حديث الجمعةشهر جمادى الثانية

حديث الجمعة 289: نتابع الحديث حول استشهاد السَّيد الصدر – وماذا عن أوضاع هذا البلد؟

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربِّ العالمين وأفضل الصلوات على سيد الأنبياء والمرسلين محمدٍ وآله الطاهرين


 
وبعدُ مع العناوين التالية:
نتابع الحديث حول استشهاد السَّيد الصدر:

واستمر نظام الطاغية صدَّام يشدِّد الملاحقة والحصار والضغط على السَّيد الصدر, طمعًا في أنْ يُسكتَ صوتَه, أنْ يدفَعهُ للتراجع, للتنازل, للاستسلام, إلَّا أنَّ السيد الصدر الذي تغذَّى من مدرسةِ كربلاء, وتشرَّبَ شعار الحسين «هيهات منَّا الذِّلة» ازداد صمودًا, وشموخًا, وتحدِّيًا وهو يردِّد قولةَ جدِّه الحسين «إنِّي لا أرى الموت إلَّا سعادة والحياة مع الظالمين إلى برمًا».
   وقد صمَم الطاغية المجرم صدَّام على إعدام السَّيد الصدر, و طلب من أزلامه أنْ يروِّجُوا إشاعةً بين النَّاسِ مفادها أنَّ السلطة عازمة على تنفيذ حكم الإعدام بالسَّيد الصدر, بهدف اكتشاف ردود الفعل الجماهيرية.


   روي أنَّ الحاج عباس خادم السَّيد الصدر, جاء في يوم من الأيام وهو مضطرب, خائف, يبكي, وأخبر السَّيد الصدر بأنَّ إشاعةً قويَّةً انتشرتْ بين الناس, مؤدَّاها أنَّ السلطة ستنفذ حكم الإعدام بالسَّيد الصدر في المستقبل القريب…


فقال له السيد الصدر: «لقد بشَّرتني بشَّرك الله بكلِّ خيرٍ»، وكلَّما اقترب السيد الصدر من لحظة الشهادة زاد انقطاعًا إلى الله, وزاد انصهارًا و ذوبانًا في العبادةِ, كانَ بين تالٍ للقرآن, وذاكرٍ للهِ تعالى, وقائمٍ, وصائمٍ, وأعلن كلمته الأخيرة: «أنا أعلنُ لكم يا أبنائي أنِّي صمَّمتُ على الشَّهادةِ, ولعلَّ هذا آخر ما تسمعونَهُ منِّي, وإنَّ أبوابَ الجنَّةِ قد فُتِحتْ لتستقبلَ قوافلَ الشهداءِ حتى يكتبَ الله لكم النصرَ, وما ألذَّ الشهادةَ التي قال عنها رسول الله صلَّى الله عليه وآله: «إنَّها حسنة لا تضرُّ معها سيئة, والشهيد بشهادته يغسل كلَّ ذنوبهِ مهما بلغت».


 وجاء الاعتقال الأخير…
  في يوم السبت (5/ 4/ 1980) الساعة الثانية والنصف بعد الظهر جاء جلاوزة النظام إلى منزل السَّيد الصدر قائلين: إنَّ المسؤولينَ يودُّونَ لقاءَك في بغداد…
قال السَّيد الصدر: إذا أمروكم باعتقالي، نعم أذهب معكم.
قال الجلاوزة: نعم هو اعتقال…
السيد الصدر: انتظروني حتَّى أغتسلَ وأبدل ملابسي, وأودِّع أهلي…
   دخل السيد الصدر فاغتسل بنية غيل الشهادة, وصلَّى لربِّه ركعتين, ثمَّ اتَّجه الى والدتِه المذهولةِ والمكروبة وأخذ يدها وضمَّها الى صدره بين يديه, ثمَّ رفعها الى فيه يلثمها في حنو, وطلبَ منها الرِّضا والدعاء…
   ثمَّ احتضن أطفاله, يضمّهم ويقبِّلهم في لحظاتٍ مليئةٍ بالدموعِ والآهاتِ, وصرفتْ واحدةٌ من بناتهِ وجهها إلى الجدار جاهشةً بالبكاء, ضمَّها بين ذراعيه قائلًا : «ابنتي كلُّ انسانٍ يموت, والموت في سبيل الله أفضل وأشرف, إنَّ أصحاب عيسى نشروا بالمناشير, وعلِّقوا بالمسامير, على صلبان من الخشب, وثبتوا من أجل موتٍ فيه طاعةٍ, لا تكترثي يا صغيرتي, فكلُّنا سنموتُ, اليومَ أو غدًا, وإنَّ أكرم الموتِ القتل, بُنَيَّتي, أنا راضٍ بما يجري عليَّ…


   وحانَ الوقت لوداع زوجته أم جعفر, والتي عاشت معه كلّ الآلام والأوجاع, اقترب منها وقال: «يا أخت موسى, بالأمس أخوكِ واليومَ النديم والشريك والحبيب, اليوم أنا, لكِ الله يا جنَّتي ويا فردوسي, تصبَّري, إنَّما هي البيعةُ مع الله, وقد بعناه ما ليس بمرجوع, وقد اشترى سبحانه, يا غريبة الأهلِ والوطن, حملكِ ثقيلٌ ولكِ العيال, أسألكِ الحلَّ, فأولئك هم سودُ الأكباد على بابك ينتظرون, وما مِن مَفَرّ, أنا ذاهب, وعند مليكٍ مقتدر لنا لقاء…


   ثمَّ توجَّه للخروج, فكانت أخته بنتُ الهدى بانتظاره تحمل القرآن الكريم فمرَّ من تحتِه, ثمَّ قبَّله بهدوء وخرج…
   لم تحدِّثنا المصادر أنَّه جرى بينه وبين شقيقته وداع في تلك اللحظات لأنَّه على موعدٍ معها في يوم الشهادة…
أخذوا الشهيد الصدر إلى بغداد وهو يحمل شموخ جدِّه الحسين…
وفي صباح اليوم الثاني طوَّقوا المنزل من جديد…
– قالت السيدة بنت الهدى: لقد جاؤوا لاعتقالي…
فاستعدَّت وتهيَّأتْ وهي تحمل عشق الشهادة…
– قال الجلاوزة: علوية إنَّ السيد طلب حضورَك الى بغداد…
– فقالت: نعم, سمعًا وطاعةً لأخي إن كان قد طلبني, ولا تظنُّوا أنِّي خائفة من الإعدام, والله إنِّي سعيدة بذلك, إنَّ هذا طريق آبائي وأجدادي…
ثمَّ قالت مخاطبة ضابط الأمن: دعني قليلًا وسوف أعود إليك ولا تخف فأنا لن أهرب, وأغلقت الباب في وجهه…


   يتحدَّث الشيخ محمد رضا النعماني وكان ملازمًا للسيد الصدر أثناء الحصار, والمحنة: «جائتني [الشهيدة بنت الهدى] وقالت لي: أخي أبا علي لقد أدَّى أخي ما عليه, وأنا ذاهبة لكي أؤدِّي ما عليَّ إنَّ عاقبتنا على خير, أوصيك بأمِّي, وأولاد أخي, لم يبق لهم أحد غيرك, إنَّ جزاءك على أمِّنا فاطمة الزَّهراء…


قلت لها :لا تذهبي معهم…
فقالت: لا والله حتى أشارك أخي في كلِّ شيئ حتى الشهادة…
ومضت لتنال الشهادة مع أخيها السَّيد الصدر…


كيف تمَّ إعدام الشهيد الصدر؟
  لقد تعدَّدت الرِّوايات حول الطريقة التي تمَّ بها تصفية السَّيد الصدر, نذكر منها:


• الرواية الأولى (رواية الشيخ محمد رضا النعماني) قال:
«أحضروا السَّيد الصدر إلى مديرية الأمن العامَّة, فقاموا بتقييده بالحديد, ثمَّ جاء المجرم صدَّام وأخذ يهشم رأس السَّيد الصدر ووجهه بسوطٍ بلاستيكي صلب, وكان يقول له عبارات نابية ثمَّ أمر جلاوزته بتعذيب السيد الصدر تعذيبًا قاسيًا…
ثمَّ أمر بجلب الشهيدة بنت الهدى – ويبدو أنَّها قد عُذِّبت في غرفةٍ أخرى – جاءوا بها  فاقدة الوعي يجرُّونها جرًّا, فلمَّا رآها السيد الصدر استشاط غضبًا, ورقَّ لحالها ووضعها، فقال لصدَّام: إن كنت رجلًا ففكَّ قيودي, فأخذ المجرم سوطًا وأخذ يضرب العَلَوية الشهيدة ممَّا جعل السيد الصدر في حالة غضب فقال للمجرم صدَّام: لو كنت رجلًا فجابهني وجهًا لوجه, ودَعْ أختي, ولكنك جبانٌ وأنت بين حمايتك…
فغضب المجرم وأخرج مسدَّسه فأطلق النَّار عليه, ثمَّ على أخته الشهيدة, وخرج كالمجنون يسبُّ و يشتم».


• الرواية الثانية (رواية سنوات الجمر للسيد علي الغريفي) جاء فيها:
«وأشرف صدَّام مباشرة على تعذيب الإمام الصدر والتحقيق معه, وكان صدام- وهو في حالة انهيارٍ وإعياء- يكرِّر عليه مطالبه السابقة فيما يقابله الصدر- الموشَّح بالدِّماء- بثبات المؤمن, وهيبة الفقيه, وهو يتلو آياتٍ من الذكر الحكيم, ممَّا يدلّ على رفضه القاطع، وللمرَّة الأخيرة عاد إليه صدَّام وهو شاهر مسدَّسه, أصدِر فتوى بتحريم الانتماء الى حزب الدعوة, وجواز الانتساب الى حزب البعث, وإلَّا مزَّقت رأسك وقطَّعتك أوصالًا…
وبعد فشل كلّ محاولات المساومة العقيمة أقدم صدَّام بنفسه يوم الثلاثاء 8 نيسان (أبريل) 1980م على تفريغ مسدَّسه في قلب ورأس الإمام الصدر, فسقط على الأرض مضرَّجًا بدمه…
ثمَّ أوعز صدام الى نائبه عزَّت الدوري بقتل المفكِّرة الإسلاميَّة بنت الهدى فخرَّت هي الأخرى صريعة…»


• الرواية الثالثة (رواة يوميات بغداد):
بعد فشل كلّ المساومات سأل صدَّام السَّيد الصدر: أيّ أسلوبٍ من القتل تريد؟
فقال: أذبح كما ذبح الحسين…
ولكنَّ صدَّام أمر أن يموتَ رميًا بالرصاصِ, وخلع الإمام الجليل عمامته السوداء مجابهًا رصاصَ الجلَّاد المحترف, لكنَّ يد الجلاد اهتزَّت ولم تستطع إطلاق الرصاص، فتمَّ تكليف جلَّادٍ ثانٍ، لكن يده اهتزَّت كذلك، ولم يستطع أحدٌ من الجلَّادين المُحترفين أن يطلقوا الرصاصَ على الإمام الجليل, ممَّا اضَّطر صدَّام أن ينهرهم ويقوم بنفسه بعملية إطلاق الرصاص وقتل الإمام الشهيد, وبعد يومين استدعيت بنت الهدى, وتمَّ تنفيذ حكم الإعدام عليها, بعد إجراءات تنكيلٍ وحشيه, جعلتهم يتردَّدون في تسليم جثَّتها بعد استشهادها رضي الله عنها.


   وقد تمَّت مواراة الجثمان الطاهرة في النجف الأشرف، في ليلةٍ ظلماء وعلى يد مجموعةٍ من قوات الأمن, بعد أن أحضروا السيد محمد صادق الصدر (ابن عم السيد الصدر) وقالوا: هذه جنازة الصدر تمَّ إعدامه فقال السيد محمد صادق الصدر: إنَّا لله وإنَّا اليه راجعون…
ثمَّ قال لهم لا بدَّ من تغسيله…
قالوا: قد تمَّ تغسيله وتكفينه…
قال لهم: لا بدَّ من الصَّلاة عليه…
قالوا له: صلِّ عليه…
وبعد أن انتهى من الصلاة, كشفوا له عن جثمان السَّيد الشهيد, فشاهده مضرَّجًا بالدِّماء, وآثار التعذيب على كلِّ مكانٍ من وجهه وقد أحرقت لحيته, وهشَّمت رصاصةٌ مقدمةَ جمجمتَه فوق إحدى عينيه.. 


   وماذا عن الشهيدة بنت الهدى؟
الله أعلمُ كم نالت من العذاب, وكم لعبت في جسدها وسائل التعذيب، وكم مزَّقت صدرها وقلبها وجبهتها رصاصاتُ الغدر والإجرام، وظلَّ أمرها لا يعلمه إلَّا الله وأولئك الجناة, وظلَّ قبرها مخفيًا- كما قبر جدَّتها الزَّهراء-
   وقد تعدَّدت الروايات حول جثمانها الطاهر:
– فقيل إنَّ جثمانها سلِّم مع جثمان أخيها الصدر.
– وقيل إنَّ جثمانها دفن في مقابر الكرخ في بغداد.
– وقيل إنَّ جثمانها لا يُعلم مصيره…
– وقيل إنَّ جثمانَ السَّيدة الشهيدة بنت الهدى قد أذيب في حوض من التيزاب، وهكذا أبت بنت الهدى إلَّا أن تشارك جدَّتها الصديقة فاطمة الزهراء في ظلامتها, و في دفنها سرًا, وفي خفاء قبرها, وكيف لا وهي فاطمة هذا العصر…


–    وأما قصَّة نقل الجثمان الطاهر, فقصَّة تحمل الكثير من العبر, والكثير من الكرامات, وكيف أصبح القبر الآن مزارًا شاخصًا يزوره الملايين, وأصبح صدَّام في مزبلة التاريخ…
آمل أن أجد الفرصة إن شاء الله للحديث عن هذه القصَّة…


وماذا عن أوضاع هذا البلد؟


الأوضاع مأساويَّة للغاية، ويكذب مَنْ يقول أنَّ الأمور في البحرين بخير، ومهما حاولت أدوات التلميع والمكيجة الرسميَّة أنْ تستر الوجه القبيح لسياسة البطشِ والفتكِ فهي عاجزة وفاشلة، وإذا كان الإصرار على إقامة سباق (الفُورمُولا 1) هو مِن أجلِ إقناع العالم أنَّ الأوضاعَ هنا طبيعية وهادئة، والأمنُ مستقرٌّ كلَّ الإستقرار؛ فقد جاءت النتيجة على خلافِ ما يبغي النظام، فإعلام العالم الذي تمركز حول البحرين في هذه الأيام لم يتمركز حول حَلَبة السباق، بل استقطبته أحداثُ الشارع، والمسيرات، والاحتجاجات، والغضب الشعبي، والاستخدام المفرط لأدوات القمع من قبل رجال الأمن، خاصة وقد تزامن هذا السباق مع سقوط شهيد من شهداء هذا الوطن وهو الشهيد صلاح عباس حبيب (36 عامًا) حيث تمَّ – حسب ما أفاد شقيقه – إطلاق الشوزن باتجاهه، ثمَّ اختفت أخبارُه، إلى أنْ عُثر عليه جثَّةً ملقاةً في إحدى مزارع الشاخورة، هكذا يتعاملون مع أبناء هذا الوطن، وإذا كان لا بدَّ من تقديم هدية ثمينة للمشاركين في هذا السباق فليس أثمن من هذه الهدية، شاب بريئ مسالم، خرج مطالبًا بحقوقه العادلة المشروعة، فكان جزاؤه عددًا من رصاصاتِ الشوزن، والاختطاف، والتعذيب الوحشي، ثمَّ القتل بطريقة فيها الكثير من البشاعة والشناعة حسب ما أفاد أطباء وحقوقيون ونشطاء، وأخيرًا رُمي كما تُرمى القمامة في إحدى المزارع، مخلفًا زوجةً منكوبةً وخمسةً من الأولاد يتجرَّعون الآلام والآهات واليتم لفقد والدهم وكافلهم، كم هي المآسي كبيرة وكبيرة في وطني، وكم هو الظلم فاحش وفاحش حيث طال الأرواح والأموال والأعراض والمقدَّسات، فإلى متى ستبقى المأساة، وإلى متى سيبقى الظلم؟ مَحالٌ مَحالٌ أنْ تستمر مأساةٌ، وأن يستمر ظلم، إنَّها سنة الله في الأرض، ﴿وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلًا﴾ (الأحزاب/ 62)، ﴿وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلًا﴾ (فاطر/43).


ومشهدٌ آخر من مشاهد هذه الماساة في هذا الوطن، وصورة أخرى مِن صور هذا الظلم في هذا البلد… الناشط الحقوقي عبد الهادي الخواجة يمرُّ بالمرحلةِ الحرجة جدًا في حياته، حيث امتنع أخيرًا عن شرب الماء، إنَّها قضية تختصر مأساةَ شعبٍ، ومأساةَ وطنٍ، ومأساةَ حريةٍ، ومأساةَ ضميرٍ…


ورغم كلِّ النداءات، ورغم كلِّ المطالبات، ورغم كلِّ الاستغاثات، فإنَّ السُّلطة في هذا البلد مصرَّةٌ كلَّ الإصرار أن تقابل كلَّ تلك النداءات والمطالبات والاستغاثات بأُذنٍ صمَّاء، ومصرَّةٌ كلَّ الإصرار أنْ يموتَ كلُّ الأحرار وكلُّ الشرفاء ما دام في ذلك استجابة لنزوة جلَّادٍ يتلذَّذ بعذاباتِ أبناءِ هذا الوطن، ووينتشي لرؤيةِ أرواحٍ تُزهق، ودماءٍ تُسفك، وأعراضٍ تهتك…


إنَّنا نحمِّل السلطة مسؤوليَّة كلَّ التداعيات والنتائج إذا أصاب هذا الإنسان مكروه، فلن يكون موتُه حدثًا عابرًا، فمن مصلحة هذا الوطن أن تعيد السلطة حساباتها في التعاطي مع هذه القضيَّة، بل مع جميع قضايا الوضع الراهن…


لا زالتْ هناك بعضُ مصداقيَّةٍ للمطالبة بالإصلاحاتٍ السِّياسية، ولا زالتْ هناكَ بعضُ فرصة لتدارك ما فات…


إلَّا أنَّ مسارَ الأوضاعِ إذا استمر في الاتجاهِ الراهنِ، وفي طريق التصعيد الأمني، وإلى مزيدٍ من البطشِ والفتكِ والقتلِ، فلا أظنُّ أنَّ شيئًا من تلك المصداقية في المطالبة بالإصلاح السِّياسي سوف تبقى، وهي بالفعل قد ماتتّ لدى مساحاتٍ كبيرةٍ في الشارع والتي تحوَّلت إلى شعارات أكبر من ذلك، فهل تُصغي السلطة للنداءات قبل فوات الأوان، وقبل أن تموت الفرصةُ الأخيرة، وليس في هذا دعوة إلى المسارات الأصعب، ما دام هناك بعضُ أملٍ أنْ تعالج الأمور بالعقل والحكمة، وأخشى ما نخشاه أنْ تموت هذه البقيةُ من الأملِ، والتي ماتت بالفعلِ لدى الكثيرين الكثيرين، وبدأ هذا الموتُ يزحف إلى نفوس قُوى سياسية ورموزٍ ناشطة، كانت تراهن على مشروع الإصلاح السياسي، وإذا مات الأملُ لدى هؤلاء فالمسارات سوف تتغيَّر تمامًا، فليصغِ النظام إلى نداءات العقل، فكلَّما ازداد البطشُ والقمع ازداد الناسُ إصرارًا في الدفاع عن مطالبهم العادلة، وكلَّما سقطت قطرة دمٍ كانت وقودًا لاستمرار الحراك، وكانت شرارةً لاشتعالِ الغضب، وكانت شُحنةً في اتجاه المفاصلةِ مع النظام، فكفاكِ أيَّتها السلطة مِن دماء هذا الشعب ما أصبتِ، وكفاكِ من الأرواح ما أزهقتِ…


وكفاكِ أيَّتها السلطة استخفافًا بإرادة هذا الشعب الذي يطالبُ بإصلاحاتٍ حقيقيةٍ شاملةٍ، وليس بتعديلات دستورية شكلية باهتةٍ، وليس بترقيعاتٍ مشوَّهةٍ، ولا بتعييناتٍ وزاريةٍ خاوية… الأمر الذي لا يعبِّر عن نيَّةٍ جادَّةٍ وصادقةٍ في التغيير، ولا يُعبِّر عن استجابةٍ لطموحاتِ هذا الشعب، ولا يتماهى مع إرادته، وإصرارِه، وحراكِه…


لا زالت المسافة كبيرةً جدًا بين تعديلاتٍ صاغها البرلمان وفق مقاساتِ النظام، ووفقَ رغباتِه، وسياساتِه، وإصلاحاتٍ جذريةٍ تعبِّر عن إرادة الشعب، وتستجيبُ لمطالبه، وتُصاغ حسب مصالحه…
وما دامتْ هذه المسافة كبيرة وواسعة، فسوف تبقى مساراتُ الأزمة السِّياسية في هذا البلد تتَّجه نحو التعقيد والتصعيد ونحو مزيدٍ من الاحتقان والغليان…


المطلوبُ هو الاقترابُ من إرادةِ الشعب، من مطالبه، من طموحاتِه، وليس الابتعاد أكثر عن هذه الإرادة، وهذه المطالب، وهذه الطموحات…
إذا كان هناك تفكيرٌ جادٌّ وصادقٌ في رسم خارطةِ إنقادٍ لهذا الوطن مِن مآزقه وأزماته، فليس إلَّا مِن خلالِ ما تعبِّر هذه الخارطةُ من تناغم حقيقي مع إرادةِ الشعب ومطالبه وطموحاته، وإلَّا فالمسارُ تائهٌ لن يقودَ البلد إلَّا إلى الدَّمار…


والحمد لله رب العالمين..

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى