حديث الجمعةشهر جمادى الثانية

حديث الجمعة 364: في ذكرى شهادة السَّيد الصدر والشهيدة بنت الهدى – أقلام الفتنة والتأزيم.. مَنْ يُغذِّيها؟

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وأفضل الصَّلوات على سيِّد الأنبياء والمرسلين محمَّدٍ وعلى آله الهداة المعصومين.


في ذكرى شهادة السَّيد الصدر والشهيدة بنت الهدى:
الشهيد السَّيد محمد باقر الصدر، والشهيدة بنت الهدى آمنة الصدر عاشا معًا هموم الدعوة إلى الله والعمل من أجل الإسلام، والدفاع عن حقوق الشعب المسلوبة في ظل نظام هو الأسوأ في أنظمة المنطقة والعالم وهو الأشرس والأقسى والأشدّ إجرامًا وبطشًا وفتكًا، وقتلًا، وانتهاكًا للأعراض والحرمات، ومحاربة للشعائر والمقدَّسات…


في ظل هذا النظام المتمرِّس في الإجرام انطلق جهادُ السَّيد محمد باقر الصدر، وانطلق جهادُ شقيقتِهِ السَّيدة آمنة الصدر (بنت الهدى)..


جهادهما اتخذ مسارات متعدّدة:
(1)  مارسا جهادًا علميًا وثقافيًا…
فالنظام الفاسد في العراق حاول بكل أدواته ووسائله أنْ يحوِّل (أجيال العراق) إلى أجيالٍ جاهلةٍ بدينها وإسلامها وعقائدها وتاريخها، ومبادئها، وقرآنها، ورموزها، إلى أجيال مشبعة بأفكار (عفلق)، وبكلِّ الأفكار الضَّالة والمنحرفة والفاسدة…


وهكذا وظَّف النظام الفاسد إعلامَهُ، وتلفازه، وإذاعتهِ، وصحافاتهِ، وأقلامَهُ، ومنابرَه، ومدارسَهُ، وجمعياتِه، ومؤسساتِه الثقافية والاجتماعية والرياضية والسِّياسية من أجل (إنتاج أجيال جاهلة بالإسلام).


تصدَّى السَّيد محمد باقر الصدر للتعريف بالإسلام، وطرح مفاهيم الدِّين، ونشر رؤى القرآن معتمدًا لغةً استطاعت أن تفرض نفسها في مواجهة المشروع المضاد وأخذت أفكار السَّيد الصدر وكتاباته تقتحم عقول الشباب والمثقفين، ممَّا أنتج مدًّا ثقافيًا إسلاميًا أرعب الفكر المنحرف، وهزم أدوات النظام، وإذا بالجامعات التي احتضنها النظام وغذَّاها بفكره الفاسد وثقافتِهِ الشوهاء، وبمناهجِهِ الضَّالة، وبرامجه الفاسقة… إذا بهذه الجامعات تزدحم بالطلاب العاشقين لفكر السَّيد الصدر وبالطالبات العاشقات لفكر السيدة بنت الهدى ممَّا أصاب النظام بصدمة عنيفة وقاسية فجنَّ جنونه، وأخذ يعتقل، ويبطش، ويرهب، ويسجن، ويعدم…


أصبح فكر الصدر، وكتابات السَّيد الصدر، وفكر السَّيدة بنت الهدى، وكتابات السَّيدة بنت الهدى وثائق إدانة كافية للحكم بالإعدام…
ورغم الإرهاب المرعب الذي مارسه النظام الحاكم في العراق فقد استمر السَّيد الصدر واستمرت السَّيدة بنت الهدى في جهادهما العلمي والثقافي وقد كلَّفهما ذلك أثمانًا باهظة، إلَّا أنّ حماية الدِّين، وتحصين الأجيال، ومواجهة الفكر الضَّال، والثقافة الزائفة مسؤولية ترخص عندها كلّ الأثمان الباهظة، حتى لو كانت أرواحًا ودماءً وسجونًا وزنزانات ومشانق، وأحواض (تيزاب) ومقابر جماعية…


استمر السَّيد الصدر في جهاده العلمي والثقافي وكذلك السَّيدة بنت الهدى…
واستمر عشَّاق السَّيد الصدر يتهافتون على فكر السَّيد الصدر، وفكر السَّيدة بنت الهدى، وإنْ كلَّفهم ذلك حياتهم وأرواحهم ما دام ذلك ينقدهم من الفكر الضَّال والمنحرف…


وهنا أحب أنْ تكون لي وقفة مع دور الشهيدة بنت الهدى العلمي والثقافي والتربوي وليس السِّياسي:
1-  كانت محاضِرةً من الطراز الكبير، فهي مملوءة علمًا وثقافة، وتملك قدرة مميِّزة في الإلقاء، وقد استطاعت من خلال محاضراتِها أنْ تنتج جيلًا مؤمنًا، واعيًا، مجاهدًا، من فتيات العراق، هذا الجيل الطليعي الذي شكَّل حصنًا منيعًا في مواجهة تيار التغريب الثقافي للمرأة المسلمة، وفي مواجهة كلّ محاولات التذويب لشخصية المرأة وكرامتها وعفَّتها.


2-  كانت الشهيدة بنت الهدى كاتبة ومؤلفة أغنت المكتبة الإسلامية بعدد كبير من كتاباتها الإسلامية الناضجة التي برهنت على قدرة علمية راقية، وعلى قابلية أدبية فائقة، فكتاباتها تأخذ غالبًا أسلوب القصة، الأمر الذي جعل هذه الكتابات تستقطب الشبان والشابات لما تحويه من طرح لأفكار الإسلام ومفاهيم العقيدة بلغة قصصية رائعة شيِّقة مع عمق ونضج في الطرح والتحليل…


 
3- كانت الشهيدة بنت الهدى تشرف على عدَّة مدارس دينية للبنات في النجف الأشرف، وفي بغداد، وقد تخرَّج من هذه المدارس أعدادٌ كبيرة من المؤمنات الملتزمات الواعيات الرساليات المجاهدات، فالجيل الطليعي من بنات العراق ومن نساء العراق، هذا الجيل الذي برهن على كفاءته الإيمانية، وعلى قدراته الرسالية، وعلى دوره الفاعل في العمل الإسلامي والجهادي هذا الجيل النسوي الطليعي كان من صنع الشهيدة بنت الهدى رضوان الله عليها…


 


أقلام الفتنة والتأزيم.. مَنْ يُغذِّيها؟


دائمًا تتحرَّك في السَّاحات كلمتان:
كلمةٌ طيِّبةٌ تزرعُ الخيرَ والحقَّ والعدل والفضيلةَ والمحبَّةَ والألفةَ والتسامحَ والأمنَ والسَّلام…
وهذه الكلمة التي مثَّلها القرآن بالشجرة الطيِّبة:
﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء، تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا…﴾. {إبراهيم/24-25}
الشجرة الطيِّبة متجذِّرةٌ في الأرض، تتحدَّى كلَّ الأعاصير مهما كانت قوَّتها، وتمتد فروعُها وغصونُها في السَّماء امتدادًا كبيرًا يعطيها ثقلًا وقوةً، وأمَّا عطاؤها فثمارٌ جنيَّةٌ وافرةٌُ دائمةٌ لا تنقطع…
وهكذا الكلمة الطيِّبة متجذِّرةٌ في كلِّ العقول وفي كلِّ القلوب وفي كلِّ الحياة…
وهذه الكلمةُ الطيِّبةُ ثابتةٌ وقويَّةٌ وصُلبةٌ وصامدة تتحدَّى كلَّ الأعاصير الفكرية والثقافية والاجتماعية والسِّياسية، فهي كلمةٌ لا تعرف الضعف، والهزيمة، والمساومة، والمداهنة، والخنوع، والاستسلام…
أمَّا عطاؤها فالخير كلّ الخير، والطهر كلّ الطهر، والحقّ كلّ الحق، والعدل كلّ العدل، والأمن كلَّ الأمن…



وكلمةٌ أخرى هي الكلمةُ الخبيثةُ: تنزعُ الشرَّ، والباطلَ، والظلمَ، والرذيلة، والكراهيةَ، والخلاف، والعنف، والإرهاب، والتطرُّف…
وهذه الكلمةُ هي التي مثَّلها القرآن بالشجرةِ الخبيثةِ:
﴿وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ﴾. {إبراهيم/26}


الشجرة الخبيثة لا تملك جذورًا قويَّة تمتد في الأرض، فهي لا تقوى أنْ تواجه أيَّ اهتزاز مهما كان ضعيفًا وهي لا تحمل ثمرًا طيبًا ينفع النَّاس، بل لا تملك ظلًّا يحمي من الشمس والحرِّ، فلا خير فيها، ولا نفع ولا عطاء..
وهكذا الكلمةُ الخبيثةُ لا تملك تجذرًا في العقول ولا في القلوب، ولا في كلِّ الحياة…


وهذه الكلمةُ الخبيثة مهزوزةٌ، وضعيفةٌ، ومسترخيةٌ، ومهزومةٌ، لا تملك القدرةَ أنْ تواجه أيَّ تحدِّي وإنْ كان ضعيفًا، ولا تقوى أنْ تقف أمام الأهواء الفكرية والأباطيل الثقافية، والألاعيب السِّياسية..
فهي كلمة لا تعرف القوةَ، والإرادةَ، والثباتَ، والتحدِّيَ، بل هي كلمة مداهنةٌ، مساومةٌ، خانعةٌ، مستسلمةٌ، رخيصةٌ، تافهةٌ…
فعطاؤها الشَّر كلَّ الشَّر، والقذارة كلَّ القذارة، والباطلَ كلَّ الباطلَ، والظلمَ كلَّ الظلم، والرُّعبَ كلَّ الرُّعب…


في ساحاتنا أقلامُ فتنةٍ وتأزيم…
أين موقعها بين الكلمة الطيبة والكلمة الخبيثة؟
ومَنْ يُغذِّي أقلامَ الفتنةِ والتأزيم؟

بلا شك، إنَّ هذه الأقلام موقعها في خانة الكلمة الخبيثة، فهي أقلامٌ تملأ أرضَنا ووطَننا وكلَّ أجوائنا بفتن عمياء، لو قدّر لها – لا سمح الله – أنْ تنفلت فهو الهلاك كلّ الهلاك لهذا الوطن، وهو الدمار كلّ الدمار لهذا البلد، وهو الاحتراق كلّ الاحتراق لهذه الأرض، إلّا أنَّ أبناء هذا الوطن – ولله الحمد – لن ينجرُّوا إلى محرقة الفتنة الطائفية التي تحرِّكها قوى لا تريد الخير لهذا الشعب، بل تريد له كلَّ الشر…


شعبنا بسنَّتِهِ وشيعتهِ وبكلِّ مكوِّناتِه عصيٌّ إنْ شاء الله على كلِّ منتجات الفتنة والتي يُغذِّيها مجموعة عوامل ومحرِّكات..


يُغذيها غبشٌ ديني أنتج تطرُّفًا في الفهم وزيفًا في الرؤية ونزقًا في الفكر وفرَّخ جماعاتٍ تكفيرية طائشة…
ويُغذِّيها جهلٌ وتعصبٌ أعمى… 
وتُغذِّيها مصالحُ وأهواءٌ وأغراضُ دنيا…
تُغذِّيها قوى معاديةٌ لشعوبنا العربية والإسلامية، تجد في صراعاتِ المسلمين ما يُحقِّق مصالحها وأهدافها وهيمنتها على أوطاننا وبلداننا…
وكذلك تُغذِّيها أنظمة حكم وسياسة ترى أنَّ بقاءَها لا يتحقَّق إلَّا أنْ تعيش الشعوب معتركاتٍ طائفيةً وسياسيةً وحزبيةً، ولأنَّ الوحدة بين مكوِّنات الشعوب تجهض مشروعاتِ العبث والفساد لدى الأنظمة الحاكمة…


إنَّ الذين يحملونَ وعيَ الدِّين، وأصالة الانتماء إلى المبدأ الحقِّ، والاستعلاء على الأهواء والمصالح الذاتية، والبصيرة بمخطَّطات أعداء الأمَّة، وبكلِّ مشروعاتِ السِّياسة الفاسدة، هؤلاء لا يمكن أنْ يكونوا أدواتٍ لإنتاج الفتن الطائفية، ولإنتاج المعتركات المذهبية، ولا يمكن أن يكونوا أدواتٍ للعبث بأمن الأوطان ووحدة الشعوب…
لا يوجد عاملٌ أشدُّ فتكًا بمشروعات الإصلاح السِّياسي من (أقلام الفتنة) التي تقبع وراء الإعلام، والصحافة، ومنابر دين…
وهذا الوطن مشحونٌ بهذا النمط من الأقلام وما دامت هذه الأقلام تمارسُ دورها السيِّئ فإنَّ كلَّ الجهود المتحرِّكة لإنتاج تفكير في حلٍّ سياسي لواقع هذا البلد المأزوم تتعثُّر وتفشل وتسقط…
لا أتحدَّث هنا على إنتاج حلٍّ سياسي فهي مرحلة لم تبدأ بعد، أتحدَّث عن مسألة التفكير في إنتاج الحلِّ، وهذا التفكير لا زال مُتعثرًا لدى مَنْ بيده (قرار الحلِّ السِّياسي).


ولا شكّ أنَّ قرار الحلِّ السِّياسي بيد النظام، وإذا تعطَّل هذا القرار فهو بإرادة النظام، وإذا تحرَّكت أقلام الفتنة والتأزيم لقتل أيَّ تفكير أو تحرّك في اتجاه قرار الحلِّ، فهذا أيضًا ليس بعيدًا عن رغبة النظام، خاصة وأنَّ أقلام الفتنة والتأزيم تملك أدواتٍ ليست خارجة عن سلطة النظام…


لا يعني هذا أنَّنا نبرِّأ الشارع وقوى الشارع من وجود بعض منتجات للفتنة والتأزيم ففي السَّاحة مَنْ يمارس هذا الإنتاج عن عمد أو جهل أو خطأ، وهو كذلك مرفوضٌ ومدان ومجرَّم، فإنتاج الفتنة لا يقرّه شرع ولا عقل ولا قانون، وهو ليس في صالح الشعوب والأوطان…
ويبقى أنَّ إنتاج الفتنة المعدوم من قبل أنظمة الحكم هو الأخطر، وهو الأقوى في إعاقة مشروعات الإصلاح السِّياسي…


ورغم أنَّ أنظمة السِّياسة تدين دائمًا خطابات الفتنة والتأزيم إلَّا أنَّ الواقع يؤكِّد عكس ذلك فإنَّ المتابع لإعلام هذه الأنظمة أو للأقلام والمنابر المدعومة من قبل السِّياسات الحاكمة يُصدم بحجم التحريض المكشوف ضدَّ طوائف وفئات ومكوِّنات شعوب لها ثقلها الكبير، والشواهد على ذلك كبيرة وكثيرة ولا تحتاج البرهنة عليها إلى عناء وبحث، وما يجري في بلدنا الحبيب البحرين من خطاباتٍ معبَّأة بالتحريض وتحت مسمَّياتٍ متعدِّدةٍ واضحة كلّ الوضوح لكلِّ ذي سمع وبصر، فلا يمر يوم إلَّا والصحافة المحرِّضة تحمل كلمات القذف والسَّب، والتخوين، والتحريض، ورغم كلّ هذا الحشد من التحريض والقذف فإنَّنا لا نسمح بردود فعلٍ تتحرَّك في نفس السِّياق لأنَّ مقابلة القذف بقذف، والتحريض بتحريض، هو الفتنة العمياء التي تحرق الأوطان وتدمِّر البلدان، وتقتل كلَّ الأمن والأمان، فالعقل العقل، والحكمة الحكمة، رحمة بهذا الوطن وبهذا البلد…
حمى الله البلاد والعباد من شرِّ الفتن والمحن..


وآخرُ دعوانا أن الحمدُ للهِ ربِّ العالمين.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى