حديث الجمعةشهر محرم

حديث الجمعة 444: وَقْفَاتٌ بعدَ مَوْسمِ عاشوراء

بسم الله الرَّحمن الرَّحيم
الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وأفضلُ الصَّلواتِ على سيِّدِ الأنبياءِ والمرسلين محمَّدٍ وعلى آلِهِ الهداةِ الميامين وبعد:

وَقْفَاتٌ بعدَ مَوْسمِ عاشوراء

بعد كلِّ مَوْسمٍ عاشورائيٍّ نحتاج إلى بعضِ وَقْفَاتٍ:

الوَقْفَةُ الأولى: المراجعةُ والمحاسبةُ
أنْ نمارسَ مُراجعةً، ومحاسبةً، ونقدًا، وتقويمًا بعد كلِّ موسمٍ عاشورائيٍّ أمرٌ في غايةِ الضَّرُورةِ والأهميَّةِ؛ كون هذا الأمرِ يُساهم بدرجةٍ كبيرةٍ في تجذير الصِّيغةِ الأصيلة لمراسيم عاشوراء، وفي تصحيح الممارسات، وتنقيتِها من كلِّ ما هو دخيل، ومن كلِّ ما يصطدم مع رؤى الشَّرع.
إنَّ غيابَ المراجعةِ، والمحاسبة، والنَّقد، والتَّقويم يُكرِّسُ الأخطاءَ، والتَّجاوزاتِ، والممارسات الدَّخيلة، وما حدث هذا التَّكريس إلَّا نتيجة الصَّمت خشية ورودِ فعل من جمهور يتعاطى مع تلك الممارسات، والتي أصبحت في نظره مقدَّسة، قداسة الشَّعائر، وقداسة عاشوراء، وهكذا أصبح يحرم المساسُ بها!

وقد شكَّل هذا خوفًا لدى الكثيرين من أنْ يلامسوا تلك الممارسات بنقد، أو محاسبة، أو كلمة؛ لكي لا يتعرَّضوا إلى اتِّهام بمحاربة شعائر عاشوراء.
وبمرور الزَّمن (تشرعنت) تلك الأفعال، وتحوَّل نقدُها عملًا محرَّمًا ومرفوضًا لدى مساحة من جمهور عاشوراء.

رُبَّما يُقال: إنَّ تلك الممارسات – موضوعة النَّقد، والمحاسبة – مدعومةٌ بفتاوى فقهيَّةٍ صادرةٍ عن فقهاء معتمدِين لدى الطَّائفة، فلا مبرر للاعتراض عليها، وإثارة الشُّكوك حولها.
ومع كلِّ التَّقدير والاحترام لأيِّ فقيهٍ له مكانتُه العلميَّة، إلَّا أنَّه نلاحظ على هذا الكلام:
أوَّلًا: إنَّ ثمَّة ممارساتٍ لا تحظى بأيِّ فتوى فقهيَّةٍ، وإنَّما هي من إنتاج مزاجاتِ وانفعالاتِ عوام النَّاسِ، وربَّما كانوا صادقين ومخلصين، إلَّا أنَّ هذا الشَّأن لا يجوز أنْ يترك لهذه المزاجاتِ والانفعالاتِ، وإلَّا أصبحت مراسيم عاشوراء عرضةً للتَّشويه، والابتذال، وربَّما للاختراق من قبل مَنْ يريد الشَّرَّ بهذه المراسيم.

ثانيًا: وإنْ وُجدتْ فتاوى تدعم بعض الممارسات العاشورائيَّة – موضوعة الجدل -، فتلك الفتاوى في الغالب ناظرة إلى (العناوين الأوَّليَّة)، في حين أنَّ هناك (عناوين ثانويَّة) حاكمة على العناوين الأوَّليَّة.

مثلًا: من الإشكالات التي تواجه بعض الممارسات العاشورائيَّة (إشكال الإضرار بالنَّفس) المحرَّمة في الشَّريعة.
وقد أجاب الدَّاعمون لتلك الممارسات أنَّ (الإضرار بالنَّفس) المحرَّم في الشَّريعة هو ما يؤدِّي إلى (الهلاك)، وليس كلّ إضرار.

لو سلَّمنا بهذا، وهو محلُّ تأمل، فإنَّ العناوين الثَّانوية حاكمة على العناوين الأوَّليَّة، فأغلب تلك الممارساتِ أصبحتْ تِشكّل (توهينًا، وتضعيفًا، وتشويهًا لسمعةِ المذهب، وسمعة عاشوراء).
أَلَا تشاهدُونَ، أَلَا تقرأونَ، ألَا تسمعون ما يروَّج في وسائل إعلام عالميَّة، وفي وسائل تواصل من كلماتٍ، وصورٍ، ولَقَطَاتٍ، ومشاهدَ تمثِّل تعبئةً مضادةً ضدَّ عاشوراء، وضدَّ المنتمين إلى عاشوراء.

ربَّما لقطة واحدة تصادر معطيات كبرى لموسم عاشوراء، ربَّما كلمة واحدة تسقط قِيَمة العشرات من الخُطب، والمحاضرات.

قد يُقال: إنَّنا لا يجوز أنْ نقوِّم ممارساتِنا وشعائِرَنا من خلالِ مواقفِ الآخرين – قبولًا، أو رفضًا – وإلَّا فأعداء الإسلام، أو أعداء المذهب يحاولون دائمًا أنْ يحاربوا شعائرَنا، ومقدَّساتِنا، وحتَّى أهم الضَّرورات التي نمارسها، فحَارَبُوا القرآن الكريم، وحاربوا النَّبيَّ الأعظم (صلَّى الله عليه وآلِهِ وسلَّم)، فهل أنَّ سخرية هؤلاء من بعض (شعائِرِنا)، أو (مقدَّساتِنا)، أو (عباداتِنا) يبرِّر لنا أنْ نرفضها، ونتخلَّى عنها؟!

هذا الكلام فيه الكثير من الالتباس إنْ لم يكن المغالطة.
هناك نمطان من الأعمال والممارسات:

النَّمط الأوَّل: ما هو من الثَّوابت، والضَّرورات، والمُسلَّمَات الدِّينيَّة، أو المذهبيَّة.
هذا النَّمط من الممارساتِ والعباداتِ والشَّعائر لا يجوز التَّنازل عنه، حتَّى لو سخر كلُّ العالم منه، وحتَّى لو ملأوا الدُّنيا إعلامًا مسيئًا له.

النَّمط الثَّاني: ما هو ليس كذلك، وإنَّما هو أعمال وممارسات اخترعناها ربَّما تكون صوابًا، وربَّما تكونُ خطأً، فلا يجوز أنْ نعطيها (قداسة، وموقعيَّة) ما هو من مُسَلَّماتِ الدِّين، أو المذهب.
ففي ممارسات عاشوراء ما هو الثَّابت والضَّروري في المذهب كإقامةِ مجالسِ العزاءِ، والبكاءِ على سيِّد الشُّهداء الإمام الحسين بن عليٍّ (عليهما السَّلام)، فهذه ممارساتٌ يجب التَّمسُّك بها مهما كانت ردود الفعل الرَّافضة، ومهما كانت مواقف النَّقد، والسُّخرية، والاستهزاء؛ كونها ممارسات تستقي شرعيَّتها من نصوصٍ ثابتةٍ صادرة عن أئمَّة أهل البيت (عليهم السَّلام).
أمَّا الممارساتُ التي ابتدعها الوجدان العاشورائيُّ، أو بعض مزاجاتِ جمهور عاشوراء، فهذه الممارسات فيها ما هو الصَّحيح، وما هو الخطأ.

فأمَّا الخطأ، فيجب أنْ يَتَحَرَّر منه الموسم العاشورائيُّ، وأمَّا الصَّحيح فلا يجوز أنْ يرتقي إلى (الضَّروريِّ العاشورائيِّ)، وأنْ لا نتحرَّج من تغييره، أو تطويره، وحتَّى إلغائه إذا ترتَّب عليه عناوين ضارَّة بالمذهبِ، أو سمعة عاشوراء.

أعود لمسألةِ المراجعةِ والمحاسبةِ لمراسيم وممارسات عاشوراء، فمطلوب من هذه المراجعةِ والمحاسبةِ هدفان:

الهدفُ الأوَّل: تجذير المراسيمِ العاشورائيَّةِ الأصيلةِ والصَّحيحة، والدِّفاعُ عنها في مواجهته كلَّ محاولاتِ الإلغاء والإساءة، خاصَّة في هذا العصرِ حيث جنَّدت وسائل إعلام مضادَّة؛ لمحاربة عاشوراء بعد أنْ أصبح لعاشوراء حضورٌ عالميٌّ كبيرٌ، فما عادتْ عاشوراءً شأنًا مذهبيًّا، أو شأنًا محلِّيًّا، فقد استقطبت عاشوراءُ أنظارَ العالم، وإعلامَ العالم، وهنا نشطت الحرب المضادَّة لعاشوراء!

الهدفُ الثَّاني: تنقيةُ المراسيم العاشورائيَّة من كلِّ ما هو دخيلٌ، ومسيئٌ، ومشوِّهٌ لسُمعةِ المذهب، ولسُمعةِ عاشوراء، ويجب أنْ نمارس المراجعة والمحاسبة، وتنقية المراسيم العاشورائيَّة بكلِّ موضوعيَّةٍ وصراحة.

إنَّ تنقية المراسيم العاشورائيَّة مسألةٌ في غايةِ الضَّرورة والأهميَّةِ كون هذا يُحصِّن عاشوراء ضدَّ الحرب الموجَّهة إلى موسم عاشوراء.

هنا إشكالٌ يُطرحُ، هذا الإشكال يقول: إنَّ ممارسة النَّقد والمحاسبة لبعض مراسيم عاشوراء له بعض النَّتائج الضَّارَّة، من أهم هذه النَّتائج (خَلْق أجواء متأزِّمة، وإنتاجُ خلافاتٍ وصراعاتٍ وتجاذباتٍ ضارَّةٍ بأجواء هذا الموسم العاشورائيِّ، ومربِكةٍ للعلاقات بين جماهير عاشوراء).
يُضاف إلى ذلك أنَّ هذه التَّأزُّماتِ، والخلافاتِ تُشغل الجمهورَ العاشورائيَّ عن (اهتماماتٍ كبرى) فيما هي قضايا ومطالبُ وهموم هذا الشَّعب المصيريَّة، فمِن المصلحة أنْ تجمَّد كلَّ الخلافات؛ لكي لا تسقط تلك (الاهتمامات الكبرى).

أجيب عن هذا الإشكال:
أوَّلًا: من الطَّبيعي جدًّا أنَّ محاسبة أيِّ ظاهرة خطأ، دينيَّةً كانت، أم ثقافيَّةً، أم اجتماعيَّةً، أم سياسيَّةً هذه المحاسبة تسبِّبُ انقسامًا، وخلافًا، وربَّما توتُّرًا، وتأزُّمًا، إلَّا أنَّ هذا لا يبرِّر الصَّمت، وإلَّا تجذَّرت الظَّواهر الخطأ.

ثانيًا: يجب أنْ نوازن بين (مُنتجات الخلاف)، و(حجم الخطر على المذهب، وعلى سمعة عاشوراء)، فيقدَّم ما هو الأهم.
وكذلك في الموازنة بين (مُنتجات هذا الخلاف)، و(مستوى مصادرة الهموم الكبرى).
وهنا تكونُ الحاجةُ إلى (رؤية فقهيَّة بصيرة)، وأنْ لا يُتركُ الأمر إلى (مزاجاتِ، وانفعالات الشَّارع).

ثالثًا: إنَّ أسلوبَ ولغةَ المحاسبة هو الَّذي يُحدِّدُ مستوى (ردود الفعل)، فكلَّما كان الأسلوب حكيمًا ورشيدًا، وكلَّما كانت اللُّغة مَرِنةٍ وليِّنةٍ كان ذلك مُحصِّنًا للواقع في مواجهةِ التَّشنُّجاتِ، والخلافاتِ، والصِّراعات، والتَّأزماتِ، فهذه المُنْتَجَات السَّلبيَّة – في الغالب – هي نتاجُ معالجاتٍ غيرِ حكيمةٍ، وغيرِ رشيدةٍ، ونتاجُ لغة متشدِّدة، وقاسية.

الوقفة الثَّانية: قراءةٌ في مُنْتَجاتِ المنبر العاشورائيِّ
وأركِّز – هنا – على (المنبر العاشورائيِّ)؛ كونه المفصلُ الأبرزُ والأهمُ في الموسم العاشورائيِّ.
بمقدار نجاح، أو فشل المنبر العاشورائيِّ تَتَحدَّدُ درجةً عاليةً من نجاح، أو فشل الموسم العاشورائيِّ.

كيف نقوِّمُ نجاحَ، أو فشلَ المنبرِ العاشورائيِّ؟

هل من خلال اجتذاب، أو عدم اجتذابِ الجمهور العاشورائيِّ؟

لا شكَّ أنَّ قدرة المنبر العاشورائيِّ على اجتذاب الجمهور، أو فشل المنبر في اجتذابِ الجمهور يُمثِّل مظهرًا مهمًّا من مظاهر نجاح، أو فشل الموسم العاشورائيِّ.
إلَّا أنَّ الأمر في حاجة إلى تقويم أسبابِ الاجتذاب، وأسباب الفشل.
فهل أنَّ أسباب الاجتذاب تتمثَّل في (ارتقاء مستوى أداء المنبر العاشورائيِّ)؟
وأنَّ أسباب الفشل تتمثَّل في (انخفاض مستوى أداءِ المنبر العاشورائيِّ)؟
إذا كان الأمر كذلك، فهذا معيار صائب؛ لتقويم نجاح، أو فشل المنبر العاشورائيِّ.
فمنبر مؤهَّل، وكفوء حقيق بأنْ يمتلك قدرة وصلاحية الاجتذاب، ومنبرٌ غير مؤهَّلٍ وكفوءٍ جدير بأنْ لا يمتلك هذه القدرة والصَّلاحية.

وحينما نتحدَّث عن التَّأهيل المنبريِّ نتحدَّث:
-عن تأهيلٍ علميٍّ، وثقافيٍّ.
-وعن تأهيلٍ روحيٍّ، وأخلاقيٍّ، وسلوكيٍّ.
-وعن تأهيلٍ خطابيٍّ.
ولا يحقِّق المنبر العاشورائيُّ أهدافه إذا لم تقترن المؤهَّلات العلميَّة، والثَّقافيَّة، والخطابيَّة مع (المؤهَّلات الرُّوحيَّة، والأخلاقيَّة، والسُّلوكيَّة).
•قال الله تعالى:
﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ {فصلت/33}
•وقال تعالى:
﴿الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا﴾.( ) (سورة الأحزاب: الآية 39).
•وقال تعالى:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ﴾.( ) (سورة الصَّف: الآية 2-3).
•في الحديث عن النَّبيِّ (صلَّى الله عليه وآلِهِ وسلَّم) قال: “رأيتُ ليلة أُسْرِي بي إلى السَّماءِ قومًا تقرض شِفَاهُهُم بمقاريضَ مِن ناَرٍ، ثمَّ تُرمى!
فقلتُ: يا جبرئيلُ، مَنْ هؤلاء؟
فقال: خطباءُ أُمَّتِكَ، يأمُرونَ النَّاسَ بالبِرِّ، ويَنسَونَ أنفسَهُم وهم يَتلُونَ الكتاب، أفلا يعقِلُونَ”؟. (وسائل الشيعة 16/152، الحر العاملي).
•وعنه (صلَّى الله عليه وآلِهِ وسلَّم) قال: “…، يَطَّلعُ قومٌ مِن أهلِ الجنَّةِ على قوم من أهل النَّار، فيقولون: ما أدخلكم النَّار، وقد دخلنا الجنَّةَ لفضلِ تأديبكم، وتعليمكم؟!
فيقولون: إنَّا كنَّا نأمر بالخير، ولا نفعلُه، …”. (بحار الأنوار74/76، العلَّامة المجلسي).
فبقدر ما يكون خطباء المنبر العاشورائيِّ مؤهَّلين علميًّا، وثقافيًّا، وخطابيًّا تكون قدرتُهم على اجتذاب الجمهور، وبقدر ما يكونون ملتزمين روحيًّا، وأخلاقيًّا تكون قدرتهم على التَّأثير في الجمهور.

قد يقال:
إنَّ (المهارات الصَّوتيَّة)، و(قدراتِ النَّعْي) أصبحتْ هي العامل الأقوى في اجتذاب الجمهور العاشورائيِّ.

إنَّنا نعطي القِيمة الكبيرة لهذه (المهارات الصَّوتيَّة)، ولهذه (القُدُرَات في النَّعي)، فتصويرُ فاجعةِ عاشوراء في حاجةٍ إلى ذلك، وإلّاَ عجز المنبر أنْ يحرِّك وجدان وأحزان ودموع الجمهور إلَّا أنَّه لا يجوز إطلاقًا أنْ يكونَ (معيار الصَّوت)، و(معيار النَّعي) وحدَهما هما الأساسُ في تقويم المنبر العاشورائيِّ.

فالأساس هو (معيار الكفاءة)، و(معيار القدرة الخطابيَّة)، و(معيار الالتزام والتَّقوى)، فإذا غابت هذه المعايير كان المنبر غير مؤهَّل لحمل أهداف عاشوراء كاملةً، حتَّى لو استطاع أنْ يتجذب أكبر عدد من الجمهور، وأكبر قدر من التَّفاعل.
فيجب أنْ تتكامل (مهارات الصَّوت والنَّعي)، مع (المؤهَّلات العلميَّة)، و(الكفاءات الخطابيَّة)، و(معايير التَّقوى والالتزام)؛ لكي يؤدِّي المنبر العاشروائيِّ رسالته العظمى.
الوقفة الثَّالثة: ماذا عن تكرار (عشرة عاشوراء)؟

لا شكَّ أنَّ الموسم العاشورائيَّ الممتدَّ من بداية محرَّم حتَّى العاشر منه، أو حتَّى الثَّالث عشر، هذا الموسم له (خصوصيَّاتُه) التي لا يمكن أنْ تتكرَّر إطلاقًا.

نعم يُراد لعطاء الموسم العاشورائيِّ أنْ يستمرَّ، ويراد لقضيَّة كربلاء أنْ تتحرَّك، وهذا يعني أنْ تستمرَّ مجالس الحسين (عليه السَّلام)، وأنْ تتحرَّك كلمةُ عاشوراء.
وهكذا أكَّد أئمَّةُ أهلِ البيت (عليهم السَّلام) أنْ تبقى قضية الإمام الحسين (عليه السَّلام) حاضرة في ذاكرة كلِّ الأجيال، وفي وجدانهم، وفي حياتهم.

وهنا يُطرح هذا السُّؤال: ماذا عن ظاهرة إعادة (عشرة عاشوراء)؟
يرى البعضُ أنَّ في هذه الإعادة تجذيرًا لعاشوراء في وجدان النَّاسِ، إضافة إلى ما في ذلك من ثواب كبير.

ويرى فريق ثانٍ أنَّ في إعادة العشراتِ إرهاقًا واستهلاكًا لقدراتِ الجمهور، خاصَّةً بعد موسمٍ مشحونٍ باستنفار استثنائيٍّ للقُدُراتِ، والطَّاقاتِ والمشاعر، ولعلَّ ضعف الحضور في بعضِ العشراتِ مؤشِّرٌ على ذلك.

ويرى فريقٌ ثالث أنَّ في إعادة العشرات مصادرةً لوهج عاشوراء، واستنزافًا لوجدان عاشوراء.
فعاشوراء تأتي كلُّ عام وهي تحمل زخمًا كبيرًا من الوهج العاشورائيِّ، وزخمًا كبيرًا من الفوران العاشورائيِّ، فإذا تكرَّرت (العشرات) بنسختها الأولى العاشورائيَّة خمد هذا الوهج، ونضب هذا الفوران.

قد يقال: إنَّ فاجعة عاشوراء لا تبرد مهما تكرَّرت، ومهما سُمعت.
هذا كلام صحيح، إلَّا أنَّه يجب أنْ يبقى لموسم عاشوراء خصوصيَّته، وتميُّزه، ووهجه، وفورانه.

تصوَّروا أنَّ جمهورنا يستمع إلى (مصرع الحسين) بكلِّ تفصيلاته (خمس، أو عشر مرَّات في السَّنة) ألَّا يقلِّل هذا بمرور الزَّمن من وهج هذا المصرع؟

ما نخلص إليه: إنَّ إعادة (العَشَرة) لها صيغتان:
الصِّيغة الأولى: إعادة النَّسخة العاشورائيَّة تمامًا بكلِّ تفصيلاتها، وترتيبها، وكما هي أحداثها، ومجرياتها، ومصارعها.

هذه الصِّيغة لديَّ تحفُّظ كبير جدًّا عليها، ففي هذا استهلاك للوهج العاشورائيِّ، واستنزاف لوجدان كربلاء.

نعم، مطلوب أنْ تبقى مقاطع من عاشوراء متحرِّكة على امتداد الزَّمن، وأنْ تبقى الدَّمعة على الإمام الحسين (عليه السَّلام) ما بقي الدَّهر، وأنْ تبقى فاجعة كربلاء حاضرة في ذَاكرة ووجدان الأجيال.

الصِّيغة الثَّانية: أنْ يستمرَّ الحديث عن مدرسة عاشوراء، وهي مدرسة غنيَّةٌ بالعطاء الإيمانيِّ، والعقيديِّ، والثَّقافيِّ، والرُّوحيِّ، والأخلاقيِّ، والجهاديِّ.
ربَّما أنَّ موسم عاشوراء بما يفرضه من استحقاقاتِ البعد العزائيِّ، ومحدوديَّة الزَّمان فرض اختزال الحديث في مجريات عاشوراء فقط، أو في بعض مجرياتها، فمنبر عاشوراء لا يتناول من سيرة الإمام الحسين (عليه السَّلام) إلَّا ما جرى في كربلاء، وربَّما اتَّسع الحديث؛ ليمتدَّ من بداية خروج الإمام الحسين (عليه السَّلام) من المدينة، وحتَّى يوم عاشوراء، وهي مساحة زمنيَّة لا تتجاوز (السِّتة شهور، بل أقل)، فأين هي المساحة من حياة الإمام الحسين (عليه السَّلام) ،والتي تمتدُّ أكثر من (نصف قرن من الزَّمن)، فهذه المساحة غائبة في المنبر العاشورائيِّ.

كما أنَّ الإمام الحسين (عليه السَّلام) له تراث ضخم من الخُطب، والأدعية، والكلمات.
فكم استطاع المنبر العاشورائيُّ أنْ يتناول هذا التُّراث؟

وكذلك الكلام بالنِّسبة لبقيَّة شخصيَّات كربلاء.
أقول: إذا كان استمرار الموسم العاشورائيِّ؛ من أجل أنْ تنفتح أجيالنا على هذه المساحات الكبيرة من مدرسة الإمام الحسين (عليه السَّلام)، فهذا التَّكرار للعشرات له مبرِّراته، وضروراته.

وربَّما أستطيع أنْ أقول: حتَّى المساحة العاشورائيَّة في حاجة إلى معالجاتٍ لا زالت غائبة، فجمهور عاشوراء يختزن مجموعة كبيرة من التَّساؤلات في حاجة إلى إجابات.
وكذلك مجريات الأحداث بعد عاشوراء لم يُغَطَّ الحديث عنها.

وحتَّى منتجات الثَّورة الحسينيَّة، ومعطياتها، وأهدافها الاستراتيجيَّة، والمرحليَّة، والامتداديَّة، لم يستوعبْ منبر عاشوراء الحديثَ عنها بدرجة كافية.

إذا كان استمرار العَشَرات بغرض أنْ تُغطى كلُّ هذه الفراغات، فهو استمرار مطلوب وضروريٌّ، وهذا يفرض أنْ يتوفَّر منبرٌ قادرٌ وكفوء ومؤهَّل.

أمَّا إذا كان الغرض مجرَّد تكرار النسخة العاشورائيَّة، فالموقف يختلف، لأنَّ هذه النسخة يجب أنْ تبقى فريدة، ومتميِّزة، وغير قابلة للتَّكْرَار.

وهذا لا يعني أنْ لا يستمر الحزن العاشورائيُّ، وأنْ لا تستمر الأهداف العاشورائيَّة، هذا الاستمرار مطلوبٌ، ويجب أنْ نصرَّ عليه، وأنْ ندافع عنه، ولا نجد في هذا ما يعقِّد أوضاع الأوطان، فمدرسة عاشوراء هي مدرسة الإصلاح والبناء والتغيير، وخطاب عاشوراء هو خطاب المحبَّة والتسامح والتآلف، فكم هو مهم جدًّا أن تُستثمر أهداف عاشوراء، وخطاب عاشوراء في معالجة أوضاع الشعوب، وأزمات الأوطان، وهذا الكلام موجَّهٌ لأنظمة الحكم ولجميع القوى الدينية والسِّياسية والثقافية والاجتماعية، فعطاءات عاشوراء كبيرة جدًّا، وقادرة أن تقتحم العقول والقلوب متى ما أحسنَّا التوظيف والاستثمار.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى