المفاهيم الإسلاميةمحاضرات إسلاميةملف شهر شعبان

على أعتاب الشَّهر الفضيل

هذه الكلمة للعلَّامة السَّيِّد عبد الله الغريفي، ألقيت للتهيئة لشهر رمضان المبارك 1442هـ، وقد تمَّ بثُّها عبر البثِّ الافتراضيِّ في يوم الاثنين (ليلة الثلاثاء) بتاريخ: (29 شعبان 1442 هـ – الموافق 12 أبريل 2021 م)، وقد تمَّ تفريغها من تسجيل مرئيٍّ، وتنسيقها بما يتناسب وعرضها مكتوبةً للقارئ الكريم.

على أعتاب الشَّهر الفضيل

أعوذ باللَّه السَّميع العليم من الشَّيطان الغوي الرَّجيم
بسم الله الرَّحمن الرَّحيم
الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، وأفضلُ الصَّلوات على سيِّدِ الأنبياء والمرسلين سيدنا ونبينا وحبيبنا وقائدنا محمَّدٍ، وعلى آلِهِ الطيبين الطاهرين.

عنوان الكلمة: على أعتاب الشَّهر الفضيل
ونحن نقترب من الشَّهر الفضيل نحتاج إلى وقفاتٍ تهيِّئنا للتَّعاطي مع هذا الموسم العظيم، وبقدر ما تكون هذه الوقفات (جادَّة) و(صادقة) و(واعية) يكون التَّعاطي أكثر فاعليَّة.
فنحن بحاجة إلى استنفار القدرات والطاقات.
وهنا تأتي مسؤوليَّة الخطاب الدِّيني، والمنبر الدِّيني في التَّهيئة لهذا الشَّهر الفضيل.
وهذه بعض كلمات:

الخطبة الرَّمضانيَّة للنَّبيِّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)

أحبَّتي اقرأوا الخطبة الرَّمضانيَّة للنَّبيِّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم).
هناك خطبة رمضانيَّة خطبها النَّبيُّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) في آخر جمعة من شعبان، يهيِّئ فيها المسلمين لاستقبال الشَّهر الفضيل.
الخطبة موجودة في (مفاتيح الجنان) في بداية باب شهر رمضان، يمكن أن تُقرأ الخطبة هناك.

مضامين خطبة النَّبيِّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)

اقرأوا الخطبة الرَّمضانيَّة للنَّبيِّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، فهذه الخطبة تضعنا أمام مجموعة مضامين، فهي خطبة غنيَّة بالمضامين، والأفكار، والمفاهيم، والتَّوجيهات، والتَّوصيات، وأشير هنا إلى بعض مضامين هذه الخطبة الرَّمضانيَّة للنَّبيِّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم):
المضمون الأوَّل: شهر رمضان يمثِّل موسمًا استثنائيًّا
تحدَّث النَّبيُّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) عن شهر رمضان وأنَّه شهر يمثِّل موسمًا استثنائيًّا،
شهر رمضان ليس موسمًا عاديًّا، فهو:
‌أ-شهر الضِّيافة الرَّبَّانيَّة: «شهر دُعيتم فيه إلى ضيافة الله»
(الصَّدوق: الأمالي، ص 154)
النَّبيُّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) في خطبته سمَّى هذا الشَّهر بشهر الضِّيافة الرَّبَّانيَّة.
فهو اسم كبير وعظيم جدًّا أن يُطلق على شهر رمضان شهر الضِّيافة الرَّبَّانيَّة.
نحن ضيوف الله في كلِّ الأشهر، وفي كلِّ الأزمان، الإنسان في هذه الحياة هو ضيفٌ عند الله، يعيش كلَّ عطاءات الله، وكلَّ كرم الله، وكلَّ فيض الله، لكن شهر رمضان سُمِّي شهر الضِّيافة؛ لخصوصيَّة ومكانة وعظمة الشَّهر.
ولذلك سمَّاه الرَّسول شهر الضِّيافة، «شهر دُعيتم فيه إلى ضيافة الله».
هذا اسم، وعنوان أطلقه النَّبيُّ على هذا الشَّهر.

‌ب- شهر الله: «أقبل إليكم شهر الله»
النَّبيُّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) أطلق على هذا الشَّهر (شهر الله).
طبعًا كلُّ الأشهر لله، وكلُّ الأزمان لله، وكلُّ الأوقات لله، لكنَّ شهر رمضان له خصوصيَّة.
كما أنَّ شعبان شهر رسول الله (صلَّى الله عليه وآله)، وكما أنَّ رجب شهر أمير المؤمنين (عليه السَّلام)، فشهر رمضان هو (شهر الله).
هذا اسم وعنوان آخر يؤكِّد المعنى الكبير للشَّهر الفضيل.
«أقبل إليكم شهر الله بالبركة والرَّحمة والمغفرة».

‌ج-شهر تُفتح فيه أبواب الجنان، وتُغلق أبواب النِّيران، وتُغلُّ الشَّياطين
ثمَّ تحدَّث (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) أيضًا عن مقام هذا الشَّهر، وقيمة هذا الشَّهر، فقال (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): «إنَّ أبواب الجنان في هذا الشَّهر مُفتَّحة، فاسألوا ربَّكم أن لا يُغلقها عليكم، وأبواب النِّيران مغلقة، فاسألوا ربَّكم أن لا يفتحها عليكم، والشَّياطين مغلولة فاسألوا ربَّكم أن لا يُسلِّطها عليكم». (الصَّدوق: الأمالي، ص 155)
فهو شهر تُفتح فيه أبواب الجنان، وتُغلق أبواب النِّيران، وتُغلُّ الشَّياطين.

‌د-شهر يُضاعف فيه الثَّواب والأجر
كما سنرى – إن شاء الله في مقطع قادم -، كيف أنَّ الثَّواب في شهر رمضان يتضاعف، كثواب الصَّلاة، وثواب الذِّكر، وثواب الدُّعاء، وثواب التِّلاوة، وثواب الصَّدقة، وثواب أيِّ عمل خيري في شهر رمضان.
هذا المضمون الأوَّل الذي لامسته خطبة النَّبيِّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، وهو التَّذكير بقيمة وأهمِّية شهر رمضان.

المضمون الثَّاني: التَّوظيف الجادُّ لأوقات هذا الشَّهر
الخطبة النَّبويَّة تحاول أن توظِّف أوقات المسلمين في هذا الشَّهر.
كيف نوظِّف أوقاتنا في شهر رمضان؟
كيف نبرمج لأوقاتنا في شهر رمضان؟
كيف نضع خطواتنا في شهر رمضان بشكل مدروس؟
لا نتعامل مع الشَّهر تعاملًا عشوائيًّا، ولا نتعامل مع الشَّهر بطريقة اللا مبالاة.
ولذلك أنا أصنِّف النَّاس في تعاملهم مع شهر رمضان إلى ثلاث فئات.
أُصنِّف النَّاس المسلمين المؤمنين بالشَّهر وبالصِّيام، ولا أتحدَّث عن النَّاس الذين لا يؤمنون بالدِّين ولا بالإسلام ولا بالصِّيام، وإنَّما أتحدَّث عنَّا نحن الذين نؤمن بالدِّين، ونؤمن بالصِّيام، ونؤمن بهذا الشَّهر الفضيل.
أنا أصنِّف النَّاس الذين يؤمنون بشهر رمضان وبالصِّيام إلى ثلاث فئات.
ما هي هذه الفئات الثلاثة؟
الفئة الأولى: المحرومون
يوجد نمط من النَّاس وهم كثيرون، يُفرِّطون في أوقات هذا الشَّهر تفريطًا كاملًا وهم المحرومون.
يهملون التَّعاطي مع هذا الشَّهر بجديَّة، وبصدق، وبعمل، وبنشاط، وإنَّما يوجد تفريط واضح.
تمرُّ الأوقات، وتمرُّ السَّاعات، وهم لا يمارسون عملًا مستحبًّا، وربَّما يقتصرون على الحدِّ الأدنى كما في غيره من الشُّهور، يعني لم يتغيَّر شيئٌ عندهم.
هؤلاء المفرِّطون هم المحرومون من عطاءات هذا الشَّهر.
•ولذلك الحديث يقول: «فإنَّ الشَّقي من حُرم غفران الله في هذا الشَّهر». (الصَّدوق: الأمالي، ص 154)
يدخل عليه شهر رمضان ولا يُغفر له، فهذا من أشقى الأشقياء، لا توجد فرصة أثمن من هذه الفرصة للمغفرة، وللتوبة، وللعودة إلى الله.
إذا لم يقدر الإنسان أن يعود إلى الله في شهر رمضان، فمتى يعود؟!
إذا لم يقدر الإنسان أن يتوب إلى الله في شهر رمضان، فمتى سيتوب؟!
إذا لم يقدر الإنسان أن يقترب من الله في شهر رمضان، فمتى سيقترب؟!
ولذلك فهذا شقي، الذي لا يستطيع أن يقترب من الله، وأن يتوب، وأن يعمل في شهر رمضان، هذا شقيٌّ، «فإنَّ الشَّقيَّ من حُرم غفران الله في هذا الشَّهر».
حديث آخر يقول: «من انسلخ من شهر رمضان ولم يغفر له فلا غفر الله له» (ابن طاووس: إقبال الأعمال 1/454)
«من أدرك شهر رمضان ولا يتوب، فلا غفر الله له» (النوري: مستدرك الوسائل7/435)
متى سيُغفر للإنسان؟
إذا أدرك هذا الشَّهر الفضيل العظيم بكلِّ عطاءاته، وبكلِّ انفتاحاته، وبكلِّ بركاته وخيراته ولم يُغفر له، فمتى سيُغفر له؟
«من انسلخ من شهر رمضان ولم يغفر له فلا غفر الله له» (ابن طاووس: إقبال الأعمال 1/454)
عن النَّبيِّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): «…، من أدرك والديه ولم يؤدِّ حقَّهما فلا غفر الله له، …، من ذُكرتَ عنده فلم يصلِّ عليك فلا غفر الله له، …، ثمَّ قال: من أدرك شهر رمضان ولا يتوب فلا غفر الله له، …». (البروجردي: جامع أحاديث الشِّيعة 9/33، ب48، ك577)
اللَّهمَّ صلِّ على محمَّد وآل محمَّد.
هذه مواطن، ومواقع لغفران الله، فشهر رمضان شهر الغفران والرَّحمة والكرم الإلهي.
فالذين يُحرمون من هذا العطاء الإلهي في شهر رمضان هم أشقياء، وهم محرومون.
هذه فئة من النَّاس هكذا يتعاملون مع الشَّهر، فيكونوا من المحرومين.

الفئة الثَّانية: المغبونون
نسبة كبيرة من النَّاس يعيشون العفويَّة في التَّعاطي مع أوقات هذا الشَّهر فيخسرون أرباحًا كبيرة، هؤلاء هم (المغبونون)
صحيح يعملون لكن بعفوية، بلا برمجة، ولا تخطيط، ولا توظيف جادٍّ.
يصلِّي بعض الصَّلوات، ويمكن أن يضيف نوافل، ويمكن أن يقرأ بعض آيات، لكن لا توجد حالة استثنائيَّة.
هؤلاء ليس بمستوى الفئة الأولى الذين هم الخاسرون، لا، بل عندهم أرباحًا لكن أرباحهم قليلة، لم يستفيدوا من الموسم في أرباحه الكبيرة، حصلوا على بعض أرباح.
الله وضعنا أمام أرباح هائلة في شهر رمضان، مليارات الأرباح من الحسنات، أنا أقول لا، أكتفي بعشر حسنات، مائة حسنة، ألف حسنة، عشر آلاف حسنة.
مليارات المليارات من الحسنات مفتوحة أمامي، لماذا أخسرها؟
إذن هذه فئة هي تعمل لكن بمستوى متدنِّ، وبمستوى محدود بحيث تكون الأرباح محدودة.
هؤلاء هم المغبونون، المغبون الذي يبيع بسعر أقل ويشتري بسعر أكثر، هذا مغبون.
نحن في تجارتنا مع الشَّهر الفضيل إذا لم نستفد الاستفادة الكبرى، فنحن مغبونون.

الفئة الثَّالثة: الفائزون الرَّابحون
الفئة الثالثة وهم قليلون، هم الذين يستنفرون كلَّ طاقاتهم في استثمار أوقات هذا الشَّهر الفضيل، هؤلاء هم (الفائزون الرابحون)
يحرِّك طاقاته الفكريَّة والنفسيَّة والوجدانيَّة والعمليَّة، ويحرِّك برامجه بشكلٍ واسع وبشكلٍ كبير؛ حتى يستفيد من هذا الشَّهر الفضيل، هؤلاء قلَّة الذين يستنفرون كلَّ طاقاتهم، وكلَّ قدراتهم، وكلَّ أوقاتهم في استثمار هذا الشَّهر، هؤلاء هم الفائزون.

ضرورة البرمجة للاستفادة من هذا الموسم الرَّبَّاني الكبير
أحبَّتي نحن مطلوب منَّا في هذا الشَّهر أن نبرمج للاستفادة من هذا الموسم الرَّبَّاني الكبير، ولا نتعاطى مع الشَّهر بعفويَّة وبلا مبالاة.
كيف تبرمج لعملك الدُّنيوي؟
كيف تبرمج لحركتك مع النَّاس؟
كيف تبرمج في داخل أسرتك؟
برمج برمجة مدروسة واعيةً شاملةً لهذا الشَّهر، لا يدخل الشَّهر وأنا لست مخططًا له، أعتمد ورقة وقلم وأضع برنامجي لشهر رمضان، قد برنامجي الآن يختلف في ظل ظروف استثنائيَّة، لكنَّ المهم أنْ أبرمج، أبرمج لعلاقتي مع الشَّهر؛ حتى أستفيد من شهر رمضان استفادة كبيرة وواسعة جدًّا ومدروسة، لا أعيش اللامبالاة، ولا أعيش التَّفريط.

ماذا تعني البرمجة؟
اليوم لغة البرمجة سائدة، عنوان عصري واضح ومشتهر.
البرمجة هي تنظيم الوقت والجهد.
أنا عندي وقت، وعندي فائض من الوقت فأبرمج لهذا الوقت.
عندي أربعًا وعشرين ساعة فأبرمجها، كم ساعة للنَّوم، كم ساعة للأكل، كم ساعة للعبادة، كم ساعة للعلاقة مع النَّاس، هذه برمجة للوقت.
إذن عندي وقت، فأبرمج وأخطِّط كيف أوظِّف هذا الوقت.
وكذلك الجهد يحتاج إلى برمجة، فلدي طاقة فكريَّة ثقافيَّة، وطاقة نفسيَّة وجدانيَّة، وطاقة سلوكيَّة، وطاقة أخلاقيَّة، وطاقة رساليَّة، هذا الجهد يحتاج إلى برمجة.
أبرمج الوقت وأبرمج الجهد، هذا يسمَّى برمجة.
وكيف تكون البرمجة؟
كيف أبرمج جهدي، وكيف أبرمج وقتي؟
البرمجة تُحدَّد من خلال ثلاث فقرات:
أوَّلًا: تحديد الهدف
ما هو هدفي؟
ما هو الهدف من التعاطي مع شهر رمضان؟
إذا كان هدفي العبادة، وتلاوة القرآن، والذِّكر، وخدمة النَّاس، والعمل الاجتماعي، والعمل الرِّسالي، فإذن يوجد عندي هدف.
أنا حينما أريد أبرمج وقتي، وأبرمج جهدي، أضع أوًّلًا الهدف، أين أريد الذهاب؟
أنت – الآن – كما تبرمج لأعمالك الدُّنيويَّة بعد أن تحدِّد الهدف تحاول أن تبرمج.
إذن، لكي نبرمج أوقاتنا، ولكي نبرمج جهودنا نحتاج إلى أن نحدِّد الهدف، ما هو هدفنا من البرمجة؟

ثانيًا: تحديد الخطوات
النقطة الثانية بعد أن أحدِّد الهدف، أحدِّد الخطوات.
كيف أصل إلى الهدف؟
أنت الآن عندما تريد أن تتحرَّك من بيتك، تكون قد حدَّدت لك هدفًا، فعندما تقصد مكانًا معيَّنًا، فالوصول إلى هذا المكان يحتاج إلى خطوات، مثلًا تصعد سيارة، أو تمشي، هذه خطوات في طريق الهدف.
إذن، نحن نحدِّد هدفنا في التَّعاطي مع الشَّهر الكريم، ثم نحدِّد الخطوات.
كم خطوة أحتاج إلى أن أصل إلى الهدف؟
ثلاث خطوات، عشر خطوات، عشرين خطوة، مائة خطوة، كم خطوة؟
أنا حدَّدت الهدف، لكن ينبغي أن تكون الخطوات إلى الهدف واضحة.
ربما البعض يحدِّد الهدف لكن لا يحدِّد الخطوات، والنتيجة أنَّه يرتبك، لا يستطيع الوصول إلى الهدف، كيف أصل إلى الهدف وأنا لم أحدِّد الخطوات.
إذن، إذا تمَّ تحديد الهدف، وكذلك تمَّ تحديد الخطوات، فنحتاج أيضًا إلى شيئ ثالث.

ثالثًا: تحديد الوسائل
قد يكون الهدف معروفًا، والخطوات معروفة، لكن ما هي الوسائل التي اعتمدها في خطواتي في الوصول إلى الهدف؟
أصعد سيارة، أمشي على قدمي، ما هي الوسائل؟
فإذا حدَّدنا الهدف، وحدَّدنا الخطوات، وحدَّدنا الوسائل، فقد برمجنا لمشروعنا الرَّمضاني.
ثقافة البرمجة ضرورة في هذا العصر الذي ازدحمت فيه القضايا.
والإسلام سبق إلى تنشيط عقل البرمجة وذهنيَّة البرمجة.
فالإنسان في المنظور الدِّيني محاسب عن طاقاته وقدراته وأوقاته.
كلُّ مناهج البرمجة الدنيويَّة والعصريَّة لا ترتقي إلى مستوى البرمجة الإيمانيَّة؛ لأنَّ البرمجة الإيمانيَّة فيها محاسبة أخرويَّة، فهناك سيحاسبنا الله على طاقاتنا، وسيحاسبنا الله على قدراتنا، وسيحاسبنا الله على أوقاتنا.
في الدنيا يمكن أن يحاسبك النَّاس، أو النَّفس، أو الأسرة.
لكن أنت أمام برمجة إلهيَّة، توجد محاسبة ربَّانيَّة كبرى، الله سيحاسبك يوم القيامة أين صرفت طاقاتك؟، أين صرفت قدراتك؟ أين صرفت أوقاتك؟ إذن أنت أمام محاسبة عظمى.
إذن هذه تنِّشط في داخلك حركة البرمجة.
لأنِّي محاسب عن وقتي، يجب أن أبرمج وقتي.
لأنِّي محاسب عن جهدي، يجب أن أبرمج جهدي.
لأنِّي محاسب عن قدراتي، يجب أن أبرمج قدراتي.
•ولذلك الحديث يقول: «يا أبا ذر، اغتنم خمسًا قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحَّتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك». (الطُّوسي: الأمالي، ص 556)
«اغتنم خمسًا قبل خمس: شبابك قبل هرمك»
ما دمت في منتهى القوَّة والقدرة والنشاط والشَّبابيَّة، استفد من هذا العمر.
إذا وصلت لمرحلة الكهولة ومرحلة الشَّيخوخة، عندها تضعف القدرات، وتضعف الطَّاقات، وتضعف الإمكانات.
أنت ما دمت شابًّا وتملك طاقات وقدرات، فوظِّفها.
ستُسأل عن هذه الطَّاقات، وستُسأل عن هذه القدرات.
استفد من المرحلة الشَّبابيَّة، فهي ذروة الطَّاقات، وذروة القوى.
«اغتنم خمسًا قبل خمس شبابك قبل هرمك»
حتى لا تتأسَّف بعد ذلك وتقول: يا ليتني استفدت من شبابي ووظفت طاقاتي، ووظفت قدراتي،
«شبابك قبل هرمك».
«وصحتك قبل سقمك»
ما دمت تملك صحَّة فوظِّفها، فقد يأتي يوم أصبح مريضًا، وقد يأتي يوم أبقى ملقى على الفراش، وقد يأتي يوم تنشل قُدُراتي.
إذن ما دمت أملك طاقة وصحَّة فعليَّ أن أوظِّفها، وكل ما أتمكن من استنفار طاقتي بشكل مدروس، فعليَّ استنفارها.
حتى لا يأتي يوم من الأيام تتعطَّل فيه هذه الطَّاقات، أصاب بشلل، أصاب بمرض، وأتأسَّف وأقول: يا ليت طاقاتي وظَّفتها، يوم كنت في صحَّتي لم أعمل، الآن أنا عاجز، الآن أنا مريض، الآن أنا سقيم، قد ذهبت طاقاتي، وذهبت قدراتي.
إذن، «وصحَّتك قبل سقمك»
«وغناك قبل فقرك»
إذا كنت تملك طاقات ماليَّة فوظِّفها، فقد يأتي يوم تفقد فيه القدرات الماليَّة، وقد يأتي يوم تصبح فقيرًا، فليس دائمًا الغِنى يبقى، وليس دائمًا المال يبقى، وليس دائمًا الثروة تبقى، فكم من غني أصبح فقيرًا، وكم من ثري أصبح معدمًا.
إذن، ما دمت أملك مالًا، فلأوظِّف هذا المال في ما يُرضي الله، وفي طاعة الله.
إذن، «وغناك قبل فقرك»
«وفراغكَ قبل شغلك»
ما دمتَ تملك فائضًا من الوقت فوظِّفه، فقد يأتي يوم تزدحم عندك الأمور ولا يكون عندك وقت، فقد تنشغل بحيث لا تتمكَّن أن توظِّف وقتك.
الآن ما دام عندك فائض من الوقت وظِّفه، لا يذهب الوقت منك هباء، فأنت مسؤول عن اللحظة، ومسؤول عن الدَّقيقة، ومحاسب عليها، فيوجد من يحاسبك، فإنَّ أيَّ لحظة من لحظات حياتي مسجَّلة، سواء كانت في خير، أم في شر، أم في طاعة، أم في معصية، أم في رضا الله، أم في غضب الله، فإنَّ أيَّ لحظة، أيَّ ثانية، أيَّ دقيقة، أيَّ ساعة مسجَّلة.
إذن ما دمت أملك فائضًا من الوقت وأملك فراغًا، فلأوظِّف هذا الفائض وهذا الفراغ قبل أن أنشغل فلا أستطيع أن أوظِّف شيئًا.
«وحياتك قبل موتك»
أنت الآن في الدُّنيا، أنت الآن ما دمت تعيش الحياة، فإنَّك تستطيع أنْ تعمل.
ولكن عندما يقف القلب، وتُنزع الروح، ويموت الإنسان، فإنَّه ينتهي كلُّ شيئ، فلا يوجد مجال للعمل، عندها تقول: يا حسرتاه على ما فرَّطت، وتقول في ذلك الوقت: أنا فرَّطت في حياتي، وفرَّطت في طاقاتي، وفرَّطت في قدراتي، ولاتَ ساعة مندمِ، فإذا قُبِضت الرُّوح فحينها لا توجد رجعة.
إذن، ما دمت الآن تملك نبض الحياة، ووقدة الحياة، ونشاط الحياة، وقدرات الحياة، فأعطِ.
لاحظوا الإسلام يريد منك أن تعمل حتى في آخر لحظة من حياتك.
في الحديث عن رسولُ اللهِ (صلَّى الله عليه وآله): «إنْ قامَتِ السَّاعةُ وفي يَدِ أحَدِكُم فَسِيلَةٌ، فإنِ استَطاعَ أن لا يَقومَ حتَّى يَغرِسَها فَلْيَغرِسْها». (الرَّيشهري: ميزان الحكمة5 /480، ح9312)
لا يقول: قد قامت القيامة، بل عليه أن يغرس الفسيلة.
لاحظوا الإسلام يريد منَّا أن نوظِّف كلَّ لحظة.

الرِّوايات تؤسِّس للبرمجة
عندنا روايات كثيرة علَّمتنا كيف نبرمج وقتنا، فنحن اليوم لم نأخذ البرمجة من الشَّرق والغرب، بل ديننا، وإسلامنا، ورواياتنا، وأحاديثنا، وتوجيهات الرَّسول (صلَّى الله عليه وآله)، وتوجيهات الأئمَّة (عليهم السَّلام)، علَّمتنا كيف نبرمج الأوقات، فنحن لسنا محتاجين أن نستلم مناهج برمجة من الشَّرق والغرب، لا مانع أن أستفيد من برامج البرمجة الحديثة في كلِّ أدوات الحياة، لكن قد أسِّس لروح البرمجة في ديننا وإسلامنا.
أذكر لكم هذه الرِّواية، عن الإمام الرِّضا (عليه السَّلام)، حتى نعرف كيف الإسلام وكيف ديننا قد وضع لنا خطة البرمجة، كيف نبرمج الأوقات؟ كيف نبرمج الطاقات؟ كيف نبرمج القدرات؟ هذا حديث عن الإمام الرِّضا (عليه السَّلام)، أحد أئمَّة أهل البيت (عليهم السَّلام):
•يقول الإمام الرِّضا (عليه السَّلام): «واجتهدوا أنْ يكون زمانكم أربع ساعات: ساعة لله لمناجاته، وساعة لأمر المعاش، وساعة لمعاشرة الإخوان الثُّقات، والذين يُعرِّفونكم عيوبكم ويُخلِصون لكم في الباطن، وساعة تُخلون فيها للذَّاتكم، وبهذه السَّاعة تقدرون على الثَّلاث السَّاعات، …». (المجلسي: بحار الأنوار75/348، باب مواعظ الرِّضا (عليه السَّلام)، ح4)
هذا نموذج ومثال، وليس بالضَّبط الإمام يريد أربع ساعات بالتحديد، أربع، خمس، عشر ساعات، المهم أنت عندك أوقات فوظِّفها.
«اجتهدوا أنْ يكون زمانكم أربع ساعات: …»
1-«ساعة لله لمناجاته»
هذه ساعة العبادة، الصَّلوات، تلاوة القرآن، الذِّكر، الصِّيام، هذه ساعة في اليوم، الآن هذه الساعة كم تكون من اليوم، فليس المقصود السَّاعة الزَّمنيَّة، وإنَّما مقطع من الزَّمن اجعله للعبادة، ساعة، أو ساعتين، أو ثلاث ساعات، أو أربع ساعات في اليوم، كم ستعطي للعبادة في اليوم؟
«ساعة لله لمناجاته» للعبادة، للطاعة، للذكر، لتلاوة القرآن.
هذا مقطع من برمجتي اليوميَّة، المقطع العبادي.

2-«وساعة لأمر المعاش»
ساعة لعملي أشتغل؛ حتى أعِيش وأعَيِّش أهلي وأولادي وزوجتي، هذه ساعة عمل، هذا جزء من العبادة، جزء من الطَّاعة، أن يجعل الإنسان مساحة من وقته للعمل، كما أنْ يجعل مساحة من وقته للعبادة، هناك مساحة من الوقت للعمل، أي عمل مشروع فيه كدٌّ على النَّفس والعيال، هذا أيضًا عبادة.
حينما يقول: وساعة لأمر معاشه، ليس المعنى السَّاعة الزَّمنيَّة ستين دقيقة، بل يعني مقطع من الأربع وعشرين ساعة للعمل، قد يكون عملك خمس ساعات، أو ست ساعات، أو ثمان ساعات، أو عشر ساعات، هذا مقطع للعمل.
هذا المقطع الثَّاني، المقطع الأوَّل: المقطع العبادي، المقطع الثاني: مقطع العمل وساعة لأمر المعاش.
ثمَّ يقول الإمام الرِّضا (عليه السَّلام):
3-«وساعة لمعاشرة الإخوان الثُّقات»
هنا علاقات اجتماعيَّة.
إذن، أنت تعبد الله في وقت، وتمارس عملك الدُّنيوي المعيشي في وقت، وتبرمج لعلاقاتك مع النَّاس.
الإسلام يريد أنْ يخلق أجواء من العلاقات، وأجواء من التَّواصل مع النَّاس، هذه الأجواء جزء من البرنامج.
ليست حالة ترفيَّة أن أشكِّل علاقة مع النَّاس، ليس للترويح فقط، لا، وإنَّما هذا جزء من برنامج الإنسان المؤمن أن يضع مقطعًا في الأربع وعشرين ساعة لعلاقاته مع النَّاس.
الآن كيف تكون العلاقة؟ بزيارة، بتواصل، بهاتف، المهم أنَّك تشكِّل علاقات مع النَّاس.
هذا جزء من برنامجك اليومي في منظور الدِّين.
«وساعة لمعاشرة الإخوان الثُّقات»
ليس أي إنسان تعاشر، وإنَّما تعاشر النَّاس الثُّقات، النَّظيفين.
«والذين يُعرِّفونكم عيوبكم ويُخلِصون لكم في الباطن»
ابحثوا عن أخوة ثقاة، مخلصين، يصارحونكم إذا أخطأتم، يصحِّحون أوضاعكم.
هذه صفات النَّاس الذين نتعامل معهم، النَّاس الذين نعيش معهم.
إذًن، عندك مقطع العبادة، وعندك مقطع المعاش، وعندك مقطع العلاقات الاجتماعيَّة: الزِّيارات، التَّواصل.
لاحظوا، أنَّ الإسلام اهتم بالبرمجة بشكلٍ دقيق.

4-يقول الإمام (عليه السَّلام): «وساعة تَخْلون فيها لِلَذَّاتكم» [فيما هو حلال طبعًا]
الترويح عن النَّفس جزء من برنامج الدِّين، خصِّص لك وقتًا للتَّرويح، أخرج إلى شاطئ، أتنزَّه قليلًا، أذهب إلى حديقة، أخفِّف عن نفسي، لكن بأعمال مشروعة، لا أمارس ترويحًا بأساليب محرَّمة، هذا عمل لا يجوز، لكن الإسلام لا يمنع أن تخصِّص لك وقتًا من خلاله تروِّح عن معاناتك، وعن أتعابك، وعن جهدك، في اليوم، وفي الأربع وعشرين ساعة.
إذن، تحتاج إلى جزء من الوقت، نسمِّيه الجزء التَّرويحي، (سفرة، رحلة، مشاهدة أشجار، مشاهدة زهور، مشاهدة طيور، مشاهدة بحر)، هذا يسمَّى ترويحًا.
«وساعة تخلون فيها لِلَذاتكم [فيما هو حلال طبعًا] وبهذه السَّاعة [ساعة التَّرويح] تقدرون على الثَّلاث السَّاعات».
لاحظوا نظرة الإسلام، فإنَّه يقول لك: إذا اتَّخذت لك ساعة ترويحيَّة، فهذه تنِّشط قدراتك الأخرى، تنِّشط قدراتك العباديَّة، وتنِّشط قدراتك المعاشيَّة، وتنِّشط قدراتك الاجتماعيَّة.
إذن، يجب أن تتكامل الخطوات.
هذا هو المضمون الثَّاني في خطبة الرَّسول (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) وهو التَّأكيد على ضرورة أن نمنهج ونبرمج علاقتنا مع الشَّهر الفضيل.

المضمون الثَّالث: التَّذكير بقيمة وثواب الأعمال في هذا الشَّهر الفضيل
(يأتي الحديث عن ذلك إن شاء الله تعالى)
النَّبيُّ ذكَّر بقيمة وثواب الأعمال في هذا الشَّهر، وهذا سنتحدَّث عنه في حديث قادم.

الاستعدادات لاستقبال الشهر الفضيل
أيُّها الأحبَّة، نحن نحتاج إلى استعدادات لاستقبال الشَّهر الفضيل، نحتاج إلى أربعة استعدادات سيأتي التفصيل عنها – إن شاء الله تعالى -، لكن أذكرها كعناوين وأترك تفصيلها إلى حديث آخر.
ما هي الاستعدادات لاستقبال شهر رمضان؟
الاستعداد الأوَّل: الاستعداد الفقهي
الاستعداد الثَّاني: الاستعداد الفكري
الاستعداد الثَّالث: الاستعداد الرُّوحي
الاستعداد الرَّابع: الاستعداد العملي
هذه أربعة استعدادات لشهر رمضان، سأتحدَّث عنها في حديث قادم.

نداء
وهنا أوجِّه هذا النِّداء:
حافظوا – وخاصَّة في أيام شهر رمضان، وموسم اللِّقاءات، وموسم الاختلاطات، وموسم الزِّيارات – بقوَّة على الاحترازات والتَّعليمات والتَّوجيهات الصَّادرة عن الجهات المختصَّة – هذا بالنسبة إلى وباء كورونا -، فإنَّ أعداد المصابين بهذا الوباء آخذة في الارتفاع والازدياد.
لماذا؟
ذلك بسبب التَّهاون، والإهمال وعدم التقيُّد بالضَّوابط الاحترازيَّة.
إنَّ التَّفريط في تطبيق الإجراءات والاحترازات أمرٌ مخالفٌ قطعًا لأوامر الشَّرع والدِّين، ويشكِّل عملًا محرَّمًا، ومنافيًا لكلِّ ما يفرضه العقل الرَّشيد.
فالحذر الحذر من هذه الانزلاقات؛ فالعواقب وخيمة ووخيمة جدًا.
وكلَّما تقيَّد النَّاس بالضَّوابط والتَّعليمات الصَّادرة عن أصحاب الاختصاص حموا أنفسَهم، وحموا أسرَهُم، وكلَّ الذين يتواصلون معهم.
فلا تجعلوا الزِّيارات العائليَّة مفتوحةً بلا ضوابط، ولا تجعلوا اللِّقاءات الاجتماعيَّة منفلتة لكي تسبِّبوا في انتشار هذا الوباء؛ وبذلك تقعُوا في مخالفة الشَّرع، وإرشادات العقل، وتعليمات أصحاب الاختصاص.
لا شجاعة، وليس من الدِّين، ومن الرُّشد أنْ نفرِّط في الاحترازات.
صحيح نحن نملك سلاح الدُّعاء والذي يجب أنْ يُوظَّف بقوَّة، إلَّا أنَّ توظيف الدُّعاء يفرض أنْ نعتمد كلَّ الوسائل الموضوعيَّة، هنا يكون للدُّعاء دوره وأثره وفاعليَّته.
الله سبحانه قادر أنْ يُغيِّر كلَّ الحسابات إلَّا أنَّه جعل الأمور خاضعة للاشتراطات الموضوعيَّة

اللِّقاحات ضد فيروس (كورونا)
تبقى مسألة اللقاحات التي تحصِّن النَّاس في مواجهة هذا الفيروس المرعب، فنصائح أصحاب الخبرة، والاختصاص الموثوقين هو ضرورة المبادرة لأخذ هذه اللِّقاحات، وهذا ما تتَّجه إليه المنظمَّات الصِّحيَّة في العالم.
هذه كلمة تمهيديَّة، ولي كلمات مختصرة – إن شاء الله تعالى – ستكون ضمن البرنامج الرَّمضاني.
نسأل الله التَّوفيق والتَّسديد والتَّأييد لصيام هذا الشَّهر الفضيل، وللاستفادة من أوقاته كلَّ الاستفادة.
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين.
والسَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى