حديث الجمعة 529: محاسبة النفس – رحيل آية الله العظمى السَّيِّد محمود الهاشميُّ أحد أساطين العلم
بسم الله الرَّحمن الرَّحيم
الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، وأفضلُ الصَّلواتِ على سيِّدِ الأنبياءِ والمرسلين محمَّدٍ، وعلى آلِهِ الهُداةِ الميامين.
محاسبة النَّفس
وبعد، فقد: جاء في الكلمةِ عن النَّبيِّ (صلَّى اللهُ عليه وآلِهِ وسلَّم): «حاسِبُوا أنفسَكُمْ قبل أنْ تُحاسَبُوا، وزِنوها قبل أنْ تُوزنوا، وتَجهَّزوا للعرضِ الأكبر». (ميزان الحكمة 1/619، الرَّيشهري).
محاسبة النَّفس هو ما يُسمَّى في هذا العصر بـ(نقد الذَّات).
أنْ نحاسب أنفسنا، يعني:
أنْ نمارس نقدًا ذاتيًّا؛ لنكتشف من خلالِهِ كلَّ ما لدينا من (إيجابيَّات)، و(سلبيَّات).
كثيرون لا يُبصرون في داخلهم إلَّا (الإيجابيَّات) فقط، أمَّا (السَّلبيَّات) فهي غائبة عن أبصارهم!
وهكذا تتضخَّم هذه (السَّلبيَّات)، وتكبر؛ لتصنع واقعًا منحرفًا وسيِّئًا لا يمكن السَّيطرة عليه.
فكما نحن مطالبون أنْ نتابعَ كلَّ (الإيجابيَّات) في داخلنا؛ من أجل أنْ (نقوِّيَها)، و(نمركزَها)؛ لتمارس أدوارها الفاعلة في حياتنا، وفي كلِّ واقعنا، فنحن مطالبون كذلك أنْ نلاحق كلَّ (السَّلبيَّات) في داخلنا؛ من أجل أنْ (نحاصرَها)، وأنْ (نقتلعَها)؛ لكي نحمي أنفسنا من كلِّ (أخطارها)، ومن كلِّ (منزلقاتها).
فالمحاسبة، أو (نقد الذَّات) ممارسة فاعلة تقوِّي (المسارات الصَّائبة) في حياتنا، وتصادر (المسارات الخطأ).
وبقدر ما تنجح هذه الممارسة الفاعلة نكون قد نجحنا في بناء أنفسنا، وفي تحصين أنفسنا.
التَّباين بين نقد الآخر، ونقد الذَّات
هنا أنبِّه إلى مسألةٍ خطيرة، وهي، (مسألة التَّباين الكبير بين نقد الآخر، ونقد الذَّات).
ويظهر هذا التَّباين من خلال مجموعة فُرُوقات واضحة، أشير إلى بعضٍ منها:
1-الإفراط في نقد الآخر، والتَّفريط في نقد الذَّات
حينما تكونُ المسألةُ (نقد الآخر)، فنحن ننشطُ، ونتحمَّس، ونتجاوز الحدَّ في النَّقد،
وحينما تكونُ المسألةُ (نقد الذَّات) فنحن نكسل، ونسترخي، ونتهاون!
2-القسْوة في نقد الآخر، واللِّين، والاسترخاء في نقد الذَّات
حينما يكون النَّقد موجَّها إلى الآخر، فنحن نقسو، ونتشدَّد.
وحينما يكون النَّقد موجَّها إلى الذَّات، فنحن نلين، ونسترخي!
3-بُصراء بعيوب الآخرين، وعُمْيٌ بعيوب أنفسنا
فنحن نملك عيونًا مفتوحة ترصد كلَّ عيوب الآخرين، إلَّا أنَّ هذه العيون عمياء عن كلِّ عيوبنا.
لا مشكلة أنْ نراقب كلَّ الأخطاءِ الصَّادرةِ من الآخرين، ولكن قبل ذلك نحن مسؤولون أنْ نراقب الأخطاء الصَّادرة منَّا.
مطلوبٌ أنْ نفتح عيونَنا على عيوبِنا أكثر ممَّا نفتحها على عيوب الآخرين.
4-نسيئ الظَّنَّ بكلِّ ما يصدر عن الآخرين، ونحسنُ الظَّنَّ بكلِّ ما يصدر عنَّا
فنحن نجد أحدنا – دائمًا – هو سيِّئ الظَّنِّ بما يصدر عن الآخرين من أفعال، ومواقف، وممارسات.
بينما نجده – دائمًا – يُحسنُ الظَّنَّ بكلِّ ما يصدر عنه من أعمالٍ، وممارسات!
5-شجعان حينما ننقد الآخرين، جبناء في نقد أنفسِنا
فتجد أحدنا حينما تكون المسألة في نقد الآخر هو شجاع وبطل، وحينما تكونُ المسألةُ في نقد الذَّات هو جبان، وخائر!
حينما نتحدَّثُ عن نقد الذَّات
ماذا نعني بالذَّات؟
أوَّلًا: نعني بالذَّاتِ: (الفرد)
مطلوب من كلِّ (فرد) أنْ ينقد نفسه.
أنْ يحاسبها.
أنْ يتابع كلَّ أوضاعِها.
كلَّ إيجابيَّاتها.
وكلَّ سلبيَّاتها.
كلَّ طاعاتها.
وكلَّ معصياتِها.
كلَّ خيرِها.
وكلَّ شرِّها.
هذا ما أكَّدته النُّصوص الدِّينيَّة:
1-قال رسول الله (صلَّى اللهُ عليه وآلِهِ وسلَّم) – كما في الحديث الذي افتتحت به الكلمة -: «حاسبوا أنفسكم قبل أنْ تحاسَبُوا، وزنوها قبل أنْ توزنوا، وتجهَّزا للعرض الأكبر». (ميزان الحكمة 1/619، الرَّيشهري).
2-وقال (صلَّى اللهُ عليه وآلِهِ وسلَّم): “أكيسُ الكيِّسين مَنْ حاسَبَ نفسَهُ، وعمل لما بعد الموت.
وأحمق الحمقى من اتَّبَع نفسه هَوَاها، وتمنَّى على الله الأماني». (ميزان الحكمة 1/618، الرَّيشهري).
3-وقال (صلَّى اللهُ عليه وآلِهِ وسلَّم): «لا يكون العبدُ مؤمنًا حتَّى يحاسبَ نفسَهُ أشدَّ من محاسبةِ الشَّريك شريكه، والسَّيِّدِ عبده». (ميزان الحكمة 1/619، الرَّيشهري).
4-وقال الإمام الصَّادق (عليه السَّلام): «فحاسِبُوا أنفسَكُمْ قبل أنْ تُحاسبُوا، فإنَّ أمكنةَ القيامةِ خمسون مَوْقِفًا، كلُّ مَوْقفٍ مقامُ ألف سنةٍ، ثمَّ تلا هذه الآية: ﴿… فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ﴾ (المعارج: 4)». (ميزان الحكمة 1/619، الرَّيشهري).
ثانيًا: ونعني بالذَّات: (الكيان الدِّينيَّ)، أو (الكيان المذهبيَّ)
فكما يجب أنْ نحاسب (الذَّات / الفرد) يجب أنْ نحاسب (الذَّات / الكيان) دينيًّا هذا الكيان، أو مذهبيًّا.
نعني بالكيان الدِّينيِّ: الانتماء إلى أحد الأديان.
ونعني بالكيان المذهبيِّ: الانتماء إلى أحد المذاهب.
ونعني بمحاسبة (الانتماء الدِّينيِّ)، أو (الانتماء المذهبيِّ):
أنْ نحاسب مُبرِّراتِ الانتماء.
أنْ نحاسب مصداقيَّة الانتماء.
أنْ نحاسب ممارسات الانتماء.
أنْ نحاسب المواقف من الانتماءات الأخرى.
أنْ نحاسب عصبيَّة الانتماء.
فانتماؤنا إلى (دين)، أو إلى (مذهب) لا يعني أنْ نمارس (العصبيَّة) ضدَّ الأديان الأخرى، أو ضدَّ المذاهب الأخرى.
فالعصبيَّة مرفوضة كلُّ الرَّفض.
أنْ يكون الإنسان منتميًا إلى دين تلك قناعته، ومن حقِّه أنْ يدافع عن انتمائه الدِّينيِّ، ومن حقِّه أنْ يحاور الآخرين ما دام الحوار علميًّا ونزيهًا.
ولكن ليس من حقِّهِ أنْ يمارس (التَّعصُّب) البغيض ضدَّ الأديان الأخرى.
وأنْ يكون الإنسان منتميًا إلى مذهب تلك قناعتُه، ومن حقِّهِ أنْ يدافع عن انتمائِهِ المذهبيِّ، ومن حقِّهِ أنْ يحاور الآخرين ما دام الحوار علميًّا، ونزيهًا، ولكن ليس من حقِّهِ أنْ يمارس (التَّعصُّب) البغيض ضدَّ المذاهب الأخرى.
1-قال رسول الله (صلَّى اللهُ عليه وآلِهِ وسلَّم): «مَنْ تعصَّب، أو تُعصِّب له، فقد خلع ربقة الإيمان من عنقه.
وفي نقل: فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه». (ميزان الحكمة 3/1992، الرَّيشهري).
2-وقال (صلَّى اللهُ عليه وآلِهِ وسلَّم): «مَنْ كان في قلبه حبَّة مِن خردلٍ مِن عصبيَّةٍ بعثه الله يوم القيامة مع أعراب الجاهليَّة». (ميزان الحكمة 3/1992، الرَّيشهري).
3-وقال (صلَّى اللهُ عليه وآلِهِ وسلَّم): «ليس مِنَّا مَنْ دعا إلى عصبيَّةٍ!
وليس مِنَّا مَنْ قاتل على عصبيَّةٍ!
وليس مِنَّا مَنْ مات على عصبّية». (ميزان الحكمة 3/1992، الرَّيشهري).
هكذا يتشدَّد الإسلام في محاربة (العصبيَّة المذمومة).
وهنا ذكَّرت الأحاديث أنَّه ليس من العصبيَّة المذمومة:
1-التَّعصُّب لنصرة الحقِّ.
2-التَّعصُّب لنصرة المظلوم.
3-الدِّفاع عن الانتماء.
4-التَّعصُّب للقِيَم الحقَّة.
5-أنْ يحبَّ الإنسان قومه.
•سئل الإمامُ زين العابدين (عليه السَّلام) عن العصبيَّة، فقال: «العصبيَّة التي يأثم عليها صاحبُها أنْ يرى الرَّجل شرارَ قومِهِ خيرًا من خيارِ قومٍ آخرين، وليس من العصبيَّة أنْ يُحبَّ الرَّجلُ قومَهُ، ولكن من العصبيَّة أنْ يُعين قومَهُ على الظُّلم» (ميزان الحكمة 3/1992، الرَّيشهري).
أيُّها الأحبَّة:
إنَّ من أجلى مصاديق (نقد الذَّات = محاسبة النَّفس) أنْ يمارس المنتمون إلى هذا الدِّين، أو إلى ذاك الدِّين، وأنْ يمارس المنتمون هذا المذهب، أو إلى ذاك المذهب، أنْ يمارس هؤلاء المنتمون دينيًّا، أو مذهبيًّا (نمط الانتماء)، و(نمط العلاقة مع الانتماءات الأخرى)؛ لكيلا يتحوَّل الانتماء (تديُّنًا منغلقًا)، أو (تَمَذْهُبًا بغيضًا)، أو (تعصُّبًا أعمى)، أو (طائفيَّة طائشة).
ثالثًا: ونعني بالذَّات: (الكيانَ السِّياسيُّ)
ومن مصاديق هذا العنوان:
1-أنظمة الحكم.
2-الأحزاب، والتَّنظيمات، والجمعيَّات السِّياسيَّة.
3-جمهور السِّياسة (الشَّارع السِّياسيُّ).
فحينما يكون الحديث عن (نقد الذَّات)، فهو يمتدُّ بكلِّ تأكيد إلى (الذَّات) التي تشكِّل (كيانًا سياسيًّا).
فإذا كان (الفرد) مطلوبًا أنْ يمارس (نقدًا ذاتيًّا)، وإذا كان (الكيان الدِّينيُّ، والمذهبيُّ) مطلوبًا أنْ يمارس (نقدًا ذاتيًّا)، فإنَّ من أخطرِ (المواقع) الَّتي يجب أنْ تمارس (النَّقد الذَّاتيَّ) الكيانات السِّياسيَّة ممثَّلة في أنظمة حاكمة، وأحزابٍ، وتنظيمات، وجماهير تمثِّل شارعًا سياسيًّا.
لا شكَّ أنَّ الأنظمة الحاكمة النَّاجحة هي الَّتي تمارس (المراجعة الدَّائمة) لكلِّ المسارات، (المراجعة الدَّائمة) لكلِّ المسارات، والسِّياسات والبرامج، والمشاريع، والقوانين؛ لكيلا تتراكم (الأخطاء)، فتتحوَّل إلى (أزمات خطيرة)، بل إلى (مآزق مدمِّرة)،
وعندها تصبح (الحلول) معقَّدة، وتصبح (الخَيَارات) مرتبكة.
ولا شكَّ أنَّ (الكيانات السِّياسيَّة) ممثَّلة في أحزاب، وتنظيمات، وجمعيَّات هي الأخرى مطلوب منها وبدرجة كبيرة أنْ تمارس (نقدًا ذاتيًّا) لكلِّ (أهدافِها) و(استراتيجيَّاتِها)، و(خَيَاراتِها)، و(علاقاتِها)، و(مواقفِها)، و(قناعاتِها).
هذه المراجعة والمحاسبة ضروريَّة جدًّا؛ من أجل أنْ تبقى هذه (القُوى) حيَّةً، وفاعلةً، وقادرةً أنْ تُحقِّق أهدافها، أو بعض أهدافها، وقادرةً على أنْ تمارس حركتها بنجاح في زحمة (المعوِّقات)، و(المتغيِّرات).
ولا شكَّ كذلك أنَّ (جمهور السِّياسة)، أو (شارع السِّياسة) يجب أنْ يمارس (النَّقد الذَّاتيَّ) لكلِّ مواقفِهِ، ورؤاه، ولكلِّ شعاراتِهِ وأهدافِهِ، ولكلِّ همومِهِ، ومزاجاتِه.
لا يعني هذا أنْ يتخلَّى عن (أهدافه المشروعة)، إنَّما هي المراجعة للخَيَارات، والأدوات، والمسارات.
وإنَّما هي المراجعة للمَزَاجات، والمشاعر، والعواطف.
وإنَّما هي المراجعة للكلمات، والشِّعارات.
وهكذا ينتظم في (مسارات النَّقد الذَّاتيِّ): الأفراد، والانتماءات الدِّينيَّة، والمذهبيَّة، والكيانات السِّياسيَّة، ويضاف إليها كلُّ الكيانات الثَّقافيَّة، والاجتماعيَّة، والحقوقيَّة، والاقتصاديَّة.
وحينما يغيب (نقد الذَّات) يتضخَّم عنوان (الأنا)، ونعني بـ(الأنا) المذموم: (حبَّ الذَّات الأعمى)!
ليس مرفوضًا أنْ يُحبَّ الإنسانُ (ذاته) فَردًا كان هذا الإنسان، أم انتماءً دينيًّا، أم مذهبيًّا، أم ثقافيًّا، أم اجتماعيًّا، أم سياسيًّا.
وإنَّما المرفوض أنْ يتحوَّل حبُّ الذَّات إلى (الأنا المتعصِّب)!
إلى (الأنا الظَّالم)!
إلى (الأنا) الذي يصنعُ (التَّكبُر، والاستعلاء)!
إلى (الأنا) الَّذي يصنعُ (الظُّلم، والاستبداد)!
إلى (الأنا) الَّذي يصنعُ (حبَّ الجاهِ، والشُّهرة)!
إلى (الأنا) الذي يصنعُ (الخلافاتِ، والصِّراعات)!
إلى (الأنا) الذي يصنع الكثير من السُّلوكاتِ الخطأ، والمرفوضة!
كلمة أخيرة: رحيل آية الله العظمى السَّيِّد محمود الهاشميُّ أحد أساطين العلم والاجتهاد
لقد فقدت الطَّائفة، وفقدت الحوزات في هذا الأسبوع أحد كبار أساطين العلم والاجتهاد، وأحد أعمدة الفقاهة آية الله العظمى السَّيِّد محمود الهاشمي الشَّاهرودي (رحمه الله تعالى).
لمحة سريعة عن آية الله السَّيِّد الهاشميُّ
1-الفقيد الكبير أحد أبرز تَلامذة الشَّهيد السَّيِّد محمَّد باقر الصَّدر (رحمه الله تعالى)، وأحد أكبر المقرَّبين، والمُعْتَمَدِين لديه.
2-السَّيِّد الهاشميُّ أستاذ بارز في الحوزة، قد تخرَّج على يديه أعداد كبيرة من العلماء والفضلاء.
3-السَّيِّد الهاشميُّ قمَّة من قِمم العلم، والثَّقافة، والمعرفة.
4-السَّيِّد الهاشميُّ عطاء مستمرٌّ، قد أَثرى المرحلة بالكثير من الدِّراسات العلميَّة التَّخصُّصيَّة، والكثير من النَّتاجات الفكريَّة.
5-وكانت له قراءات اجتهاديَّة قاربت الواقع المعاصر، وعالجت إشكالاتِه على ضوء رؤى الشَّريعة الإسلاميَّة.
إنَّ رحيل هذا الفقيه الكبير، والمفكِّر البارز شكَّل خسارة فادحة!، فهو عالم عاملٌ، صادقٌ، مُخلص لدينه، ونموذج جسَّد أعلى القِيَم والمُثل، وإنسان أعطى كلَّ وجوده؛ من أجل خدمة الإسلام، وكان داعية محبَّة، وتقارب، وتسامح.
وبهذه المناسبة الأليمة نرفع العزاء إلى صاحب العصر والزَّمان (عجَّل الله فَرَجَه)، وإلى المراجع العِظام، وإلى جميع الحوزات، وإلى ذويه، وأهلِهِ، ومحبِّيه.
تغمَّد الله الفقيد الكبير بوافر الرَّحمة، والمغفرة، وأسكنه الفسيح من جنَّاته مع الأنبياء (عليهم السَّلام)، والأولياء والصَّالحين (رضي الله عنهم).
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين.