالى في ليلة القدر، فأنت من الذين أحيوا ليلة القدر.

ليلة القدر هي إحياء العقل والقلب
لا أدعوك إلى عدم قراءة الأدعية، ولا عدم ممارسة إحياءاتنا المعروفة، لكن احسب حسابك في الإحياء بأنَّك تحيي عقلك، وتحيي قلبك، هذا هو معنى الإحياء.

إنَّ الإحياء هو أنْ نحيي عقولنا إيمانيًّا، وقرآنيًّا، وروحيًّا، وأنْ نحيي قلوبنا، ونحيي أرواحنا، نحيي كلَّ حياتنا من جديد.

بمعنى: أنْ نبعث أنفسنا من جديد في ليلة القدر.
إنَّك طيلة السَّنة تمارس وتشتغل، وتروح، وتشرِّق، وتُغرِّب، فهذه اللَّيلة في السَّنة اجعلها ليلة إعادة تقويم الذَّات.
نعيد تقويم ذاتنا من جديد في هذه اللَّيلة، فإذا نجحنا في إعادة تقويم ذاتنا من جديد في هذه اللَّيلة، فقد نجحنا في إحياء ليلة القدر.
والحمد لله رب العالمين.

الأسئلة المتعلِّقة بحديث اليوم الثالث من رمضان 1439 هـ
س1: ما هي الخطوات العمليَّة التي يتَّخذها الفرد؛ لمحاسبة النَّفس؟
ج1: الخطوة الأولى – في محاسبة النَّفس -: أنْ أُحدِّد وقتًا يوميًّا لمحاسبة النَّفس
حدِّد لك وقتًا، التزم به التزامك بالصَّلاة.
حدِّد الوقت، واختر الوقت الذي تقدر من خلاله أنْ تكاشف نفسك مكاشفة.
اختر مثلًا الفجر، اللَّيل، النَّهار، أي وقت ترى نفسك مفتوحة، غير مرهقة، غير متعبة.
تحديد وقت المحاسبة بأنْ لا يقلَّ ذلك عن نصف ساعة، أو قد يكون أكثر فلا مشكلة في ذلك، وإذا اضطررت لأقل من ذلك فلا مشكلة أيضًا، إذ المهمُّ أنْ تحدِّد وقتًا للمحاسبة.
الخطوة الثَّانية: أنْ أكون صادقًا وجريئًا مع نفسي
لربما واحد يغالط نفسَه!
هذا ليس جريئًا مع نفسه.
فلربما أكون – أنا – لستُ جريئًا مع النَّاس لأنْ أقول: أنا أخطأتُ!
نادرًا مَن يجرؤ أمام النَّاس؛ ليقول: يا ناسُ، إنَّني مخطِئ!
فلربما أنَّنا لا نمتلك مثل هذه الجرأة.
لكن بيني وبين الله سبحانه أَلَا أملكُ هذه الجرأة؟!، فأقول: يا ربُّ، أنا أخطأتُ، وأريد أنْ أصحِّح وضعي؟!
إذن، إنَّ امتلاك الجرأة والشَّجاعة، والصَّراحة مع النَّفس هذا شرط أساس في المحاسبة، وإلَّا كان ذلك مغالطة!
مغالطة مع من؟!، مع الله سبحانه!!
إنَّا لا نقدر على مغالطة الله تعالى.
هذا هي الخطوة الثَّانية.
الخطوة الثَّالثة: أُبَرْمِج المحاسبة
كيف أبرمج المحاسبة؟
إنَّ المحاسبة لها برنامج!
فمثلًا أقول: أنا استيقظتُ في هذا اليوم من النَّوم، وآويت إلى فراشي بعد انتهاء اليوم، ففي مثل هذه الفترة الزَّمنيَّة التي كنتُ فيها مستيقظًا، ماذا فعلتُ؟
أعمل جدولة بـ:
أوَّلًا: قائمة الأعمال الصَّالحة
أجعل قائمة بالأعمال الصَّالحة، مثل:
1- صلَّيت الفرائض الخمس في وقتها.
2- حضرتُ صلاة الجماعة.
3- حضرتُ مجالس القرآن الكريم.
4- صلَّيت صلاة اللَّيل.
5- زرت بعض المؤمنين.
فهذه فهرسة أُسجِّلها لهذه الأعمال الصَّالحة.
ثانيًا: قائمة الأعمال الطَّالحة
أجعل قائمة بالأعمال الطَّالحة، مثل:
1- أنا كذبتُ خمس كِذْبات، في هذا اليوم!
2- اغتبتُ عشر مرَّات!
3- نظرتُ عشرَ نظرات محرَّمة!
4- ظلمتُ إنسانًا.
اُسجِّلها ولو مع نفسي، وليس شرطًا أنْ أكتبها.
ثم آتي لأنظر إلى قائمة الطَّاعات، وقائمة المعاصي، فهل كفَّة المعاصي هي التي زادت، أم كفَّة الحسنات هي التي زادت؟
إنَّ بعض المعاصي قد تنسف كلَّ الحسنات!، فـ: “قال النَّبيُّ (صلَّى الله عليه وآله): مَن اغتاب مسلمًا، أو مسلمة لم يقبل الله صلاته، ولا صيامه أربعين يومًا وليلة، إلَّا أنْ يغفر له صاحبه”.( )
أُبرمج جلسة المحاسبة، وأجعل قائمة الأعمال الصَّالحة، وقائمة الأعمال الطَّالحة أمامي، فإذا رجحت كفَّة الأعمال الصَّالحة، فأقول: الحمد لله، فيومي كلُّه أعمال صالحة، ولا توجد عندي أعمال طالحة.
إنَّ الذي يُحاسب نفسه، ولا يجد عنده معاصي في هذا اليوم، فهو إنسان موفَّق.
وعلى العكس من ذلك سيكون سيِّئًا!، عندما يرى يومه كلَّه معاصي، وطاعته قليلة.
وأحيانًا تتساوى المعاصي مع الطَّاعات.
إذن نحتاج إلى برمجة: في الذهن، أو في دفتر، فمثل هذا شيئ يرجع إليك في كيفيَّة البرمجة.
الخطوة الرَّابعة – في المحاسبة -: أنْ أتخذ قرارًا في نهاية المحاسبة
بأنِّي سأبدأ يومًا جديدًا، ولن أترك مجالًا للشَّيطان في حياتي في هذا اليوم.
أتخذُ القرار – والله مطَّلع على قراري -، فهل أنا صادق؟
هل أنَّني أريد أنْ أغالط نفسي؟، أم أغالط الله سبحانه؟
فإذًا جلسة المحاسبة تحتاج إلى مجموعة شروط، فإذا ما توافرنا عليها ستكون جلسة حقيقيَّة، وقادرةً أنْ تعالج أوضاعنا.

س2: هذا ما يتعلَّق بمحاسبة اليوم، ماذا عن محاسبة ما مضى؟، صلوات فائتة، أعمال عباديَّة من حقوق شرعيَّة، حقوق النَّاس، وما شابه ذلك؟
ج2: نعم، من اللازم أنْ يجعل الإنسان له برمجة، برمجة تتَّصل باليوم، وبرمجة تتَّصل بالأسبوع، بالشَّهر، بالسَّنة.
توجد معاصٍ وذنوب قد مارستُها من سنين، ولا زلتُ أمارسها!
فهذه المحاسبة لا تخصُّ يومًا.
فمثلًا:
– أنا أمارس ظلمًا للنَّاس.
حياتي مملوءة بالظُّلم للنَّاس.
– لا أُؤَدِّي حقوقًا شرعيَّة منذ سنين!
فمثل هذا الأمر قد أحتاجُ فيه إلى جلسة محاسبة مع عالم، وأقول له – مثلًا -: إنَّني منذ أنْ بلغتُ إلى الآن لم أُخرج الخمسَ!
وقد يسألني: أليس لديك فائض؟
فطيلة هذه السِّنين ألم يفض مالُك سنويًّا؟
وقد أجيبه: لا والله، فمنذ أنْ أحصل على الرَّاتب ينتهي حتَّى لا يكاد أصل لنصف الشَّهر!
فلربما – من خلال ذلك – لا يجب عليك حقٌّ شرعيٌّ.
أنت لا تخف أنْ تجلس جلسة محاسبة لخمسك، لزكاتك، فلربما تكون مُبرأ الذِّمَّة، ولا يجب عليك شيئٌ!
ومن الممكن أنْ تكون عليك حقوق، فيجدر بك أنْ ترتِّب حساباتك؛ لكيفيَّة تسديد حقوقك.
فهذه الأعمال لا تتَّصل باليوم والشَّهر، هذه تتَّصل بحياة وعمر الإنسان.
فالمحاسبة – إذن – لها بُعد يوميٌّ، ولها بُعد أسبوعيٌّ، وشهريٌّ، وسنويٌّ.
فمثلًا: أنا الآن عمري خمسين سنة.
أخصم 15 سنة ما قبل البلوغ، فالباقي 35 سنة، فهل في هذه الـ 35 سنة صلواتي كلُّها صحيحة؟
هل صيامي كلُّه صحيح؟
فلعلَّني فترة من الزَّمان لم أصم، أو فترة من الزَّمان لم أُصلِّ، أو فترة مرَّت لم أكن أعرف أحكام الصَّلاة، فأحتاج إلى أن أبرمج وقتًا لإعادة الصَّلوات، لقضاء الصِّيام، لأداء الحقوق، لمعالجة الخلافات مع الآخرين.
هذه كلُّها محاسبة، ولكنَّها ليست محاسبة في إطار اليوم، ولا في إطار الشَّهر، بل في إطار العمر كلِّه!، وبهذا نكون قد عشنا محاسبة حقيقيَّة لكلِّ واقعنا.

س3: السَّائل يقول: هناك غزو ثقافيٌّ كبير من قبيل مسلسلات وبرامج تلفزيونيَّة لا تتعلَّق بالشَّهر، وتستقطب الكثيرين، ما هو دور المؤسَّسات الدِّينيَّة؛ لمجاراة كلِّ ذلك، والخروج عن مألوف جذب الفئة التي تجذبها هذه البرامج التَّلفزيونيَّة؟
ج3: لربما إنَّنا لا نقدر على منافسة البرامج التِّلفازيَّة.
ونغالط أنفسنا إذا نقول: نقدر على منافستها.
فنحن لا توجد عندنا برامج قادرة على أنْ تنافس برامج التِّلفاز.
للأسف الشَّديد صار شهر رمضان موسمًا للمسرحيَّات، للرَّقص، للأغاني، للهو!
فبدل أنْ تتحوَّل برامج هذا الشَّهر إلى برامج روحيَّة، تربويَّة، أخلاقيَّة صارت بلداننا الإسلاميَّة تتنافس على الرَّاقصات، والمغنِّيات.
إنَّ أرقى الرَّاقصات، وأرقى المغنِّيات يخصِّصونهنَّ لشهر رمضان!!
هذا واقعنا، ولا نقدر نغيرِّه نحن؟!
يبقى الخطاب للقنوات الإسلاميَّة الدِّينيَّة الإيمانيَّة، والذين يُشرفون عليها هم أُناس صلحاء، وهذه – القنوات أيضًا – دورها هو إيجاد برامج تحاول أنْ تجتذب جمهورنا.
المطلوب من أصحاب القنوات الملتزمة أنْ تطوِّر برامجها فيما هي البرامج، والمسرحيَّات، والفقرات، تطوِّرها بطريقة تقدر على أنْ تجتذب شبابنا، وفتياتنا، وناسنا، وجماهيرنا، هذا دور مؤسَّسات إعلاميَّة، وتلفازيَّة، وإذاعيَّة.
ومطلوب أيضًا من أصحاب الخطاب الدِّينيِّ: خطباء منبر، علماء دين، مثقفون أنْ يطوِّروا خطابهم بالطَّريقة التي يقدر – الخطاب – أنْ يجتذب الجمهور، فإنَّ الخطاب الآخر قد يكون أقدر على اجتذاب النَّاس.
إنَّنا محتاجون أنْ نطوِّر لغتنا، ونطوِّر أسلوبنا، ونطوِّر خطابنا علَّنا نقدر أنْ نحتضن مساحة من شارعنا، ومن جمهورنا، ومن ناسنا.
إنَّ الكثير من الناس يقول: إنَّي أرتاح عندما أجلس أمام التِّلفاز، وقد أحصل على برامج، ولكن عندما أحضر إلى المسجد، أو المأتم لا أرى برامج تجتذبني!
لربما هذا الكلام صحيحًا، ولذا أقول: إنَّنا من اللَّازم علينا أنْ نطوِّر برامجنا الدِّينيَّة، وحتَّى برامجنا المسجديَّة بأيِّ طريقة من الطُّرق، وشهر رمضان فرصة لذلك.
فالنَّاس في شهر رمضان مهيَّاة، ولذا نرى الحشد الكبير من حضَّار المساجد في شهر رمضان يختلف عن بقيَّة الأشهر، خاصَّة في ليالي القدر، وليالي المناسبات.
إنَّ مثل هذا الحضور لا بدَّ أنْ يستثمر، ولازم أنْ يُوظَّف.
يوجد خطاب، ولغة خطاب، وأسلوب خطاب.
فإذن هذه مسؤوليَّة الخطاب، ولعلَّنا بذلك نستطيع قليلًا أنْ نحتضن، ونلامس هموم النَّاس.
فمثلًا يمكن أنْ يقول قائل: أنا أحضر المسجد، وأحضر المأتم، والحديث كلُّه عن الصَّلاة، والصِّيام، ولم أرَ أنْكم تتحدَّثون عن هموم العامل العاطل الذي ليس لديه عمل!، أو عن هموم النَّاس التي لا تمتلك سكنًا، أو عن هموم النَّاس التي ليس عندها شيئ يطمئنهم في هذه الحياة، أو عن مشاكل الشَّباب، ومشاكل المراهقين.
هذا إنسان عنده هموم.
لكن أنا عندما آتي لأتحدث لا أتحدَّث إلَّا عن الصَّلاة، وعن الصِّيام، وعن الحجِّ، وعن، وعن، وعن، …!
إنَّ هذا الإنسان – أصلًا – نفسُه فيها عزوف، فمثل هذا الإنسان مشغول بهموم أخرى!
إنَّ الحديث عن هموم النَّاس، وقضايا النَّاس، وخاصَّة هموم الشَّباب، وقضايا الشَّباب هي وسيلة من وسائل اجتذاب الشَّباب، فحينما يسمع الشَّابُّ أنَّ اليوم توجد محاضرة لعالم حول الهموم الجنسيَّة عند الشَّباب، عن الهموم الجنسيَّة للشَّباب، أو عن هموم المراهقين، فهذه العناوين تجتذب جيلنا، وتجتذب شبابنا.
إذن نحن محتاجون أنْ نطوِّر لغة الخطاب، وأسلوب الخطاب، ومضامين الخطاب.

س4: مع احترامي لأكثر الإخوة من العاملين، ففي بعض الأوقات يأتي شخص في مناسبة ما، أو بعد الصَّلاة – مثلًا -، فيلقي كلمةً، أو يعالج مسألة شرعيَّة، وفي نفس الوقت هو يفتقد لطريقة الإلقاء، وطريقة الخطاب، أو البلاغة، وأثناء طرحه للسُّؤال، أو القضيَّة التي يثيرها تجد أنَّه يردِّد جملة واحدة مرَّات متعدِّدة أكثر من السُّؤال، أو القضيَّة التي يريد معالجتها، فلماذا لا يحاول أنْ يطوِّر من نفسه، ويرفع مستواه في الإلقاء، والبلاغة في الطَّرح، ومعالجة القضايا المختلفة؟
ج4: لا شكَّ أنَّ أسلوب الخطاب، ولغة الخطاب لهما أثر في اجتذاب النَّاس.
فيمكن أنْ يكون أسلوبنا واللُّغة التي نتحدَّث بها قبل خمسين سنة – مثلًا – يختلفان عمَّا هما عليه اليوم، أمَّا اليوم فالشَّاب قد تربَّى على مفردات صُحُف، وإذاعات، ومجلَّات.
فالمفردات التي نأتي بها يجب أنْ تكون قادرةً على أنْ تصل إلى عقل المستمع.
فإنَّك لو تحدَّثت بأبلغ لغة إلَّا أنَّها غير متناغمة مع لغة النَّاس، فلن يلتفتوا إلى ما تقول! وكما يقول السَّيِّد الصَّدر (قدس سرُّه): لماذا أبناؤنا انحرفوا؟، فيجيب: لأنَّنا نخاطبهم بلغة الأجداد!
هذا الجيل اليوم يحتاج إلى لغة أخرى، فحتى على مستوى المفردة، فإنَّه يحتاج إلى مفردة جديدة، فمَن تخاطبه بلغة أجدادك – هذا إذا كان عندك لغة الأجداد! – يحتاج إلى لغة جديدة يفهم من خلالها ما ترمي إليه.
إنَّ بعضنا لا يمتلك لا لغة الأجداد، ولا لغة الأبناء، ولذلك تنفر النَّاس.
هذه – طبعًا – مسؤوليَّة الحوزات العلميَّة في تخريج علماء، وأئمَّة مساجد، ومبلِّغين، ومسؤولين عن المنبر الحسيني.
بمعنى: إنَّه لا يصحُّ لكلِّ واحد أنْ يتصدَّى، ويتحدَّث.
فلا بدَّ من إعداد ذاتيٍّ، بحيث يملك المتحدِّث كفاءات الخطاب، ومضامين الخطاب، ولغة الخطاب، وأدوات الخطاب.
فما تذكره – أيُّها السائل – صحيح جدًّا.
إنَّ بعض النَّاس يشتكون من هذه الظَّاهرة، فإذن هي مسؤوليَّتنا نحن كعلماء، ومسؤوليَّة حوزاتنا، ومسؤوليَّة منابرنا بأنْ يطوِّروا الأداء في الخطاب الدِّينيِّ.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى