حديث الجمعةشهر محرم

حديث الجمعة213: مراسيم عاشوراء بين الشكل والمضمون – لماذا يا وزارة الداخليّة؟ – الإساءة إلى المرجعيّة الدينيّة عملٌ أهوج

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين وأفضل الصلوات على سيد الأنبياء والمرسلين محمدٍ وعلى آله الطيّبين الطاهرين.

مراسيم عاشوراء بين الشكل والمضمون:
تقدّم الحديث عن مراسيم عاشوراء شكلاً ومظهرًا، وأكّدنا في حديثنا السابق على ثلاثة أمور:
الأمر الأول:
ضرورة المحافظة على استمراريّة المظاهر العاشورائيّة (المجالس/ المواكب/ الفعّاليات/ ظاهرة السواد والأعلام).
فمن خلال هذه المفاصل العاشورائيّة يتحرّك الإحياء العاشورائيّ جيلاً بعد جيل، وأيّ تفريطٍ في المحافظة هذه المراسيم سوف ينعكس سلبًا على مسيرة الإحياء وسوف يتحمّل المفرّطون المسؤوليّة أمام الله وأمام الأجيال.
وهنا أقف بعض الوقت مع حدثٍ في موسم هذا العام من إقدام وزارة الداخليّة على إزالة الأعلام والسواد في بعض المناطق، وبطريقة استفزازيّة واضحة..

لماذا هذا الإجراء الاستفزازيّ؟
لماذا هذا التدخّل المُسيئ إلى مشاعر الطائفة؟
هل أنّ وجود السواد والأعلام في الشوارع والطرق الداخليّة للقرى والمناطق فيه مساسٌ بأمن البلد واستقراره؟
هل أنّ هذه الظواهر التي تعبّر عن التعاطي مع مناسبة دينيّة يحتفي بها أبناء هذه الطائفة الكبيرة حزنًا على مصاب الإمام الحسين تُسيئ إلى مشاعر أبناء الطوائف الأخرى في هذا البلد؟

لماذا يا وزارة الداخليّة؟
إنّ هذه الممارسات غير المسؤولة لها عواقب سيّئة جدًا، لأنّ المسّ بالمراسيم الدينيّة أمرٌ لا يمكن السكوت عنه…
وإذا كانت لا تعبّر عن إرادة الداخليّة، وإنّما هي تصرفاتٌ فرديّة، فالمسألة في حاجةٍ إلى توضيحات، وإلى إيقاف هذه التجاوزات، خشية أن تحدث ردود فعلٍ تضرّ بأوضاع البلد…
في الوقت الذي تعلن السلطة حرصها الشديد على حماية الأمن والاستقرار، ونحن نحمل هذا الهم الكبير ونعمل من أجله بكلّ صدقٍ وإخلاص تأتي هذه التصرّفات لتدفع في اتجاه التوتّر والاضطراب.
إنّنا نحمّل الداخليّة مسؤوليّة ما حدث…
وإذا كان هناك ملاحظات في حاجةٍ إلى معالجة فيمكن أن يتمّ ذلك من خلال اللقاءات والحوارات، لا من خلال هذا النّمط من التصرّفات غير المسؤولة والمسيئة إلى المشاعر الدينيّة، والدافعة إلى ردود فعلٍ ضارة بأوضاع البلد.
أنا هنا لا أمارس تحريضًا، فنحن ضدّ الخطابات التحريضيّة، والتي عانا ولا يزال يعاني منها واقعنا، هذه الخطابات التي عبّأت النفوس بالأحقاد والعداوات وفجّرت في أوطاننا صراعات وخلافات وحروبًا ومعارك، واستباحات أرواحًا ودماءً…

لسنا مع الخطابات التحريضيّة السياسيّة أو الخطابات التحريضيّة المذهبيّة… ولكنّنا مع الكلمة الصادعة بالحقّ، الرافضة للظلم، المطالبة بالحقوق، ما دامت هذه الكلمة تعتمد الأساليب المشروعة، والأدوات النظيفة…

فحينما نحذّر من ممارساتٍ تصدر عن النظام وتطال بعض مظاهر الإحياء العاشورائيّ وبأساليب شائنة، وبطريقةٍ استفزازيّة متعمّدة، فنحن لا نريد لهذا البلد أن يدخل في أزماتٍ جديدة تُضاف إلى أزماته الكثيرة والتي أرهقت كاهل هذا الشعب.

المراسيم العاشورائيّة – عند الشيعة – خطٌ أحمر لا يُسمح بتجاوزه، وقد أعطى الشيعة عبر التاريخ دماءً من أجل أن يحافظوا على هذه المراسيم ما دامت لا تُسيئ إلى أمن الأوطان، وما دامت لا تؤجّج صراعاتٍ طائفيّةٍ ومذهبيّة، وهذا ما نحرص عليه دائمًا، لأنّ عاشوراء رسالة محبة ووئام، وخطاب وحدة وتقارب، ونهج بناء وإصلاح…

عبر تاريخ طويلٍ والشيعة – في هذا الوطن – يُمارسون شعائرهم العاشورائيّة بكلِّ حرّية، ولم يُسيئوا من خلالها إلى أحد، ولم تصدر من إخوانهم السنّة أيّ إساءةٍ إلى هذه الشعائر، فأخشى ما نخشاه أن يوجد من يريد أن يعبث بهذا الوضع، ليفجّر أوضاعًا مذهبيّة متوتّرة لها نتائجها المدمّرة على كلّ أبناء هذا الوطن…

إنّنا نطالب وبصوتٍ مرتفع وزارة الداخليّة والتي يهمّها أن تكون أجواء عاشوراء خالية من التوتّرات والاضطرابات، نُطالبها أن تحافظ على حريّة الممارسات والمظاهر والمراسيم العاشورائيّة، وأن تحاسب أولئك الذين مارسوا تجاوزاتٍ ضدّ بعض مظاهر الأحياء العاشورائيّ من قبيل إزالة الأعلام والسّواد في بعض المناطق…

الأمر الثاني:
وكذلك أكّدنا في حديثنا السابق على ضرورة أن تكون المظاهر العاشورائيّة منسجمة كلّ الانسجام مع الأهداف الحسينيّة، وأن تكون خاضعة للضوابط الشرعيّة…

هنا الحديث عن المراسيم في دائرة الشكل والمظهر وليس عن المراسيم في دائرة الهدف والمضمون.
إلاّ أنّنا لا يمكن أن نتعاطى مع الشكل والمظهر مُفرّغًا من الهدف والمضمون، وإلاّ كانت الممارسات العاشورائيّة عادات وتقاليد فاقدة للمعنى وفاقدة للقيمة…

وبمقدار ما نصرّ على استمرار المراسيم شكلاً ومظهرًا فإنّنا يجب أن نصرّ على حضور الهدف والمضمون.
المراسيم العاشورائيّة بكلّ تنوّعاتها وأشكالها ومظاهرها هي (وسائل) وليست (أهدافًا) وسائل تتحرّك في اتجاه الأهداف، ومظاهر تحتضن مضامين.

ومن الجور على مراسيم العزاء أن نفرّغها من الأهداف والمضامين، لأنّنا بذلك نفرّغها من علاقتها بثورة الإمام الحسين عليه السلام، ونفرّغها من ارتباطها بحدث عاشوراء…

الكثيرون تحوّلت عندهم مراسيم عاشوراء إلى أهدافٍ في ذاتها.
لا نشكّ أنّ الممارسات العاشورائيّة الخاضعة للضّوابط الشرعيّة، هي ممارسات عباديّة توفّر لمن يقوم بها أعظم الأجر عند الله ما دامت متوفّرة على عنصر الإخلاص، فحضور المآتم له أجره العظيم، والبكاء على الحسين عليه السلام له أجره العظيم، والمشاركة في الفعّاليات العاشورائيّة المشروعة لها أجرها العظيم، والخطابة الحسينيّة لها أجرها العظيم، وإنشاد الشِّعر والردّات الحسينيّة له أجره العظيم، والقيام بأيّ خدمةٍ في موسم عاشوراء له أجره العظيم…

لماذا أُعطيَ الأجر العظيم لهذه الممارسات والأعمال؟
ليس إلاّ لأنّها مرتبطة بقضيّة الإمام الحسين…
هذه القضية التي تحرّكت من أجل هدفٍ مركزيّ هو «بقاء الإسلام» ولولا ثورة الإمام الحسين ودم الإمام الحسين لتمّ الإجهاز على الإسلام نهائيًا، وهذا ما كان المشروع الأمويّ يخطّط له، وكان مقرّرًا أن يعلن الانقلاب النهائيّ على الإسلام في ظلّ حكم يزيد بن معاوية.
لا أريد أن أدخل في الحديث عن الهدف العاشورائيّ، هذا ما أتناوله في حديثٍ آخر، ما أريد أن أؤكّده هنا: إنّ الممارسات العاشورائيّة لا تجوز أن تنفصل عن الهدف المركزيّ لثورة الإمام الحسين عليه السلام من أجل أن تحمل القيمة الكبيرة عند الله تعالى.
نتابع الحديث إن شاء الله تعالى..

الإساءة إلى المرجعيّة الدينيّة عملٌ أهوج:
في مرحلةٍ هي الأخطر تتحرّك قوى الشّر لتعبث بوحدة هذه الأمّة، وفي هذا السياق تنتظم كلّ الخطابات المشحونة بالحقد الطائفيّ البغيض…
وما صدر أخيرًا عن العريفي السعوديّ من تطاولٍ فاحشٍ على مرجع الطائفة آية الله العظمى السيد السيستاني هو واحد من أمثلة الهوس الطائفيّ الأهوج…
يؤسفنا أن يُصرّ هذا البعض على تأجيج نار الفتنة بين المسلمين، وتحريك الأحقاد والضغائن وإشعال الخلافات والصراعات…
إنّها المؤامرة الكبرى على الإسلام والمسلمين، إنّ أعداء الإسلام وأعداء المسلمين يريدون لهذه الأمّة أن تكون ضعيفة مسلوبة الإرادة مهدورة الكرامة، ويريدون للمسلمين أن يكونوا أشتاتًا يُحارب بعضهم بعضًا، يتقاذفون ويتشاتمون ويتقاتلون…
وهكذا يعبث هؤلاء الأعداء بمصير المسلمين، وبوحدتهم، وبمقدّراتهم، وبمقدّساتهم وبثرواتهم وبأمنهم، وبسياساتهم وبكلّ وجودهم…
وهذا مصداقٌ لحديث الرسول الأكرم صلّى الله عليه وآله وسلّم: «يوشَك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة على قصعتها، قالوا: أمن قلّة فينا يؤمئذٍ؟
قال صلّى الله عليه وآله: لا ولكنّكم غثاء كغثاء السيل، يُجعل الوهن في قلوبكم ويُنزع من قلوب أعدائكم، لحبّكم الدنيا وكراهيّتكم الموت».
إنّ الخطابات الطائفيّة من أخطر الأسلحة المدمّرة التي يعتمدها أعداء هذه الأمّة، فكم أزهقت هذه الخطابات من أرواح، وكم دمّرت من أوطان، وكم أشعلت من حروبٍ أحرقت الأخضر واليابس…
إنّ التطاول على المرجعيّة الدينيّة ممثّلة في سماحة آية الله العظمى السيد السيستاني وبهذا الأسلوب الوقح، وبهذه الكلمات البذيئة الهابطة أمرٌ يبعث على الأسف الشديد، ومطلوبٌ من كلّ الخيّرين في هذه الأمّة أن يستنكروا هذه الإساءات، ويندّدوا بهذا التطاول، وأن يشجبوا هذا الطيش الحاقد، وهذا الهذيان الأهوج…
لماذا هذا الإصرار – وفي هذه المرحلة الحرجة من تاريخ الأمّة – على ممارسة هذا اللون من الشحن الطائفيّ ومن الخطاب التكفيريّ؟
أما كان الأحرى أن نسمع خطابات الحبّ والوحدة والتقارب ورصّ الصفوف في مواجهة أعداء الإسلام؟
وإذا اختلفنا فهناك لغة الحوار والتفاهم وليس لغة السباب والشتائم…
هناك لغة الحجّة والمنطق وليس لغة العنف والتطرّف…
«قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ…».
الذين يُمارسون السبّ والقذف والكذب والبهتان هم المُفلسون الذين لا يملكون الحجّة والبرهان، وهم العاجزون الذين لا يملكون لغة المجادلة والحوار…
من السهل جدًا أن يسوّق الإنسان كلمات السبّ والشتم والاتّهام، ولكن من الصعب جدًّا أن يُمارس خطاب العلم والحجّة والبرهان…
اللغة الأولى لا تكلّف سوى استحضار بعض المفردات المبتذلة الهابطة وهي كلمات ميسورة سهلة المنال خاصّة لمن لا يملك ضوابط الدّين والقِيَم…
وأمّا الخطاب الآخر فهو في حاجةٍ إلى كفاءةٍ وفهمٍ وبصيرةٍ وإلى نظافةٍ ونزاهة…
نسأله تعالى أن يجنّبنا المزالق، وأن يحمينا من كلّ طيشٍ أو نزق، وأن يعصمنا من الزيغ والضّلال..
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين..

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى